ما كان للعالم خلال القرنين الماضيين، ليتأثّر كله، أو ليقع، في قبضة حرب إلّا إذا كانت الحرب أوروبية- أمريكية، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو في الحرب الباردة التي هدّد فيها المعسكر الاشتراكي الغربَ والرأسمالية العالمية.
أمّا أن يَنشدَّ العالم كله إلى حرب غزة، أو يقع في قبضتها، وهي حرب مسرحها جزء من فلسطين (قطاع غزة)، ولأكثر من مئة يوم (والحبل ما زال على الجرار)، فأمرٌ خارجٌ على قوانين الصراع في العالم، ولا سيما تحكّم الدول الكبرى في أحداثه.
قطاع غزة، من حيث مساحته، لا يساوي ضاحية في عاصمة كبرى. أمّا في عدد سكانه، فلا يتجاوز حيًّا من أحيائها، أو قطاعًا منها. ومع ذلك، اندلعت فيه حرب مع انطلاقة “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، امتدت تداعياتها، والردّ الصهيوني- الأمريكي العالمي عليها، إلى مئة يوم متواصلة ليلًا نهارًا، وما زالت دون الوصول إلى اليوم الأخير فيها.
من يراقب الوضع العالمي، ابتداءً من الدول الكبرى، يلاحظ أن أمريكا تراجعت طوال المئة يوم عن تطبيق استراتيجيتها التي جعلت أولويتها في عهد إدارة بايدن، الصراع ضد الصين، باعتبارها المنافس الأول في الحلول مكانها، ما بين الدول الكبرى (رقم1)، وضدّ روسيا حليفة الصين، التي حشدت “الناتو” لمواجهتها عسكريًا، في الحرب الأوكرانية، طوال السنتين الماضيتين.
لقد أصبحت حرب العدوان التي يشنّها الكيان الصهيوني على غزة، بالنسبة إلى أمريكا، شغلها الشاغل سياسيًا. وإلى حدّ المشاركة في هذه الحرب ضد الشعب والمقاومة في قطاع غزة. وكذلك صارت الشغل الشاغل للدول الأوروبية مع أمريكا في الرد على “طوفان الأقصى”، إسنادًا للكيان الصهيوني الذي هُزِمَ جيشه وميليشيات مستوطنيه في غلاف غزة. وقد تداعى إلى حدّ الخوف عليه من الانهيار. علمًا أن الحرب ضدّ روسيا في أوكرانيا كانت شغلها الشاغل، ولم تزل، ولكنها تأثرت وتراجعت بسبب الانشغال في حرب غزة.
أمّا روسيا والصين، فقد أعادتا النظر في مستوى الصراع مع أمريكا من جهتهما، في محاولة للإفادة من تورط أمريكا والغرب في الحرب إلى جانب الكيان الصهيوني ضد غزة، وما أخذ يُسببه من إضعاف للموقف الأمريكي-الغربي، في مواجهة رأي عام داخلي وخارجي ضدّه، فضلًا عن عزلة دولية، وخسائر فادحة حتى في مخزون الأسلحة والذخائر. فروسيا والصين الآن أخذتا توائمان سياساتهما الدولية على ضوء إيقاع الحرب في قطاع غزة.
أمّا دول العالم، فإن سياساتها انتهت (ولو بعضها، بعد انحياز للموقف الأمريكي في بداية الحرب) إلى الوقوف ضدّ أمريكا مطالبة بوقف الحرب. وجاءت مبادرة جنوبي أفريقيا في وضع الكيان الصهيوني في قفص الاتهام أمام محكمة العدل الدولية، باعتباره مجرم حرب، ومجرم إبادة بشرية، ومنتهك للقانون الإنساني الدولي، والقوانين الدولية بعامة, وقد تعلقت أنظار العالم كله على قرارات تلك المحكمة الخاصة عمليًا بغزة.
إنّ من يشهد اليومين الأولين في المحاكمة الدولية للكيان الصهيوني (وضمنًا لأمريكا وبريطانيا وهما تعترضان عليها، كما بسبب دعمهما ومشاركتهما للكيان بتلك الجرائم)، يلمس انشداد غالبية دول العالم لحرب غزة. ويكاد القلم يؤكد: وقوعًا بقبضة غزة.
الوضع الإقليمي، وأساساً، العربي-الإسلامي، عاش، بدوره، مئة يوم مشدودًا أيضًا لقبضة غزة، ولو باختلاف في نمط الانشداد دعمًا، أو ارتباكًا خجلًا.
أمّا بالنسبة إلى الرأي العام والنخب التي تنتسب إلى أمة العرب والمسلمين، فالحرب في قطاع غزة هي حربهم إلى جانب المقاومة والشعب. أمّا الدول، فلا بدّ من أن تقسم إلى عدة أصناف، إن لم تكن كل دولة لها خصوصيتها، ولكنها عمومًا، كما عبّرت عن ذلك قمة الرياض، أخذت موقفًا يطالب بوقف الحرب، مما زاد في عزلة الكيان الصهيوني وأمريكا. ولكن القرار من ناحية فاعليته، فهو دون المستوى المطلوب، فبعض الدول مرروه عن كره، والبعض على استحياء، وكانت الدول التي أرادته أقوى، أقليّة… أقلية. ومع ذلك بقي الكل، طوال مئة يوم، في قبضة غزة، بشكل أو بآخر.
