حين نجحت عمليّة “طوفان الأقصى” وزلزل كيان الاحتلال، ردّ الأخير بما يعرفه وتمرّس عليه؛ مجازر هنا وهناك. قتلَ المئات يوميًا حتّى خاف الناس على الناس طولَ الوقت والتعوّد. وبقدر الدماء المتدفقة من شريان غزة، فزعَ العالم، على الرغم من ضآلة ما يصل إليه من أخبار. انتفض ملايين البشر في الشوارع ودخلوا أماكن لم تطأها أقدامٌ مناصرة لفلسطين. كان ردّ فعل الشعوب – خصوصاً الغربية – غير متوقع لأصدق المتفائلين، لكن تلك التحركات لم تكن لتوقف سهماً قد انطلق. حجم العدوان على غزة وصل إلى الذروة منذ أول يوم، فأدرك الجميع أن لا سقف لما سيحدث بعد ذلك. لذا، لم يكن غريبًا رفع سقف المطالب “الرسمية” بالقضاء على “حماس”، بل على العكس، أثار الدعم الغربي- غير المحدود – شهية الإسرائيلي في جعلها معركة واحدة حاسمة فاصلة، يضمن فيها الغرب أن تكون يد “إسرائيل” الطولى فيها. فما كان ينقُص الإسرائيلي شيئ ليصرِّح عن نواياه بوضع “حلٍّ نهائيٍّ ” للمقاومة الفلسطينيَّة بالقتل و”حل نِهائيٍّ ” للفلسطينيِّين بالتَّهجير. ومن الواضح أنَّ ما سُمِّي “الحل النهائي” هو إِبادة جماعية.
للمصادفة، صاغ المحامي البولندي اليهودي المنفي رافائيل ليمكين، مصطلح “الإبادة الجماعية”، الذي تحاكم به “إسرائيل” في لاهاي، أثناء حدوث “المحرقة” النازية. تمّ الاتفاق بالمثل على اتفاقية الإبادة الجماعيّة لعام 1948 من قبل الأمم المتحدة، في ظلّ الإبادة الجماعيّة الأخيرة لليهود. ولكن، في الوقت نفسه، فهم كل من ليمكين والدول الأعضاء التي وافقت على الاتفاقية أنّ المحرقة هي مجرد “حالة واحدة فريدة”، وحتّى إن كانت متطرفة. وظهر ميل غربي إلى النظر إلى المحرقة على أنها مؤامرة مُنظمة جيداً، أَدَّت فيها معاداة الساميّة إلى النازيّة، ومارست النازية الإبادة الجماعية، وتمّ تدمير كليهما في نهاية “سعيدة”. ذلك الميل المشترك لتوليد الرضى عن عالم جديد في طور النُشوء، حجبَ حقيقة مُفادها أن العالم الذي نعيش فيه هو نفسه الذي أنتج (ويواصل إنتاج) الإبادة الجماعية، وأن القصد من الاتفاقية كان منع تكرار الإبادة الجماعية، وهو ما لم يحدث. وكان من الطبيعي أن تطرح المجازر في غزة أسئلة جادة حول الإنسانيّة والحرية والديمقراطية تحت هذا النظام الدولي وقوانينه، ولا تكتفي بالشكوى من فشل النظام الدولي في منع والوقاية من تكرار الإبادة دائماً.
لذا، لم يكن غريباً أن يدشن رونالد لامولا، وزير العدل في جنوب أفريقيا ومُمثل بلاده في مُحاكمة الاحتلال الإسرائيلي في لاهاي، مرافعته بأنّ “سمعة القانون الدولي في حد ذاته على المحك”. وبقدر ما تحمله الكلمات من نفاد صبر من الغطرسة الغربية، حملت تساؤلًا يراود غالبية دول العالم، إلى داخل المؤسسات التي أنشأها الغرب كمنبر لعولمة العدالة والحرية. تلك الأسئلة مفادها: هل مبادئ حقوق الإنسان هذه حقيقية، أم أنها مجرد مسرحية تُقام لخدمة نظام طبقي دولي؟ ودفع اختيار جنوب أفريقيا للمسلك الرسمي لمقاضاة الاحتلال، الغربَ لإطلاق النار على أقدامه، ووضعت الدول الغربية وجهًا لوجه مع الأمين العام والمؤسسات ومنظمات التي أنشأتها، وأثبت للجميع أن بعض الدول غير قابلة للإدانة رغم إجرامها الواضح. تلك المواجهة قوضت سلطة الأنظمة الغربية الأخلاقية، أثناء مُحاولاته المستميتة في الذود عن الكيان ضد تهمة الإبادة الجماعية. فقدت السلطة التي جعلتهم أوصياء على السياسية الخارجية العالمية، وتحولت القضية المنظورة أمام محكمة العدل الدولية رمزًا لمواجهة أوسع؛ مواجهة عالمية في واقع الأمر. فالاستياء العالمي من الهيمنة الغربية ومصالحها، التي تخدم القلة وتتوقع أن يلتزم البقية بالصمت، وصل إلى مرحلة الصدام.
