لطالما نادت المؤسسات الحقوقية الفلسطينية بضرورة وأهمية مسؤولية الدول (الطرف الثالث) تجاه ما يحدث في فلسطين، على مدار 76 عامًا، تطبيقًا لالتزاماتها وفق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والقانون الدولي العرفي، أي مبدأ التزام الدول الأطراف كافة (Erga Omnes Partes). ولاحظنا المحاولات الحديثة لتفعيل اختصاص محكمة العدل الدولية ضمن المبدأ سابق الذكر، وينبغي الترحيب بالأمر باعتباره تمثيلًا لاتجاه إيجابي نحو تحقيق قانون دولي عام حقيقي وفعّال، رغم إمكانية استخدام الأمر بطرق مختلفة، وضمن ما يتوافق مع مصالح الدول.
يعتبر البعض استخدام “مبدأ التزام الأطراف كافة”، ثورة في إنفاذ اتفاقيات حقوق الإنسان، والتي ظلّت لفترة طويلة غير منفّذة. لقد أحدثت قضية غامبيا ضد ميانمار “ثورة” في استخدامها لمبدأ التزام الأطراف كافة، إذ قدّمت غامبيا في عام 2019 طلبًا أمام محكمة العدل الدولية ضد ميانمار، زاعمةً أن سلوكها ينتهك اتفاقية الإبادة الجماعية، وطلبت اتخاذ تدابير مؤقتة من المحكمة. وبسماحها مواصلة القضية، قبِلت المحكمة، لأول مرة، الحجيّة بمبدأ التزام الأطراف كافة باعتباره أساسًا وحيدًا يسمَح للدول بتقديم الطلبات والالتماسات أمام محكمة العدل الدولية بخصوص نزاعات ليست طرفًا مباشرًا بها.
وقبلت المحكمة في الآونة الأخيرة الالتماس المشترك الذي قدّمته هولندا وكندا ضد سوريا بسبب انتهاكات مزعومة لاتفاقية مناهضة التعذيب، على أساس “مبدأ التزام الأطراف كافة”، وأَمَرَت المحكمة في تشرين الثاني 2023 بإصدار أمر مؤقت يُطالب سوريا باتخاذ جميع التدابير لمنع أعمال التعذيب وضمان الحفاظ على الأدلة.
تبرز أهمية السؤال هنا في إطار الحديث الحالي عن القضية التي قدّمتها جنوب أفريقيا نهاية كانون الأول 2023 أمام محكمة العدل الدولية ضد دولة الاحتلال، طالبةً من المحكمة اتخاذ تدابير مؤقتة تتعلق بالإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها دولة الاحتلال منذ ثلاثة أشهر ونصف في قطاع غزة (طالَبت جنوب أفريقيا من المحكمة اتخاذ تسعة تدابير مؤقتة – قبل البتّ في القضية – أهمُّها وقف إطلاق النار). وقد تؤسس القضية لإمكانية استخدام “مبدأ التزام الأطراف كافة” في قضايا مختلفة كذلك، أي احتمالية رفع دعاوى أخرى ضد دولة الاحتلال، استنادًا لاتفاقيات حقوق الإنسان المختلفة، كاتفاقية مناهضة التعذيب، على سبيل المثال، ورغم أن دولة الاحتلال صادقت عليها إلّا أنها أبدَت تحفظاتها على النصوص التي تتيح إمكانية المساءلة والمخاصمة بين دولة الاحتلال وأي دولة أخرى طرفًا في الاتفاقية.
مرّت عقود من الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة، والجرائم المستمرة، واللا محاسبة، والإنكار لحريّة الشعب الفلسطيني، وحقّه في تقرير المصير. وهناك المئات من القرارات والتقارير الدولية، الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن للأمم المتحدة، ومُختلف الهيئات والمنظمات الدولية، التي تحاول معالجة القضية الفلسطينية، أو بعض القضايا، واليوم، كما يعتبر البعض، القانون الدولي أمام امتحان في النظر لقضية جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، ورغم أن منظومة القانون الدولي الحالية فشلت على مدار عشرات السنين أمام العديد من القضايا السياسية والإنسانية، إلّا أنّ محاولات فرضه واستخدامه لا تزال مستمرة، بل وتفسير المفاهيم والحقوق من وجهة نظر تحرّرية.
