بداية، لا بدّ من أن يَعجب المرء من إصرار عدد كبير من النخب الفلسطينية، ومن أغلب فصائل م.ت.ف وفصائل المقاومة عمومًا، على المطالبة بتحقيق وحدة وطنية فلسطينية تحت قيادة موحّدة، وذلك بالرغم من مرور عقود من السنين، من دون تحقيق هذين الهدفين “الأساسيين الأوليين”. والأفضل أن نحصر الموضوع من 2005 إلى اليوم، لأن حصره منذ 2005، لا يسمح بالدخول في تفاصيل انقسامات وصراعات في مراحل سابقة، أصبح أغلب قادتها ومعاصريها في ذمة الله، أو في الانتظار بسبب تقدّم العمر.
جرت محاولات، ووقّعت قرارات، طوال 18 سنة، تحت شعار “تحقيق قيادة موحّدة ووحدة وطنيّة”، وقد باءت بالفشل جميعها. حتى حقَّ أن يَستنتج المرء بأن من المُحال إنجازهما، أو الانتقال إلى التعامل معهما، من خلال القول المأثور “فالج لا تعالج”. ولكن هيهات أن تجد، من بين ذلك العدد الكبير من النخب والفصائل، من يأخذ بهذا القول المأثور، أو يجنح إلى تفكير خارج هذا الصندوق.
ومن هنا استمرّت القناعة “الإيمانية” بأن لا مخرج من أن يطالب بتحقيق هذين الشعارين، تحت كل الظروف، باعتبارهما الحل الوحيد الممكن للخروج من الأزمات والمآزق، أو مواجهة التحدّيات التي يواجهها الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة، والنخب الناشطة.
ووصل الأمر إلى أن يُركّز على هذين الشعارين، بالرغم ممّا أحدثه “طوفان الأقصى” وإنجازاته وتداعياته، وحتى ونحن في مواجهة حرب العدوان المستعرة في قطاع غزة، ومواجهات المقاومة في الضفة الغربية، وما يحتّم ضرورة الانتصار في حرب توفّرت فيها كل شروط الانتصار، بما فيها توفر قيادة ووحدة وطنية، بعيدًا من صيَغ الشعارين الأثيرين للقيادة والوحدة الوطنية كما يُراد لهما أن يتحققا:
(أ) جمع قيادات الفصائل وشخصيات حول دائرة مستديرة لممارسة القيادة، واتخاذ قرارات، (ب) وإعلان تشكيل جبهة متحدة، أو التوحد تحت إطار م.ت.ف وذلك تمهيدًا لمرحلة انتخابية لاحقة لمجلس وطني، أو هيئة تشريعية.
إنّ السبب، أو الأسباب، وراء هذا التمسّك العجيب بهذين الشعارين، بالرغم من عدم تحققهما، وبالرغم مما بذل من أجلهما من محاولات ومفاوضات ومؤتمرات فاشلة، يعود إلى الحجة التي تعتمد المنطق الذي يعتبر الوحدة أفضل من التفرق، ولو ثبت استحالة الوصول إليها. كما بالاستناد، من جهة أخرى، إلى تجارب مقاومات وثورات تحرّر وطني كثيرة. مثلًا، كما في الجزائر وفييتنام وغيرهما، قِيدت من خلال قيادة واحدة وجبهة متحدة.
الوعي بالنسبة إلى شعارَي تشكيل وحدة وطنية، وقيادة وطنية موحدة، كان في واد، وما حدث في الواقع الفلسطيني من أحداث وإنجازات في وادٍ آخر
وهنا لا يلحظ الفارق الأهم بين تلك التجارب والتجربة الفلسطينية، وهو توفر الوحدة الجغرافية الواحدة للأرض والشعب في تلك التجارب، فيما الحالة الفلسطينية مقسّمة جغرافيًا وسكانًا، بين قطاع غزة والقدس والضفة الغربية، ومناطق الـ48، وشتاتًا في عدد من الدول العربية ودول العالم. ثم هنالك عامل آخر يجب أن يؤخذ في عين الاعتبار وهو شرط توفر حزب قائد، أو نواة قائدة يستطيعان أن يشكلا قيادة موحدة، وجبهة متحدة تدين لهما. وهو ما حاولت “فتح” توفيره عام 1968، وبوفاق عربي عام قاده الراحل جمال عبد الناصر. ومع ذلك، لم تتحقق القيادة الواحدة الموحدة، والجبهة المتحدة في إطار م.ت.ف، إلّا شكلًا، فقد واجهتا انقسامات متواصلة لا علاج لها، وذلك بسبب التجزئة والتشتت وتوزع الولاءات، وعدم إمكان الاتفاق على برنامج سياسي، أو التمسّك بالميثاقين الأول والثاني.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فليس هنالك مثال واحد لتجربة مقاومة، أو حركة تحرّر، قامت على قيادة متعدّدة، حول دائرة مستديرة، مشكلة من عدّة فصائل وشخصيات مستقلة، أو جبهة متحدة تمثّل توافقًا متساويًا يمثّل كل الشعب، كما تفترض صيغتا الشعارين.
