إن زمن نهاية الصهيونية قد بدأ
(أبوعبيدة)
فلسطين مجال الفكر والممارسة
(الدكتور فتحي الشقاقي)
رغم مرور أكثر من قرن على المشروع الصهيوني في الوطن العربي، إلا أننا، ولأسباب ذاتية وموضوعية، لم نحوّل مسار التجربة والخطأ والتحولات في الصراع مع هذا العدو إلى نظرية ومنهجية منظّمة وموحّدة. من الصحيح أن لدينا مجموعة من الشعارات والسياسات العابرة للمراحل والساحات، طورتها النظرية السياسية العربية، من العلاقة العضوية بين المشروع الصهيوني والإمبريالية الأوروبية ومن ثم الأمريكية، ومركزية القضية، إلى وجودية الصراع مع الاستعمار الصهيوني. وإنّ جولة في الأدبيات السياسية العربية، والفلسطينية تحديدًا، المغمورة والمعروفة، الباحثة في الصهيونية، تكشف أننا تمكنا خلال السبعين عامًا الماضية من توليد معرفة لا يستهان بها بالمشروع الصهيوني، ومن النافل القول أننا فهمناه بشكل كبير، حتى قررنا، أو قررت النخبة الفلسطينية والعربية، التوقف عن هذا الفهم، وخوض غمار مسار نقيض للمحصلة المعرفية السابقة، التي تجيب على أهم سؤال مركزي: من هو العدو وكيف نواجهه؟
ولأن النظريات المعرفية ليست جامدة بل هي وليدة الظروف التاريخية والمادية، فقد انعكست الظروف السياسية العربية على نظريتنا في محاربة الصهيونية، إلى درجة نقض النظرية نفسها. لكننا اليوم في ظرف تاريخي آخر تمامًا، فقد أوجبت عملية طوفان الأقصى ومآلاتها وآلية عمل كل الفاعلين السياسيين في المنطقة من هم مع المقاومة ومن هم خصومها وأعداؤها، إعادة الانخراط في سؤال النظرية من جديد، ولكن بشكل مختلف، يرتقي أولًا لمستوى المرحلة، من حيث يتجاوز مسألة تصدير وتقديم السرديات والنظريات السياسية القديمة واستحضارها حاليًا. وكما كتب جوزيف سماحة في التسعينيات، أننا ومن الناحية النظرية “لقد كنا إجمالًا على حق”، وأن ما حدث حينها هو تخلٍ عن مسلمات وبديهيات قد فهمناها. إلا أنه وفي العقدين الأخيرين أيضًا شهدنا نوعًا جامدًا من الإحيائية لتلك التنظيرات بشكل معلّب، والتي، كما كثير من خطابنا السياسي اليوم، أمست صراعًا مفرغًا لتيارات عربية في ما بينها حول الفكرة والسردية التاريخية، أكثر مما هي مقاربة نظرية متجددة لواقع صراع متجدد ومتغير.
والأهم، هو تدهور مركزية الصراع مع الصهيونية حتى في الوجدان، حيث طغت على دور فلسطين كمجال للفكر والتنظير والممارسة نطاقات ومساحات أخرى، حتى للمنخرطين في الصدام المباشر مع البنية العسكرية الصهيونية في داخل فلسطين وخارجها. لقد أنتجت الحروب الداخلية العربية في العقدين الأخيرين نطاقات سياسية منفصلة وطنية ومذهبية، ولّدت خصومات سمت من ناحية التصورات للآخر والذات على الوجود الاستعماري الصهيوني، بل أمسى حتى استهداف الصهاينة وهوية من استهدف أو استشهد مجالًا لتصفية حسابات بين العرب وتسجيلًا للنقاط. وبتعبير سماحة، فإن هذه العملية من فرط الاستخدام للاعتبارات القُطرية وما دون القطرية شوّهت طبيعة مواجهة الصهيونية.