يُناقش المقال بشكل ابتدائيّ مفهوم الإبادة الجماعيّة، ونشأته قانونيًا، والذي يُشكّل الأساس في قضية جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال في محكمة العدل الدولية، ومن ثمّ ينتقل النقاش إلى ما يرتبط بالقضية الآنيّة، وهي تصويت قضاة المحكمة على التدابير المؤقتة المطلوبة، ومن ثمّ يُشير إلى بعض الآليات القانونية، الإضافية، المُتاحة لمحاكمة دولة الاحتلال، ضمن إطار القانون الدولي، وفيما تشكّله، ربّما، من فرصة لتشكيل النظام العالمي من جديد، وأهمية النقاش في منظومة القانون الدولي الحالية، وعلى وجه التحديد، المفهوم القانوني لجريمة الإبادة الجماعيّة.
التفكير في جريمة الإبادة الجماعية
ترتبط نشأة مفهوم الإبادة الجماعية، من الناحية القانونية، بشكل مباشر بما حدث في أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين، ولا سيّما النظام النازيّ الألماني، واستهدافه مجموعات معيّنة على أساس معتقداتهم الأيديولوجية وانتماءاتهم العرقيّة والدينيّة، منهم اليهود والغجر، والأشخاص ذوي الإعاقة، والمثليين والشيوعيين والاشتراكيين والمعارضين السياسيين والأقليات.
رغم الإدراك أن الآليات القانونية النابعة عن الأدوات الحديثة المنبثقة عن نظام الأمم المتحدة لن تحقق مطالب الشعوب الساعية للتحرر والمُطالبة بحقوقها، إلا أن فهم هذه التقنيات، واستخدام ما ينفع منها ويصبُ في صالح قضيتنا، يعدّ جزءًا من فهم أشمل وحراك أوسع، وتكتيكات مختلفة لتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني الذي ما زال يناضل من أجل تقرير المصير والحرية.
إنّ ارتباط المصطلح بما حصل بعد الحرب العالمية الثانية، لا ينفي أن الإبادة كجريمة حصلت ضد العديد من الشعوب الأصلانية في العالم، حيث قامت العديد من دول العالم على أنقاض الشعوب الأصلية مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وتاريخ الإبادات طويل، منها إبادة ألمانيا لناميبيا في حقبة الاستعمار، بدايات القرن الماضي، والتي عادت للطاولة عندما أعلنت ألمانيا عن رغبتها في دعم دولة الاحتلال في القضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية اليوم، ويُشار إلى أن ألمانيا لم تُقر بالإبادة التي ارتكبتها (عندما ثار الهيريرو والناما ضد ألمانيا الاستعمارية) حتّى عام 2021، وتدفع الآن التعويضات بناء على ذلك، إذ 80% من السكان الأصليين أبيدوا. بالإضافة إلى الفظائع التي ارتكبتها الدولة العثمانية في أجزاء من آسيا ضد الأرمن بين عامي 1915 و1923.
في عام 1948، أصدرت “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعيّة والمُعاقبة عليها” والتي عرَّفت الإبادة وحظرتها، ووضعت مسؤوليّة على الدّول لمنع حدوثها والمعاقبة عليها. وعند تبني ميثاق روما للمحكمة الجنائيّة الدوليّة 1998، أخِذ بالتعريف ذاته للإبادة الجماعيّة وجرّمها الميثاق في المادة السادسة منه. وتأتي مصادقة دولة الاحتلال على اتفاقية الإبادة، بل وإدراجها ضمن القانون الداخلي الإسرائيلي 1950، غير استثنائية كما يبدو للوهلة الأولى، إذ إن دولة الاحتلال كانت من المبادرين الرئيسيين لإقرار الاتفاقية – بناء على موضوع الهولوكوست، ورغبتها في إقرار قانون دولي يحمي اليهود – أما الصَدمة الإسرائيلية اليوم أنه لم يعتقد الإسرائيليون أنّهم يتّهمون، بل يحاكمون، بجريمة الإبادة يومًا ما.