ليست “الازدواجية” هي الكلمة الأنسب هنا، فالغرب ليس طرفًا محايدًا بأيّ شكل من الأشكال، هو بالفعل منخرط عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا في هذه الجريمة
الصدام يعبّر عن رياح جيوسياسية مُغايرة، ترفض فيها الدول الأفريقية إدانة روسيا في مجلس الأمن، وتذهب جنوب أفريقيا بكل ماضيها الموحش مع الاستعمار والفوقية الغربية لمحاكمة الكيان الاستعماري في فلسطين، وتتجرأ ناميبيا، المستعمرة الألمانية القديمة، وتدعم جنوب أفريقيا وترفض دعم ألمانيا لـ”إسرائيل” في المحكمة. وكما هو متوقّع – على الأقل لدى الدول ذات الشأن – من المحكمة، لم يأت القرار بما هو جديد أو على قدر التضحيات الفلسطينية والإجرام الإسرائيلي، واكتفت في قرارها بإرشاد الاحتلال للطرق المُثلى للقتل. وبقي السؤال الأهم عالقًا – على الأقل لدى من يزال مؤمن بالقوانين الدولية – لماذا هنالك صعوبة في إدانة “إسرائيل” بالإبادة الجماعية رغم كل شيء؟
بُنيت إسرائيل حول فكرة “لن تتكرّر أبدًا” و”لن ننسى أبدًا”. والحرب التي طردت فيها الغالبية العظمى من السكان الفلسطينيين العرب في فلسطين من أراضي ما أصبح “دولة إسرائيل”، تمّ إضفاء الشرعية عليها من خلال هذه الشعارات ذاتها: فقط من خلال إنشاء دولة يهودية ذات أغلبية مستقلة سيتم منع محرقة أخرى، وأيّ اعتراضات على الطريقة التي تمّ بها تحقيق هذا الهدف، تم تنحيتها جانبًا من خلال الذاكرة الساحقة – التي لا يمكن نسيانها أبدًا – للإبادة الجماعية لليهود. وفي الوقت نفسه تقريبًا، إذا جاز التعبير، يتم شطب ذكرى النكبة، وطرد الغالبية العظمى من الفلسطينيين مما أصبح “دولة إسرائيل” في عام 1948.
ولأنه لا يمكن للمرء أن يتحدث عن مصير اليهود ومصير العرب في الوقت نفسه، أي ذكر للنكبة أو المجازر الإسرائيلية الممتدة تاريخيًا وجغرافيًا، يثير ردًا غربيًا تلقائيًا معتمدًا رسميًا، هو: “كيف يمكنك المقارنة بين تلك المجازر وبين المحرقة؟”. تلك المنافسة بين المحرقة والنكبة وغيرها من الجرائم الإسرائيلية، هي أحد أسباب رفض المحرقة التراجع إلى الماضي التاريخي مثل معظم الأحداث الأخرى. ففي قرن أنتج حروبًا ومجازر وإبادة جماعية أكثر من كل التواريخ المدونة، أصبحت هنالك “منافسة شرسة للضحية”، حيث تم تحويل الإيذاء في الماضي إلى نقطة مرجعية مركزية لتأكيدات الهوية ومطالبات الاسترداد. وأصبح ينظر إلى المحرقة على أنها أداة قياس لجميع حالات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية الأخرى.
هذا “التفرد” الذي لبسته “المحرقة” دون باقي الجرائم الأخرى المرتكبة في حق الإنسانية، نابع، في الواقع، من وجهة نظر غربية ترى أن الإبادة الجماعية الأوروبية تختلف اختلافًا جوهريًا عن الإبادة الجماعية الأخرى. لعبت التحيزات والعنصرية الغربية دورًا في التصورات المختلفة للأوروبيين للجرائم المرتكبة في المستعمرات وفي أوروبا، كما لعب الشعور الغربي بالتفوق الفطري والمفاهيم المتأصلة بعمق حول الفساد والتخلف والميل العنيف لغير الغربيين. ما يفسر صدمة الأوربيين من الحرب العالمية الأولى، حيث ذبح الرجال البيض رجالًا بيضًا آخرين، أكثر من الحروب الاستعمارية، حيث ذبح الرجال البيض غير البيض. ونظرًا لأن القتل المتسلسل للأوروبيين من قبل بعضهم البعض كان أكثر صدمة لهم من قتل غير الأوروبيين، فإن الإبادة الجماعية لليهود في أوروبا من قبل دولة أوروبية متحضرة متصورة بطريقة حديثة وبيروقراطية وصناعية كانت صادمة أيضًا. هذا الرأي ينشأ في نوع الخطاب الإنساني الذي كان في جذور التوسع الاستعماري والإخضاع والإبادة الجماعية، ولا يزال يعمل في عالم ما بعد الاستعمار من خلال إنزال الإبادة الجماعية الماضية والحالية إلى موقف ثانوي بجانب “المحرقة”. وهو ما تستغله “إسرائيل” لتبرير سياسات الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، وحماية “وجودها”.