ولعل صلب المسألة هنا هو العاطفة، حيث أن معركة لا تكره فيها عدوك بما فيه الكفاية هي معركة لن تنتصر فيها، وإن وجدت نفسك تستفز وتكره نظيرك العربي الخصم، أكثر من أن يثار دمك بمجرد أن ترى ذلك المستوطن تطأ قدمه أرض فلسطين، فأنت تخوض، ولو عاطفيًا، صراعًا آخر وليس ضد الصهاينة، فكراهية الصهاينة فوق كل كره هو أصل في الصراع. بل إن الإجابة الوافية والمختصرة عن ريادية نموذج اليمن من ناحية الخطاب والممارسة، هو أن الشعب اليمني بكل مشاربه يكره الصهاينة أكثر من أي شيء آخر. إن ما يجب علينا الوصول له من ناحية المقاربة العاطفية لصراعنا ضد الصهيونية هو أن يحتار كل فرد منا في الإجابة على السؤال التالي: هل يا ترى أنا أحب فلسطين أكثر من كرهي للصهاينة، أم أن كرهي للصهاينة أكثر من حبي لفلسطين، وليس غير الحيرة في الإجابة على هذه المعضلة هو الصواب، ولذلك فإن هذه الحالة العاطفية هي المدخل السليم للانخراط في سؤال النظرية السياسية.
لدينا أكثر من مئة يوم منذ السابع من أكتوبر، وأنا أجادل أنه وعبر قراءة المئة يوم هذه، يتسنى لنا رؤية إرهاصات المئة عام الماضية في التاريخ العربي بكل مجالاتها وأسئلتها، فقد اهتز كل شيء ووضع موضع الاختبار؛ من سؤال الهوية والأيديولوجيا والطبقية والطوائفية والحدود والعواطف والسرديات التاريخية والخطاب السياسي. هذا على السياق العربي، أمّا على السياق الصهيوني-الإمبريالي، فقد اهتزت كل من البنيتين الأيديولوجية والعسكرية للصهيونية بشكل غير مسبوق، وتكشف التهافت التاريخي لهذه التجربة الاجتماعية القائمة على نقض بديهيات المنطق. وهذا ما يجعل الانخراط في النظرية السياسية والمنهجية في محاربة الصهيونية اليوم واجبًا وفرصة، فكل ما حدث في المئة يوم هذه، والمحرّك لها، هي تلك الضربة القاسمة للبنية العسكرية الصهيونية صباح ذلك السبت، أي أن كل هذه الإرهاصات التي نشهدها ابتدأت، وما كانت لتكون، لولا العمل العسكري والعنف المباشر ضد بنية الصهيونية وجيشها.
وعبر قراءة المئة يوم هذه، يتسنى لنا رؤية إرهاصات المئة عام الماضية في التاريخ العربي بكل مجالاتها وأسئلتها، فقد اهتز كل شيء ووضع موضع الاختبار
إن حربنا ضد الصهيونية هي حرب مركبة، ومتعددة مسارح العمليات، تتكامل مع بعضها، ولكن تتمايز في التراتبية من حيث الأهمية والأولوية. إلا أن ما يميزها عن باقي المشاريع الاستعمارية البريطانية والفرنسية والأمريكية، هي أن لهذه المشاريع دولًا وجغرافيا تشكّل المركز لكل مشروع. ففي الحالة الجزائرية دائمًا ما كان هنالك علاقة معقدة، تتناقض تارة وتتعاضد تارة أخرى، بين الداخل الفرنسي وسلطة باريس وسياستها وسلطة المستوطنين في الجزائر، بينما في الحالة الصهيونية فهنالك المستعمرة “إسرائيل” وسياستها الداخلية، وهنالك في الخارج حالة سائلة لفكرة وأيديولوجية الصهيونية، وثقلها في أوروبا، وتحديدًا في الولايات المتحدة، وهذا التشخيص أيضًا ليس جديدًا بالكلّية بل وصلنا إليه من قبل. تكمن المسألة في أننا أوصلنا المشروع الصهيوني في مئة يوم، داخل المستعمرة وكذلك الصهيونية في العالم، أي كأيديولوجيا وفكرة، إلى أسوأ مراحلها التاريخية منذ مئة عام. وذلك عبر فرض المقاومة على الأرض حسمًا لمنهجية العمل، بأن الأولوية تكمن للعمل المسلح على مسرح عمليات أرض فلسطين، أي الضرب المباشر للبنية المستعمرة المادية وتحديدًا التنكيل بالجيش. فالمقاومة الفلسطينية سددت ضربة قاسمة في السابع من أكتوبر ومن ثم ألحقتها بأخرى تمثلت في الصمود واستنزاف الجيش وقتل وإصابة أكبر قدر ممكن منهم، وهذا له مفاعيل كبرى على مجتمع المستوطنين الذي ألف السلم والرفاه، ومن ثم وفجأة ارتفع منسوب العنف إلى درجات لها ارتدادات جمة على طبيعة هذا المجتمع، خصوصًا تبعات الانخراط الكبير لجنود الاحتياط، عطفًا على الارتدادات السياسية وتفجير التناقضات الداخلية. ففي الأخير، ما قمنا به، سواء في جبهة الشمال أو في الجنوب، هو أكثر نقيض موضوعي، وإن كان طريًّا، وهو نفض الإحلال السكاني عبر إزاحة جغرافية للمستوطنين من الأرض المحتلة.