إن الإبادة الجماعيّة، عمليّة متراكمة ومُستمرّة وليست حدثًا واحدًا، وعليه، يتوجب التأكيد أن ما يحصل في غزة اليوم، ليس حالة معزولة، بل هو جزء من مُمارسات وسياسات وأفعال مُتراكمة ومُستمرة من قبل دولة الاحتلال بهدف القضاء على الشعب الفلسطيني. ويأتي توصيف الجرائم الإسرائيليّة التي تحدُث في قطاع غزة، وعلى وجه الخصوص تكثيفها بعد بدء عملية طوفان الأقصى، من قتل وتدمير وحصار وفرض ظروف معيشية لا إنسانية، بجريمة الإبادة الجماعية – وهو ما قامت به جنوب إفريقيا بطريقة متكاملة وشاملة، وكأنها مصفوفة – في دعواها أمام محكمة العدل الدولية، قد يساهم بمنع الجناة من استمرار جرائمهم، وربما، على الأقل، منعِهم من كتابة التاريخ بما يتناسب مع أهدافهم الاستعمارية.
حول التصويت على ما يتعلّق بالتدابير المؤقتة
اتخذت محكمة العدل الدولية اليوم، 26 كانون الثاني 2024، عددًا من الإجراءات المؤقتة، التي طالَبت جنوب أفريقيا اتخاذها من المحكمة، بعد جلستي الاستماع لكلا الطرفين في 11 و12 كانون الثاني، والإجراءات المُتّخذة كالتالي:
على دولة الاحتلال ضمان عدم ارتكاب قواتها أعمال الإبادة الجماعية المحدّدة بالاتفاقية.
يجب على دولة الاحتلال ضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة باتهامات الإبادة الجماعية.
يجب أن تتخذ دولة الاحتلال إجراءات لتحسين الوضع الإنساني.
على دولة الاحتلال اتخاذ إجراءات لمنع ومعاقبة التحريض المباشر على الإبادة الجماعية.
على دولة الاحتلال أن تقدّم تقريرًا إلى المحكمة في غضون شهر واحد حول التزامها بواجباتها وفق التدابير المؤقتة.
يأتي قرار المحكمة اليوم لصالح جنوب أفريقيا، جزئيًا، أي لصالح فلسطين، ابتداء برفض الطلب الإسرائيلي بردّ الدعوى، وتبعًا لقبولها الدعوى، اتّخاذ عدد من الإجراءات التي طلبت. ولكن، من دون الإجراء الأهمّ والأكثر إلحاحًا، وهو وقف إطلاق النار الفوري، وهو الإجراء الذي كان يتعيّن على المحكمة بشدّة اتّخاذه للمساهمة في وقف الإبادة الجماعية.
برغم تأكيد المحكمة على ضرورة وقف الأفعال الواردة في اتفاقية الإبادة الجماعية، إلّا أن عدم وجود صيغة واضحة وصريحة في قرار المحكمة تُطالب بوقف إطلاق النار الفوري، سمحت لدولة الاحتلال الاستمرار في إبادتها الجماعية، حيث أنّ ما ورد من تصريحات إسرائيلية أوليّة حول غموض قرار المحكمة هو تأكيد على إرادة ونيّة دولة الاحتلال بالاستمرار في الحرب ضد قطاع غزّة، ولكن دون إحراج المحكمة، والعالم، بوقاحة التصريحات الإسرائيلية التي تدلّ على نيّة القضاء على الشعب الفلسطيني.