هنا لا بدّ من استثناء الدول التي تُعتبر مشاركة في الحرب، بشكل أو آخر، وعلى مستويات، وذلك من خلال المشاركة إلى جانب المقاومة والشعب في قطاع غزة. فحزب الله فتح جبهة قتالية في جنوب لبنان، وقوى مقاومة في العراق اشتبكت مع أمريكا في العراق وسورية، وصولًا إلى قصف تل أبيب. أمّا اليمن، فدخل الحرب مباشرة عبر قصف إيلات (أم الرشراش) وفتح جبهة باب المندب والبحر الأحمر، ودخل في مواجهة عسكرية مع أمريكا وبريطانيا.
وإنّ من يجب أن يسجّل، أيضًا، ومن خلال التظاهرات، ومن مرحلة مبكرة، اعتباره جزءًا مشاركًا مع غزة، إنما هو الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي، ولا سيما الرأي العام الأمريكي- الأوروبي.
لقد كان انشداد الرأي العام الأمريكي- البريطاني- الأوروبي قويًا في الوقوف ضد الكيان الصهيوني وأمريكا، بسبب الحرب ضدّ المدنيين، ولا سيما الأطفال. وقد زاد على ذلك، ما جرى من إحصاءات على مواقف الشباب من 17 إلى 30 عامًا في أمريكا وبريطانيا، إذ وصل حدّ المطالبة بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، أي تصفية الكيان الصهيوني الذي فتح ملفه باعتباره غير شرعي. طبعًا كل هذا ما كان ليحدث، لولا المئة يوم، وأكثر، من الصمود الشعبي، ومن قتال المقاومة.
هذا ما وصلت إليه غزة في تأثيرها الذي أحدث تغييرًا عامًا، على مستوى الدول والشعوب، والأجيال الشابة الصاعدة (مستقبل العالم).
وإذا جئنا إلى محاولة تفسير كيف يمكن لقطاع غزة، بصغر حجمه وقلة سكانه (أقل من مليونين ونصف) أن يوقع العالم في قبضته، أو يجعله ينشدّ إليه انشدادًا مغناطيسيًا لا مثيل له، فأمامنا تفسيران مترابطان، ليجعلا من غزة تلك المعجزة الأسطورية.
التفسير الأول، المتعلق بالكيان الصهيوني ورعاته وحلفائه الدوليين، ونفوذهم العالمي، والتفسير الثاني ما قدمته المقاومة وقيادتها وأفرادها، والشعب، من بطولات مقاومة وصمود، في مواجهة أعتى جيوش العالم في قوته التسليحية، والمشاركة الأمريكية العسكرية المباشرة، من خلال جسر جوي إمدادي في القذائف والآليات لا ينقطع. ناهيك عن النفوذ العالمي السياسي والمعنوي لكليهما: الصهيوني والأمريكي.
هذا البُعد الأخير يفسّر الانشداد العالمي للحرب في غزة، ويفسّر ما أظهرته قدرة الشعب من صمود وإيمان، والمقاومة من مواجهة، والوقوف ندًا (حتى متفوقًا) في الحرب البريّة طوال أكثر من 75 يومًا من ضمن مئة يوم، بعد “طوفان الأقصى”.
إذا كان البُعد الصهيوني، والشراكة الأمريكية، شكلا عاملين مهمين، في تفسير الانشداد العالمي، لمتابعة الحرب في قطاع غزة، أو تفسير ما تركته هذه الحرب من تغيير في سياسات واستراتيجيات الدول الكبرى، والكثير من الدول أيضًا، فإن عامل ما أبداه الشعب من صمود، واحتمال لأشدّ مجزرة حاقت بشعب محاصر، ولا منفذ له، إلّا مواجهتها واحتمال آلامها وعذاباتها وويلاتها، وعلى مدى مئة يوم، ليلاً نهاراً بلا انقطاع يذكر (أسبوع الهدنة الانسانية كان محفوفًا بالموت جوعًا وعطشًا، وحرماناً من الدواء والاستشفاء)، شكّل البُعد الأهم في انشداد العالم إلى حرب غزة، وما تركه وسيتركه من أثر عالمي. وذلك إلى جانب ما اتّسمت به المقاومة وقيادتها وما وفرتاه من ميزات هجومية-دفاعية (الأنفاق بخاصة)، وما تحقق من انتصارات عسكرية تكتيكية يوميًا، وبتفوّق قيادي عسكري وسياسي وإعلامي، وتميّز قتالي اتّسم بأعلى درجات الإيمان والشجاعة والبراعة. فكانت المحصلة الوقوف ندًا لجيش هائل التسلح والخبرة، بل ندًا متفوقًا عليه في القتال.
هذان العاملان: صمود الشعب، وتفوّق المقاومة قيادة ومقاتلًا، جعلا العالم طوال مئة يوم يتابع حرب غزة، وهو يكاد لا يصدق أن اليوم الأخير الآتي لنهاية الحرب سيكون، بإذن الله، انتصارًا للمقاومة والشعب، وعودتهما لتقرير مسار اليوم التالي، كما مسار الوضع في قطاع غزة.
من هنا، استطاعت الحرب في غزة أن تشدّ العالم إليها، بل تجعله طوال مئة يوم وأكثر أن يقع في “قبضة غزة”. الأمر الذي لا مثيل له في غير الحربين العالميتين الأولى والثانية. ويكفي أن نقارن بين حرب فيتنام التي بقيت محصورة التأثير العالمي، عدا أثرها المهم في حركات التحرّر الوطني، والانتصار على أمريكا.
فسلام عليك يا غزة، وما فعلت في مئة يوم، وما ستفعلين في ما يلي من أيام.