الأمر الآخر الذي يتبع وينتج عن ذلك، هو ارتدادات الجنون الصهيوني على المسرح العالمي. وتجب الإشارة هنا إلى أنه من الممكن مقاربة كل التجارب الناجحة في التحرر من الاستعمار على أنها نجاح حركة التحرر في تسديد ضربة دقيقة لذهنية المستعمِر بأنه يعيش ضمن تفوق مادي وتكنولوجي وعسكري وثقافي يعصمه من أي ضرر، منذ الأسوار التي بنيت حول الكيبوتسات في القرن الماضي إلى التكنولوجيا الفائقة اليوم. فمهما تطورت التجارب الاستعمارية من ناحية التكنولوجيا، من البارود إلى الحاسوب، فإن بنيتها الذهنية هي ذاتها، وضرب هذه البنية يساوي الجنون والجنون يؤدي إلى تخبط بآثار استراتيجية تؤول إلى فشل المشروع.
من جهة أخرى، إن أحد أبرز قراءات حربنا ضد الصهيونية هو أننا في حرب مع محاولة الأوروبيين استغلال فائض القوة التي تراكمت خلال 400 عام، وظنوا عبرها أن بإمكانهم تمرير وتطبيع أي منطق أو مفهوم مهما كان متهافتًا، وذلك عبر احتكار القوتين المادية العسكرية والأيديولوجية. ولعل أفضل مدخل لتشريح هذه البنية المتهافتة والمتناقضة، هي أن هذه التجربة الاستعمارية الاستيطانية قائمة على شرعية وسردية شعب يتحرر ويختار مصيره بيده، أي محاولة التوفيق بين نقيضين: الاحتلال والتحرر. لاحظ الباحث الفلسطيني ناجي علوش هذه المغالطة منذ زمن، مشيرًا إلى أن تزامن فترة قيام الدولة الصهيونية مع فترة حركات التحرر الوطني والتحرر من الاستعمار، قد استغلت لتسلل الصهيونية لإلحاق نفسها ضمن هذه الموجة (الأساطير والوقائع الصهيونية والأمة العربية، 1998). من هنا نرى أن هذه الحركة الاستعمارية تحتفل بيوم استقلالها، دون أن يتجرأ أحد ويسأل استقلال مِن مَن؟ التناقض الفاضح الآخر المتصل هنا، هو أوروبية المستوطنين، فنحن نتحدث عن خارج أوروبا، وفي منطقة عربية، وهنالك كتلة سكانية بيضاء تدعي أنها تنتمي جغرافيًا واجتماعيًا لها، رغم ذلك يصوّر الانتماء واستحقاق المكان عبر سردية دينية نقيضة للأنثروبولوجيا الاجتماعية والتاريخ معًا؛ بمعنى أن تشكيل هؤلاء الأوروبيين اليهود، أو حتى غيرهم، امتدادًا ونسلًا ووحدة اجتماعية لسردية اليهود قبل آلاف السنين، هي مغالطة علمية، وهذا ما بينه الباحث المصري المرحوم جمال حمدان في كتابه “اليهود أنثروبوجيًا” (1967)، وهذا ما يصلنا مع أحد أفضح التناقضات وهي أن هذا المشروع القائم على سردية دينية مشروع يقدّم مشروعًا علمانيًا حداثيًا، ويتبنى التعريف الحداثي والعلماني لـ”الأمة”، عبر تقديم ديانة على أنها شعب وعده الله بالأرض وجعله مختارًا ليؤسس دولة علمانية وديمقراطية. المسار المتهافت الآخر الذي تقوم عليه الصهيونية، هو سردية أن “الشعب اليهودي” ضحية الإبادة، والقائم بالأصل على احتكار أن مفهوم الابادة معني فقط بالمجتمعات البيضاء، وأن أصل المفهوم والتنظير القانوني والاجتماعي له، وكل مساق دراسات الإبادة، منبثقة عن إبادة الأوروبيين لبعضهم البعض إبان النازية واستهداف الأوروبيين اليهود.