رغم أهمية قرار المحكمة، في تفسير ما يحصل، وفي أبعاده القانونية والنظرية والتاريخية، وإقرار المحكمة في عدّة محطات أثناء تلاوتها لقرارها، أن هناك أفعال وجرائم إسرائيلية قد ترتقي للحكم على دولة الاحتلال في نهاية الأمر، أنها ارتكبت إبادة جماعية – أي مع صدور القرار النهائي في القضية – لم تستَطِع المحكمة أن تطلب وقفًا فوريًا لإطلاق النار.
في حال عدم انصياع دولة الاحتلال لقرار محكمة العدل الدولية في ما يتعلق بالإجراءات والتدابير المؤقتة، يُحال الأمر لمجلس الأمن لضمان تنفيذ الإجراءات. هناك آراء تشير إلى صعوبة استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لحق النقض (الفيتو) على قرارٍ لمحكمة العدل الدولية، بسبب التبعات السياسية والدبلوماسية على ذلك، بينما تشير آراء أخرى إلى أن الولايات المتحدة ستمضي في استخدام هذا الحق، استمرارًا لدعمها الدائم لدولة الاحتلال. ومن الأهمية الإشارة إلى أن جميع المحاكم الداخلية (الوطنية) في العالم تأخذ بعين الاعتبار قرارات محكمة العدل الدولية، باعتبارها أعلى محكمة دولية.
رغم أهمية قرار المحكمة، في تفسير ما يحصل، وفي أبعاده القانونية والنظرية والتاريخية، وإقرار المحكمة في عدّة محطات أثناء تلاوتها لقرارها، أن هناك أفعال وجرائم إسرائيلية قد ترتقي للحكم على دولة الاحتلال في نهاية الأمر، أنها ارتكبت إبادة جماعية – أي مع صدور القرار النهائي في القضية – لم تستَطِع المحكمة أن تطلب وقفًا فوريًا لإطلاق النار.
الآليات القانونية المتاحة للمحاكمة
هناك العديد من الآليات القانونية المتاحة لمحاكمة دولة الاحتلال، والتي يجب التفكير بها إلى جانب محكمتي العدل الدولية (التي تختص بالنزاعات بين الدول) والجنايات الدولية (التي تحاكم الأفراد فقط)[1]، كمسؤولية الدول الأخرى، والدعاوى القضائية الممكن تقديمها أمام المحاكم الداخلية (الوطنية)، كالدعوى المرفوعة في الولايات المتحدة.
ترتكز الدعوى، سابقة الذكر، التي قدّمها مركز الحقوق الدستورية (في الولايات المتحدة) أمام محكمة محلية أمريكية، تشرين الثاني 2023، على أن دولة الاحتلال ترتكب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة في انتهاك لاتفاقية الإبادة الجماعية. ويُحاجج المحامون في القضية، التي لم تُرفع ضد دولة الاحتلال، بل ضد مسؤولين أمريكيين، أن فشل الولايات المتحدة في ممارسة نفوذها على دولة الاحتلال لمنع الإبادة الجماعية يعدُّ فشلًا في منع الإبادة الجماعية فضلًا عن التواطؤ في تنفيذها. وسعت الدعوى، من بين أمور أخرى، إلى إصدار إعلان بأن المسؤولين الأمريكيين قد انتهكوا واجبهم بموجب القانون الدولي العرفي لمنع دولة الاحتلال من ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، كما تسعى إلى إصدار أمر قضائي يأمرهم باتخاذ جميع التدابير التي في وسعهم لمنع دولة الاحتلال من ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية.