ولكن، ومن جهة أخرى، بالنسبة إلى التجربة الفلسطينية، فإن الاشكالات آنفة الذكر، وعدم إمكان تحقيق قيادة موحدة، ووحدة وطنية شاملة، لم يمنعا من أن يستمر النضال وتستمر المقاومة، وأن يتطورا إلى مستوى عال، كما حدث في مرحلة المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، خصوصًا ما بين 2021- 2023، وذلك بعد حرب “سيف القدس” 2021، وما بعدها من مقاومات فردية (بذورها من 2015)، إلى بروز “كتيبة جنين”، و”عرين الأسود” في نابلس، وكتائب طولكرم، ومخيم نور شمس، وعقبة جبر، وصولًا إلى القفزة النوعية التاريخية التي أطلقتها “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تلاها من أبعاد إيجابية استثنائية حتى اليوم.
هذا يعني أن الوعي بالنسبة إلى شعارَي تشكيل وحدة وطنية، وقيادة وطنية موحدة، كان في واد، وما حدث في الواقع الفلسطيني من أحداث وإنجازات في وادٍ آخر. ومن دون أن يتحقق الشعاران بصيغتيهما المتعارف عليهما. وقد اعتبرا “العصا السحرية” للنضال الفلسطيني، أو هما الطريق الوحيد للخروج من الأزمات والمآزق والتراجعات، كما هما الطريق للانجازات والانتصارات، أو درء الهزائم.
ولكي يزيد هذا العجب إياه عجبًا، راحت النخب والفصائل (نحن جميعًا)، تنخرط (ننخرط) بشكل أو بآخر في النضال والمقاومة ما بين 2021 – وحتى الآن، ومن دون أن تظللنا قيادة موحدة، ومن دون وحدة وطنية كما يقتضي شعارانا الأثيران. فقد خضنا، كل من موقعه، حرب “سيف القدس”، بهذا القدر أو ذاك، من الانخراط فيها، أو تأييدها، أو دعمها، كما توحد الشعب الفلسطيني مشاركة، أو تأييدًا، أو دعمًا لها، من دون إطار موحد يضمه. وكانت النتيجة الواقعية انتصار حرب “سيف القدس”، والانتقال بالوضع الفلسطيني إلى مرحلة أرقى في المواجهة مع قوات الاحتلال والكيان الصهيوني.
لقد انطلقت حرب “سيف القدس” بمبادرة من قيادة المقاومة في قطاع غزة لنصرة القدس (مواجهات الشيخ جراح وباب العامود) ودعم المواجهات الشعبية ضد اقتحامات المسجد الأقصى، ثم صاحبها شبه انتفاضتين، في الآن نفسه، في الصدام مع قوات الاحتلال والكيان الصهيوني في مناطق الـ48 والضفة الغربية.
هذا يعني، أيضًا، أن هذه القفزة الكبرى في النضال والمقاومة تحققت من دون القيادة الموحدة العتيدة، ومن دون الوحدة الوطنية على أساس مظلة م.ت.ف، أو جبهة متحدة.