إنّ هذا التهافت ليس بواضح للعيان، بل لعل حقل الدراسات الإسرائيلية والصهيونية في الأكاديميا الغربية، أكثر الشواهد عليه، حيث يقوم الحقل على هذه الأسس غير المنطقية والمتناقضة، بينما يستمع الطلاب والباحثون بصمت لها، دون المقدرة على مواجهتها الصريحة رهبة من الاتهام بمعاداة السامية أو نكران المظلومية اليهودية، وعليه القمع والطرد. إنّ قصتنا مع الصهيونية هي أشبه بإحدى حكايات التراث الدنماركي، حول ملك يحب الأزياء، ويحب استعراضها لشعبه، وحتى حينما خرج الملك عاريًا للحشود ظلت الحشود تصفق لجمال زي الملك العاري أصلًا، حتى صرخ أحد الأطفال بالأمر الواضح أمامه “الملك عارٍ”. هذه القصة تحديدًا هي ما جال في خاطري حين أنهى أحد الدكاترة في الجامعة شهرين من مادة استفاض فيها في شرح تاريخ الصهيونية بفخر بدون إنكار أنها تمثل امتدادًا للتجارب الاستعمارية الأوروبية، ومن ثم كانت الكلمة الختامية، بأنه يتمنى أن تكون هذه التجربة اليهودية ملهمة للبشرية خصوصًا مع الخطر المحدق للتغير المناخي القادم، وليصفق على ذلك الجميع في الصف، دون النجاح التام في إخفاء الاستغراب من بلاهة ما يقوله الرجل.
وأيضًا، ومن نظريتنا السياسية العربية، كان لكل حزمة التناقض والتهافت مقاربة صائبة وناجعة واحدة، أننا حركة تحرر نحارب مشروعًا استعماريًا. بتعبير آخر، الثنائية هي مستعمِر ومستعَمر وهذا ما ينطلق منه ويبنى عليه، وأن لا ننجر إلى نقاش سفسطائي عن الدين والتاريخ الإنجيلي والتاريخ الأوروبي وما سواه. إن أهم المآلات لهذه المئة يوم، هي الثورية في الحجم والنطاق للعودة للتعريف الاستعماري للصراع، وهي عودة كانت تشهد صعودًا بطيئًا، إلا أن “طوافان الأقصى” ركزتها ومأسستها، عبر تبني حركة المقاومة “حماس”، بجناحيها السياسي والعسكري، لنموذج حركة التحرر الوطني، الذي وضع خطاب الحركة الإرهابية الغربي في مأزق، وكذلك، تصريح أبو عبيدة بأننا امتداد لفيتنام والجزائر ولبنان.