في الواقع، بالنسبة لدولة “إسرائيل”، لا توجد “المحرقة” فقط كحدث سابق يجب عدم إنكار ذاكرته أو محوها أبدًا ولكن أيضًا كأقوى أداة في ترسانتها في السعي المستمر لإضفاء الشرعية على وجودها وسياساتها. قبل أن يجلس الزائرون من كبار الشخصيات مع المسؤولين الإسرائيليين للتفاوض، وقبل أن يثيروا أسئلة حساسة حول المستوطنات والاحتلال ومعاملة الفلسطينيين، عليهم، أولًا، حضور “ياد فاشيم” في القدس – مركز إحياء ذكرى المحرقة. هناك يتم تذكيرهم، بقوة لا لبس فيها، بأنّ الشعب اليهودي بأكمله، الذي تعلن “إسرائيل” مسؤوليتها عنه بغض النظر عن مكان إقامته، لن يصبح هدفًا للإبادة الجماعية مرة أخرى ويجب ألا يصبح أبدًا. كما يتم إخبارهم بعبارات لا لبس فيها أن جميع دول العالم يجب أن تلتزم بالدفاع عن “إسرائيل” وقوتها بسبب الذنب الذي يتحمّلونه للتخلي عن اليهود في الحرب العالمية الثانية. ولا تزال حتّى اليوم المحرقة تُدرس في أقسام الدراسات اليهودية بدلًا من كونها عنصرًا في التاريخ الأوروبي، هذا الاستبعاد للمحرقة من تاريخ أوروبا موجود أيضًا في معظم الجامعات الأوروبية والأميركية، وينعكس بالمثل في الدراسات التاريخية.
يتضح هذا الميل على أرض الواقع، حين تشن الإدارة الألمانية، عبر المستشار الألماني أولاف شولتز، هجومًا شرسًا على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بعد أن أجرى مقارنة مع الوضع الحالي في الأراضي الفلسطينية، متهمًا “إسرائيل” بارتكاب “50 مذبحة، 50 هولوكوست” ضد الفلسطينيين منذ عام 1947. خرج بعدها شولتز ليقول إنّه “بالنسبة لنا نحن الألمان على وجه الخصوص، فإن أيّ محاولة لإضفاء الطابع النسبي على تفرد المحرقة أمر غير محتمل وغير مقبول، وأنا أدين أيّ محاولة لإنكار جرائم الهولوكوست”، وتابع: “أنا مستاء وأشعر بالاشمئزاز إزاء التصريحات المشينة التي أدلى بها الرئيس الفلسطيني”. وعلّق المتحدث باسم شولتز بأن “الاضطهاد والقتل الممنهج لستة ملايين يهودي أوروبي جريمة لا مثيل لها ضد الإنسانية”. وحين أطلّ مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوربي، جوزيب بوريل، في حوار تلفزيوني مع “الجزيرة”، وسُئل: هل ما قام به كيان الاحتلال في غزة يُعّد “جرائم الحرب\جرائم ضد الإنسانية” كان الرد “لست محاميًا”، ومن أجل إثبات ذلك “يجب العودة للقوانين الأممية”، لكنه وبيقين الواثق يقول إنّ ما قامت به “حماس” يُعد جريمة حرب! وحين ألحّ السائل عليه مرة أخرى بالسؤال ذاته، كان الرد “إسرائيل تُدافع عن وجودها”، فما كان لدى المحاور رد مناسب سوى قول: “لهذا يتهمكم العالم بازدواجية المعايير”.
واقعيًا، ليست “الازدواجية” هي الكلمة الأنسب هنا، فالغرب ليس طرفًا محايدًا بأيّ شكل من الأشكال، هو بالفعل منخرط عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا في هذه الجريمة، التي يظن أنها “تُؤلم القلب” كما وصفها وزير الخارجية الأميركي في عمان، لكنها في الوقت ذاته لا ترتقي لما قامت به “حماس”! والأمور دائمًا بالنسبة للغرب واضحة في ما يخص “إسرائيل”؛ لا يمكن إدانة ضحايا الظلم بارتكاب جرائم، ولا يمكن إلقاء اللوم على ضحايا النسيان، أولئك الذين تعهدوا بعدم النسيان أبدًا والتذكر دائماً، بالمحو.