“يجب أن نؤكد بشكل قاطع أن دماءنا وأرواحنا ليست أغلى ولا أعز من دماء أي شهيد أولًا وأخيرًا… لا يجب أن تشعر أم شهيد أن دماء القائد أو المسؤول أعز من دماء ابنها… سواسية نحن، والشهيد الذي سبقنا أفضل منا”
بتلك الكلمات أجاب الشيخ صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي في “حماس”، على تهديدات الصهاينة باغتياله، قبل أشهر قليلة من استشهاده، حتى طالته نيران الغدر الصهيونية في بيروت، لينضم إلى قافلة الشهداء التي قدّمتها فلسطين والأمّة العربية في معركة “طوفان الأقصى”.
لم يرَ الشهيد العاروري نفسه أفضل من أصغر شهيد في فلسطين، ولم يرَ نفسه خارج معادلة الثمن التي يدفعها شعبه الفلسطيني مقابل مقاومته المستمرة منذ عقود.
يقول الشهيد باسل الأعرج إن العدو ينتهج الاغتيالات لقادة المقاومة لإحباط الجماهير، لكننا، حتى وإن كنا نتأثّر نفسيًا ومعنويًا من تلك الاغتيالات والاستهدافات، فهي لا تضعف فكر المقاومة لأن بنيتها لا تأخذ شكلًا هرميًا عموديًا، بل إن بنيتها أفقية. وفي أدبياتنا دائمًا ما نقول أن “فلسطين ولّادة”. أو كما قال الشهيد طارق عزالدين، سيخرج من بعد كل قائد شهيد عشرة قادة. وتلك حقيقة موضوعية مثبتة في تاريخنا النضالي، وقد قدّمت فصائل المقاومة دليلًا قطعيًا على ذلك في كل الميادين وساحات القتال. فاليوم، وعلى رغم من تصفية أغلب مؤسسي حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، و”الجبهة الشعبية”، حققت القيادات الحالية انتصارات راكمها وأسس لها من سبقهم من القادة الشهداء. فدم كل هؤلاء أزهر عناوين انتصار وتقدّم وخبرات متطورة في القتال.
لكن، على الرغم من صحة ذلك كله، لا يمكن أن نقفز عن استثنائية الشهيد القائد صالح العاروري، ولنا في سيرته ومسيرته خير دليل. فقد كان الشيخ أول من أسس لخلايا القتال في الضفة قبل وخلال وبعد أسره. ونشط عسكريًا حتى داخل سجون الاحتلال، ولعب عدة أدوار أقلقت وزعزعت أمن الكيان. فكان دائمًا من أوائل المطاردين المطلوبين للاحتلال.
جمع في شخصيته النضالية وتاريخه، بين عمله المقاوم في الضفة الغربية وإعادة صورة القتال الفلسطيني في لبنان، فاستعاد لنا مشهدًا فلسطينيًا لبنانيًا مقاومًا على أرض بيروت، واختلطت دماؤه بدماء فلسطينيي الشتات ومقاتلي لبنان
إنّ استثنائية شخصية العاروري، كقيادي، وعبقريته، تجلت في عمله على بناء شبكات تربط عدة ساحات مقاتلة، فكان حلقة اتصال أساسية بين عدة جهات مقاومة وعدة حركات. بل إنّ أبرز شواهد ذلك حين ضاقت عليه الجغرافيا؛ ففي كل بلد حل فيه، من قطر إلى تركيا، لم يتم تطويعه، فيستمر بالعناد ذاته والعمل العسكري والأمني، مما يؤدي إلى إبعاده في كل مرة. استغل العاروري إبعاده إلى لبنان لبناء شبكة علاقات تربط المقاومة الإسلامية وحلفائها في لبنان وإيران واليمن. ومما لا شك فيه أن نجاحه ينبع من شخصيته القيادية الوحدوية، وهي تنعكس في مبدئه العروبي الإسلامي الأممي الذي كان واضحًا في كل مقابلاته وكلماته. فكان أكثر قادة المقاومة الفلسطينية حرصًا على الوحدة دائمًا، بمعناها الفصائلي والمناطقي، حيث عمل على تمكين المقاتلين في الضفة وربط ساحة القتال في الضفة بغزة، واستعاد للاجئين الفلسطينيين في لبنان ساحة قتال حاول العدو وحلفاؤه قتلها في حروبهم ومعاركهم ضد المخيمات الفلسطينية، فكان جزءًا مهمًا من انخراط معركة العودة بالمعارك داخل حدود فلسطين المحتلة، حتى إنه قد صحبه في استشهاده مقاتلون من مخيمات اللجوء.