رغم الحاجة الماسة للنقد الذاتي والذهاب به بعيدًا بعيدًا، إلا أن الأولوية اليوم هي للعناد الاستراتيجي، للاستنهاض، والتحريض، بعد أكثر من مئة يوم من السابع من أكتوبر
مكنتنا هذه العودة للتعريف الاستعماري للصراع، من القول، وبراحة، أننا نحقق، على المسرح العالمي، تقدّمًا مبهرًا وغير مسبوق. يقول توماس فريدمان، وهو ليس بمحلل بل بالنسبة لنا هو مجرد فأر تجارب في مختبر نضالنا نراقب ردات فعله، بأن الوضع مأساوي لـ”إسرائيل” حيث أن السردية الاستعمارية تعود بقوة، حتى أننا -أي الصهاينة- خسرنا الفذلكة التاريخية لنفي استعمارية الأراضي المحتلة عام 48، وحصرها من أكثر الراديكاليين في أراض 67. وكلامه صحيح، فحتى الليبراليين العرب في الجناح الذي ينظّر له الدكتور عزمي بشارة حول تقسيم الوضع في فلسطين كـ”حالة استعمارية غير محلولة – أبرتهايد” قد سقط. وهو ما يدخل الصهيونية في أزمة حتى في الحرم الجامعية في الولايات المتحدة والغرب، وهذه الأزمة عميقة وأساسية في صراعنا، ولا يجب التقليل منها. يقول جاريد كوشنير أن “اليهودي” يشعر بالأمن في السعودية أكثر من حرم جامعة كولومبيا، وهذا صحيح نسبيًا، فالملك العاري يتربع على عرش المملكة العربية السعودية. ومن هنا أيضًا تندرج أهمية مرافعة جنوب أفريقيا، حيث أن قلب قانون الإبادة المنبثق أصلًا من أساس إبادة الأوروبيين اليهود، الذين استغلت الصهيونية، لتكون الإبادة فعلًا صهيونيًا – وهذا ما يضرب عصفورين في حجر، وهو ما وضع الصهيونية على المسرح العالمي، وحتى داخل المستعمرة، بشكل جعل نتنياهو يخاطب مجتمع المستوطنين بالعبرية حول أثر المحكمة، لأنه لم يهتم بالأثر العالمي بقدر تحصين التماسك الأيديولوجي للسردية الصهيونية لمجتمع المستوطنين. يخبرنا أنطونيو غرامشي بأن طريقة هزيمة الطبقة الحاكمة ليست عملية قضاء حاسمة، بل تكون عبر إشعال تناقضاتها الداخلية، “يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين” بالتعبير القرآني، وقد نجحت “طوفان الأقصى” في لعب هذا الدور بشكل ثوري وغير مسبوق منذ مئة عام على المسرح العالمي.
نصل أخيرًا إلى المسرح العربي، الذي يعاني في ذاته من حالة مركبة إن أردنا تقييمه، والمسألة تتعلق بحجم المأمول والمعمول. فمن ناحية نحن، ولأول مرة منذ عقود، نشهد اختلاط الدم العربي والإسلامي ضد الصهيونية بهذا الشّكل، فقد استشهد السوري والعراقي واللبناني واليمني والإيراني، بل وحتى التركي. وكذلك، وصلنا إلى حالة اشتباك واسعة على طول المنطقة بشكل غير مسبوق، أيضًا، حيث استهدف كيان العدو من لبنان والعراق واليمن وسوريا لأول مرة في تاريخ الصراع. لكن، لا يمكن لأي عاقل اعتبار أن هذا التطوّر يرتقي لمستوى المرحلة. وحذار من الوقوع في شرك المزايدات البينية العربية كنوع من رفع حجم المسؤولية عن عربي قياسًا بنسبتها لحجم فعل عربي آخر. فالمعيار هنا، وبما أننا في صراع مع الصهيونية، هو إيلامها وكف ضررها عن الشعب الفلسطيني.
إن ما نشهده اليوم على المسرح العربي، هو أسوأ وضع عربي في مقابل الإبادة من ناحية نجاح رأس المال الخليجي، بجناحيه القطري والسعودي-الإماراتي، في نزع شريحة واسعة من العرب عن الصراع وإدخالهم فقاعة موازية، وفي الوقت نفسه نحن في أفضل وضع عربي، وبشكل نسبي، في المشاركة في الصراع، ولكن حجم السوء يتجاوز حجم تطور وضع المسرح العربي إيجابًا. وهذا ما يستدعي أن يتجاوز عملنا ضد الصهيونية حجم خدمة المطبعين العرب لها، وهذا هو مقياس الحرب ضد الصهاينة.
نظريًا، من الممكن الاستخلاص من تجربة مئة عام من الصراع العربي-الصهيوني، أننا كعرب في صراع مع الحدود الوطنية كفكرة، فمنذ انسحاب القوات العراقية من على تخوم حيفا إلى تطبيع دول الخليج مرورًا بكامب ديفيد، بإمكاننا بناء مفهوم نظري طريّ للمسرح العربي ينقسم إلى طبقتين متداخلتين:
الاعتبار الوطني والمصلحة الوطنية.