ثم اندلعت مرحلة جديدة في المقاومة تمثّلت في ظاهرة العمليات الفردية، أبطالها محمد غالب أبو القيعان (بئر السبع)، خالد إغبارية وأيمن إغبارية (الخضيرة)، ضياء حمارشة (بني براك)، ورعد حازم (دوزينغوف في تل أبيب)، ويوسف عاصي ويحيى مرعي (بيت إيل)، وأسعد الرفاعي وصبحي الصبيحات (إلعاد)، وأمير الصيداوي (عملية القدس) وعدي التميمي (مخيم شعفاط). وقد توحّد موقف غالبية النخب والفصائل وراء كل منها من حيث دعمها وتأييدها إلى المشاركات الواسعة في الجنائز. وكان من الصحيح تفسيرها بأنها تعبير واستجابة فردية لإرادة شعبية جماعية، وليست مجرد مبادرات فردية عفوية لا مرجعية لها.
هذه المرحلة انتقلت، بدورها، إلى مرحلة ولادة كتائب مقاومة أخرجت السلاح علنًا، كما عبّرت عن ذلك “كتيبة جنين”، وكتيبة “عرين الأسود” في نابلس، وعدد من الظواهر المماثلة في طولكرم ومخيم نور شمس، وعقبة جبر (أريحا)، وقد كانت مرحلة الشهور التسع الأولى للعام 2023. الأمر الذي يؤكد ما تم تأكيده في حرب “سيف القدس”، وما حدث من تطور بعدها، كما مر سابقًا. أي تأكيد مسارات تعبّر عن وحدة موقف موضوعي، وكل من موقعه، على مستوى القيادات الميدانية كما النخب الناشطة والمثقفة والفصائل، كما الموقف الشعبي العام. وذلك، مع الأسف، لمن يشاء، من دون أن نحقق قيادة موحدة، أو من دون وحدة وطنية عامة في ظل جبهة متحدة، أو م.ت.ف.
لهذا، كان من الخطأ وضع إشكالية الشعارين الأثيرين مقابل المسارات التي اتخذتها التجربة العملية، وصولًا إلى تجربة “طوفان الأقصى” وما بعدها حتى اليوم. وذلك من أجل التوصل إلى فهم أعمق للسنن التي تحكم الوضع الفلسطيني، بما في ذلك إشكالية القيادة الموحّدة والوحدة الوطنيّة. ومن ثم الخروج من أسرها، إلى تعامل صحيح مع الظروف المستجدة، وموازين القوى الجديدة. وهو ما يقتضيه احترام مسارات الواقع على الأرض، كما ما يقتضيه احترام عقولنا في عدم تجريب المجرب، أو تكرار ما ثبت عدم واقعيته وإمكانه.
وبكلمة، ثمة وحدة واقعية، لم تحدث من قبل، على المستويين القيادي والفصائلي والشعبي، لمواجهة حرب العدوان على قطاع غزة، وخروج المقاومة منتصرة في تحديد شروط آخر يوم للحرب
وخلاصة، تقدّمَ النضال الفلسطيني، والمقاومة المسلحة، بما يشبه القفزات من مرحلة إلى أخرى، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه في “طوفان الأقصى”، منذ السابع من أكتوبر حتى اليوم، بلا قيادة موحّدة ووحدة وطنيّة، وفقًا للقوالب التي عبّر عنها هذان الشعاران. فقد كانت لكل مرحلة “قيادتها”، وأشكال تكوّن الوحدة الوطنية الشعبية حولها، وبمشاركة الجميع فيها، في الموقف وعمليًا، وكل من موقعه، وضمن قدراته.
ولعل ما حدث واقعيًا من التفاف كل الفصائل حول “طوفان الأقصى”، وطوال ما بعده حتى الحرب البرية، وما تضعه قيادة المقاومة في قطاع غزة من شروط لوقف العدوان، أجلى موقف لوحدة القيادة (القيادات) وللفصائل والنخب والشعب، فمن ذا الذي من الشعب الفلسطيني (ناهيك عن العربي والإسلامي وأحرار العالم) لا ينتظر ما سيقوله أبو عبيدة،على سبيل المثال، يومًا بعد يوم.
وبكلمة، ثمة وحدة واقعية، لم تحدث من قبل، على المستويين القيادي والفصائلي والشعبي، لمواجهة حرب العدوان على قطاع غزة، وخروج المقاومة منتصرة في تحديد شروط آخر يوم للحرب.
أمّا فتح ملف شعاري القيادة الموحّدة والوحدة الوطنيّة، فمن شأنه فتح أبواب الاختلاف والانقسامات، والفشل المتكرر. مما يتوجب تجنبه. وذلك في هذه المرحلة، في الأقل.