أمّا الشكوى الجنائية التي قُدّمت ضد رئيس دولة الاحتلال، ضمن اختصاص القضاء العالمي، من قبل مجموعة العمل القانوني ضد جرائم الإنسانية في سويسرا، بينما كان يشارك في قمة الاقتصاد العالمية في دافوس، فهي إنجازٌ آخر. ولكن يجب أن يُشار إلى أن أحد الإشكاليات تكمن في موضوع الحصانة الدبلوماسية لرؤساء الدول، والتي ما تزال موضوعًا جدليًا، ولكن سويسرا تغاضت عن موضوع الحصانة سابقًا في قضية ضد رئيس غامبيا.
وفي النظر إلى الدعوى التي رفضتها المحكمة الهولندية التي قُدمت من مجموعة من الحقوقيين، لمنع هولندا من تصدير أجزاء من طائرات “أف 35” إلى دولة الاحتلال، باعتبارها مُشاركة في الإبادة الجماعية في غزة، ونظرًا لضرورة احترام هولندا للالتزامات القانونية للدولة لضمان المواثيق الناظمة للعلاقات في الاتحاد الأوروبي، والالتزام بالمعاهدات الدولية، على وجه التحديد القانون الدولي الإنساني، واتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، قامت المجموعة بالاستئناف على القرار الرافض للدعوى، ونحن اليوم بانتظار قرار محكمة الاستئناف في لاهاي. استندت حجة هولندا لرفض الدعوى إلى أنه “لا توجد معلومات كافية في هذه المرحلة لاستنتاج أن دولة الاحتلال، تنتهك القانون الدولي الإنساني في غزة.”
تُساهم الدعاوى سابقة الذكر، في فرضِ القيود الدبلوماسية على دولة الاحتلال، ومحاصرتها أخلاقيًا، وقانونيًا، وسياسيًا، سواء أدت لنتائج حقيقية على الأرض، لوقف الإبادة الجماعية، أو استمرت وتصاعدت لتكون جزءًا من تاريخ الشعوب النضالي ضد الاستعمار، وإثبات الحقيقة.
تُعدّ قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، قضية تاريخية، فهي المرة الأولى التي تخضع بها دولة الاحتلال للمحاكمة، والتي تختلف من حيث الإلزامية والآثار عن الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية حول جدار الفصل العنصري لعام 2004، والرأي الاستشاري الذي ينظر حاليًا حول حالة الاحتلال الممتد، أمام المحكمة ذاتها.
فرصة لتشكيل نظام عالمي من جديد؟[2]
رغم الإدراك أن الآليات القانونية النابعة عن الأدوات الحديثة المنبثقة عن نظام الأمم المتحدة لن تحقق مطالب الشعوب الساعية للتحرر والمُطالبة بحقوقها، إلا أن فهم هذه التقنيات، واستخدام ما ينفع منها ويصبُ في صالح قضيتنا، يعدّ جزءًا من فهم أشمل وحراك أوسع، وتكتيكات مختلفة لتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني الذي ما زال يناضل من أجل تقرير المصير والحرية.
منذ عدّة عقود يتخبّط القانون الدولي في الحروب المختلفة، سواء التقليدية أو اللا تقليدية (غير المتماثلة)، وعليه فإن القانون الدولي قد يكون بحاجة لإعادة هيكلة، وتفسيرات جديدة، إذ تكمن إشكالية منظومة القانون الدولي في الربط بين المصالح السياسية والقانون، أي مصالح الدول الكبرى، ومجلس الأمن وتدخلاته في عمل المحاكم والمنظمات الدولية وآلية عملها.
بعد الحرب العالميّة الثانية، أعلنت الدّول المُنتصرة في الحرب العالمية الثانية أنّها بصدد خلق منظومة دوليّة جديدة لنشر “السلم والأمن الدولييْن” – ولكن، بات جزء من حقوقيي الجنوب العالمي والشعوب المضطَهدة والمستعمَرة يعلمون أن المنظومة الدوليّة “الحديثة” ما هي إلا إعادة إنتاج للهيمنة الاستعمارية بشكل جديد ومُقنن. ورغم ذلك، تجب الإشارة إلى أنّ تضمين الحقوق والمفاهيم التحرّرية ضمن المواثيق الدولية كان نتاج عمل مُضني من حقوقيي جنوب العالم، فمثلًا، لم يجد حق تقرير المصير للشعوب القابعة تحت الاستعمار مكانه في الاتفاقيات الدولية من خلال مفكري الغرب، بل من نضالات الشعوب القابعة تحت الاستعمار.