ولعل المثال النموذجي على هاتين الطبقتين وتداخلهما هو كيف أنتج احتلال سيناء عام 67 اعتبارًا وطنيًا مصريًا للصراع مع المشروع الصهيوني ضد العرب، والذي تدهور بشكل فظيع إلى تعريف الصراع على المصلحة الوطنية المصرية، وكذلك حقل سياسي منعزل تحت إطار الهوية المصرية أنتج طبقة كامب ديفيد. وكذلك الجولان بالنسبة لسورية، كاعتبار سوري للصراع مع “إسرائيل”، وأن عودة الجولان تفتح الباب للتطبيع، وصولًا إلى الإفراط في الاعتبار اللبناني لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا. لربما كان يقال في باب محاولة ترميم قومية وعربية الصراع، أن المصالح الوطنية لكل بلد عربي تتقاطع مع المصلحة القومية والفلسطينية، وأن قتال الصهيونية مصلحة وطنية أردنية وسورية ومصرية ولبنانية…إلخ، لكننا اليوم في مرحلة وفي حجم دموية ودمار للصراع تستوجب تجاوز هذا الطرح وتوهين مسألة الحدود السياسية والذهنية والثورة عليها، والاستقاء المباشر للشرعية من الحرب ذاتها وعنوانها العربي وللأمة كمفهوم، كاعتبار ومصلحة تسمو على غيرها.
في هذه المئة يوم قدّم لنا قائد حركة “أنصار الله” اليمنية السيد عبدالملك الحوثي في خطبه الخمسة مثالًا نموذجيًا على كيفية العمل في المسرح العربي، وما هو الشكل المطلوب من كل بلد عربي تجاه فلسطين والإبادة وتجاه أنفسنا كأمة. يخاطب الحوثي اليمنيين كجزء من كل، ويخاطب جمهوره ويحاجج على وحدة الوجود والمصير مع الفلسطينيين والعرب والأمة، متجاوزًا مسألة تقاطع الاعتبارات الوطنية، ومؤسسًا لاعتبار واحد للصراع ضد العدو الصهيوني، وعبر ذلك يعيد صناعة مفهوم الأمة العربي المترهل منذ عقود. وقد نجحت هذه اللغة الخطابية في هدم كل الانقسامات العربية الوطنية والمذهبية العميقة بشكل لم يكن يتصوّر وفي مجرّد مئة يوم. وانعكس كل هذا على ريادية اليمن على كل أصعدة الصراع، من النزول للشارع، إلى الإعلام والإنتاج الفني التحشيدي، والعمل العسكري الفعّال إلى أقصى حدوده، وصولًا حتى إلى مخاطبته للجالية اليمنية في الغرب وأمريكا أن تقوم بدورها في المسرح العالمي للصراع، في نموذج شامل لآلية عمل المسرح العربي ضد الصهيونية علينا الاقتداء به والبناء عليه، لا الاحتفاء به فقط، وبأن يكون كل بلد عربي يمنًا.
لم تكن المئة يوم هذه سهلة، وهي حبلى بالتضحيات، والوضع الإنساني في قطاع غزة مأساوي، وحفلة تسجيل النقاط العربية-العربية، وصراعات جني الرصيد لهذا الطرف أو ذاك لاعتبارات ضيقة، تنهكُ ذواتنا الأخلاقية وتدخلنا في حالة من التساؤل عن ما هو الفعل الأخلاقي والصائب في هذه المرحلة، المنطلق من واجب واحد، وهو الانتصار على “إسرائيل” لا محاربتها فقط – كما يخبرنا عماد مغنية. رغم الحاجة الماسة للنقد الذاتي والذهاب به بعيدًا بعيدًا، إلا أن الأولوية اليوم هي للعناد الاستراتيجي، للاستنهاض، والتحريض، بعد أكثر من مئة يوم من السابع من أكتوبر، لا تزال وستظل الأولوية هي التمسك بالعابرين الأوائل، التمسك بأشجعنا وأكثرنا عنادًا وحكمة، التمسك بأولئك الرجال القابعين اليوم في نفق تحتضنه أرضنا، التمسك بيحيى السنوار ومحمد الضيف قادة العملية التاريخية الكبرى لاجتثاث الصهيونية من الأرض العربية.