لا يمكن اليوم إلا أن نرى في العاروري مثالًا يحتذى به، قائدًا عينُه أولًا وأخيرًا على فلسطين. لقد كان ابن قرية عارورة، وابن الضفة الغربية، رفيق شهداء الحركة وشهداء الضفة منذ التأسيس وبداية القتال، فكان نشطًا في العمل السياسي، ولاحقًا العسكري، منذ بدء مسيرته. هو ينتمي إلى العصر الذهبي لمقاتلي وقياديي “حماس” في الضفة: مع يحيى عيّاش وإبراهيم حامد وغيرهما ممّن أفنوا عمرهم من أجل فلسطين.
تقول الحاجة أم صالح، في مقابلة تلفزيونية بعد استشهاده، أن الشهادة كانت مبتغاه وأن أصحابه توفوا أو استشهدوا قبله، فكان بنفسه يقول إن عمره الافتراضي قد انتهى وأنه يعيش “في الزمن بدل الضائع” ولا يهاب الاغتيال.
يأتي استشهاده انطلاقة لمرحلة متجددة تجمع عدة عوامل عشناها سابقًا؛ وهو الذي جمع في شخصيته النضالية وتاريخه، بين عمله المقاوم في الضفة الغربية وإعادة صورة القتال الفلسطيني في لبنان، فاستعاد لنا مشهدًا فلسطينيًا لبنانيًا مقاومًا على أرض بيروت، واختلطت دماؤه بدماء فلسطينيي الشتات ومقاتلي لبنان، حتى شيّع في مشهد مهيب إلى مثواه الأخير في مقبرة شهداء فلسطين، فأعاد بتشييعه تجديد بيعة فلسطينيي الشتات للمقاومة ووحدتهم، وأعاد إحياء تلك المقبرة، التي لطالما كانت شاهدًا على النضال الفلسطيني في المنفى، والتي دفن فيها من سبقه من شهداء فلسطين المبعدين قسرًا، مثل غسان كنفاني وكمال عدوان وكل رفاقهم الأمميين الذين قاتلوا من أجل فلسطين حتى احتضنهم تراب لبنان.
وأخيرًا، يجب أن نسأل: ماذا بعد اغتيال العاروري؟ اليوم وبعد سلسلة من الاستهدافات طالت قياديي فلسطين في لبنان وغيرهم من مقاتلي الأمّة وشعوبها في سوريا والعراق وإيران، تبدأ مرحلة جديدة، مرحلة عنوانها ليس الثأر فقط، بل يجب أن تلتحم فيها كل الجبهات وكل الشعوب وحواضن المقاومة، لتشكّل درعًا واقيًا لكل قيادات مقاومتها العربية في أماكن وجودهم كافة وفي كل ساحات قتالهم، وعلى العدو أن يعلم ماذا جلب على نفسه بتلك الاستهدافات وكل حربه الإبادية. ولنفهم أهمية المرحلة المقبلة، علينا أن نفهم مآلات الاغتيال استراتيجيًا، فصحيح أن العدو أراد باغتيال العاروري صنع صورة نصر له رغم حربه البرية الفاشلة، لكننا وبكل واقعية يجب أن ندرك أن الاغتيالات هذه تؤثر علينا استراتيجيًا لا نفسيًا فقط اغتيال العاروري ضربة لا يجب تجاوزها، وعليه يجب علينا العمل لحماية القيادة. على الرغم من أننا سواسية، كما قال شيخنا الشهيد، لكن مسألة حماية قادة المقاومة مكملة لمسألة حماية الجماهير، فالمقاومة وحاضنتها الشعبية تكملان بعضهما البعض.
الثأر هو حماية قيادة المقاومة شعبيًا وعسكريًا، وإكمال مسيرة العاروري ورفاقه الشهداء حتى التحرير الكامل في حرب شاملة تعيد الأرض والحق لأصحابهما، فكما قال الشيخ الشهيد في حوار قبل بضعة أشهر: كل مكونات المعركة من المقاومة الفلسطينية والعربية تتطلع لحربٍ شاملةٍ لا مفر منها.