إن الآليّات الدوليّة المتوفّرة بشكل عام هي آليّات ضعيفة ولا تتمتّع بعنصر إلزاميّة التنفيذ بالشكل المطلوب، وذلك نتيجة هيمنة دول مُعينة على تطبيق القرارات والآليات الدولية المتوفرة، ولأنّ إخراج النص من حيز القول إلى الفعل يتطلب، وفق ما أثبته التاريخ، قوة مصاحبة ليتحوّل النّص إلى قوة إلزاميّة على الأرض. ومن هنا تبرز أهمية التفكير بنظام عالمي جديد، أو قانون دولي جديد، وهو ما أصبح أكثر إلحاحًا وتداولًا من قبل القانونيين والأكاديميين اليوم.
وربما من المهمّات الأساسيّة كذلك هي إعادة التفكير في تعريف “الإبادة”، من وجهة نظر الجنوب العالمي والشعوب القابعة تحت الاستعمار شعوب الدول القابعة تحت الاستعمار بمختلف أشكاله، بل وإعادة النظر في ما يحصل في قطاع غزّة على أنّه أكثر مما يتيحه تعريف الإبادة الجماعية، لمحدوديّته في توصيف وحشية المستعمِر؛ “فالرغبة الإزالية هي رغبة شمولية، ومن هنا الثمن الفادح لوجود إسرائيل، فعليها ألّا تقتلع الفلسطينيين من الأرض فحسب، عن طريق الإبادة الجماعية أو الاقتلاع، بل أن تدمّر هذه الأرض بيئيًا أيضًا، كي تتمكن من المطالبة بها بصفتها منطقتها المُؤمْنَنَة الخاصة بها. ومن هنا أيضًا ينبثق الطموح إلى إغراق أرض غزة بمياه البحر، مسببة بذلك تحويل الأنفاق إلى سراديب موتى، وتلويث المياه الجوفية لأجيال ستأتي”.[3]
فالتعريف الحالي لجريمة الإبادة الجماعية هو وليد الحرب العالمية الثانية، والذي أدّى إلى إخفاء سرديّات الشعوب المُستعمَرة وطمس أشكال الإبادة المختلفة التي تتم بحقّ الشعوب المستعمرَة، وعدم اعتمادها ضمن التعريف المعتمد في الاتفاقية، كالإبادة الثقافية أو الإبادة التي قد تكون موجّهة ضد مجموعة سياسية، ما أدّى بدوره إلى حرمان الشعوب من فرص الحماية الحقيقية بموجب القانون الدولي، ومن اعتراف الدول الأخرى بأن هذه الجرائم هي نوع من أنواع إبادة الشعوب.
[1] تنظر محكمة الجنايات الدولية، منذ قرارها عام 2021 لفتح التحقيق في عدد من الجرائم الإسرائيلية الحاصلة في قطاع غزة على وجه التحديد، والضفة الغربية، وضمن الولاية القضائية للمحكمة في فلسطين. يضاف إلى ذلك الإحالات الجديدة من قبل عدد من الدول والمحامين الدوليين، بخصوص ما يحدث في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول 2023.
[2] هذه الأفكار نضجَت ضمن حلقاتٍ من النقاش مع الدكتورة هالة الشعيبي في كلية الحقوق – جامعة بيرزيت، وفي إطار كتابة ورقة مشتركة حول الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، لم يتم نشرها بعد.
[3] سامرة إسمير، “إرشادات غزة: عن نهاية الحكم الاستعماري”، في: مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 137 (شتاء 2024): 27-37.