من يريد معرفة حقيقة ما تواجهه “إسرائيل” اليوم وما ينتظرها بعد وقف الحرب على غزة، عليه الاستماع بتمعن إلى وزير الأمن يوآف غالانت. يُمكن القول إنه الوحيد الذي يتحدّث بصدق عمّا فعله ويخطط له الجيش الإسرائيلي. صراحةُ الرجل وصدقه سببهما إدراكه خطورة ما حل على كيانه، وحجم الضربة الاستراتيجية التي وجّهت، ولمعرفته طبيعة الصراعات التي يخوضها “أسباط إسرائيل” ضد بعضهم البعض، والتي بدأوها أثناء الحرب فكيف سيكون الحال في اليوم التالي لوقفها.
ففي خضم حرب اعتبروها وجودية، بدأت الطبقة الحاكمة بالتفكير في “يوم الحساب”، وفي لجان التحقيق المنتظرة، وأغلب ساسة “إسرائيل” يتصرّفون في جلسات الحكومة وفي “الكابينت الحربي” ومستقبلهم السياسي نصب أعينهم.
الوحيد الذي عزل نفسه عن كل هذا، ويتحدّث بصراحة مع جمهوره ومع أعدائه، هو غالانت. فهو يدرك أن مستقبله السياسي انتهى داخل الحكومة وداخل حزب “الليكود” الذي ينتمي إليه. وهو الوحيد الذي لا يزال بعد مرور ثلاثة أشهر من عملية “طوفان الأقصى” يرتدي اللون الأسود حدادًا على الذين قتلوا صباح ذلك “السبت الأبيض”.
قبل الطوفان العظيم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في السابع من أكتوبر المجيد، كانت “إسرائيل” تعاني من انقسام داخلي حول قانون “حجة المعقولية” الذي أقرّه اليمين الإسرائيلي، والذي يحد من سلطة المحكمة العليا ويمنعها من إيقاف قوانين يسنّها الكنيست. رفض غالانت مشروع القانون وأبلغ رئيس حكومته وحزبه، بنيامين نتنياهو، أن تشريع القانون سينعكس سلباً على الجيش. في ليلة 26 آذار من العام الماضي، أقال نتنياهو غالانت بسبب اعتراضه، وتظاهر حينها عشرات الآلاف في تل أبيب للمطالبة بإعادة وزير الأمن إلى منصبه. حتى إن الرئيس الأمريكي جو بايدن، بحسب ما كشف موقع “واللا” العبري (30-3-2023)، بعث رسالة شخصية وسرّية إلى نتنياهو طالب فيها بوقف التعديلات القضائية. ونقل معلّق الشؤون السياسية في “القناة 12″، يارون أبراهام، أنّ “مصدراً أمريكيًا كبيرًا وصف إقالة غالانت بالقشة التي قصمت ظهر البعير”.
تخيّل أنك تعيش في دولة تخوض معركة وجودية يمنع فيها وزير الأمن من لقاء مسؤول الأمن العام (الشاباك) ومدير وكالة الاستخبارات والمهمات الخاصة (الموساد) بسبب أهواء رئيس حكومة البلد
يُدرك وزير الأمن حجم الخطر الوجودي الذي شكله “الطوفان” على دولة “إسرائيل”، وقد عبّر عنه صراحة بالقول “بدون انتصار واضح لن نستطيع العيش في الشرق الأوسط”. الخوف على مصير الكيان، جعل المعركة الحالية معركته الشخصية، فهو كوزير للأمن فشل في حفظ أمن المستوطنين، وفي نوبته فقدت “إسرائيل” أهم الركائز التي بنيت عليها وهي أنها ملجأ آمن ليهود العالم ومصدر الأمن لهم.
كما انهار، خلال حراسته، مبدأ “الجدار الحديدي” الذي نظّر له والد اليمين الإسرائيلي زئيف جابوتنسكي. فمع اقتراب “إسرائيل” من اليوم المئة للحرب، يكون بذلك قد سقط مفهوم الحرب السريعة التي اعتادت تل أبيب على خوضها، كما أنها أصبحت تخاض في “أرضها ومناطقها” لا في أراضي ومناطق العدو حصرًا، بل إنّ نظرية الردع والخوف من “إسرائيل” التي تضمّنتها نظرية جابوتنسكي سقطت كلها.
هذا الواقع الذي يعرفه غالانت جيدًا، دفعه للاصطدم ومواجهة رئيس حكومته وحزبه بسبب تركيزه على مستقبله السياسي، فرفض عقد مؤتمرات صحفية مشتركة معه، لتكون ردة فعل نتنياهو بعدها تأنيبه ومنعه من لقاء رئيسي جهاز “الشاباك” و”الموساد”. وبحسب “القناة 12” (4-1-2024)، قال غالانت لنتنياهو: “بمنع هذه اللقاءات أنت تضر بأمن الدولة”.
تخيّل أنك تعيش في دولة تخوض معركة وجودية يمنع فيها وزير الأمن من لقاء مسؤول الأمن العام (الشاباك) ومدير وكالة الاستخبارات والمهمات الخاصة (الموساد) بسبب أهواء رئيس حكومة البلد، فبأي حرب ستفوز؟ وكيف سيكون شكل الحكم في هذا البلد بعد الحرب؟
التغيير الذي تعيشه “إسرائيل” لمسه نتنياهو بيديه، فهو لم يعد “سيد الأمن”، كما كان يروّج لنفسه دائمًا، وقد أصبح لعبةً بيد وزيري الأمن القومي إيتمار بن غفير، والمالية بتسلئيل سموتريش، اللذين يحافظان على رأسه ويمنعان إسقاط حكومته في مقابل تلبية متطلباتهما من زيادة الميزانية لليمين وللمستوطنات وعدم تحويل تمويل الائتلاف الحكومة في ميزانية عام 2024 إلى المجهود الحربي.
كما يدرك نتنياهو أن المزاج الشعبي لم يعد معه، إذ أظهر استطلاع أجرته “القناة 13” (29-12-2023) أن غانتس هو الأنسب لقيادة الحكومة وأنه لو جرت الانتخابات ستحصل كتلة “الوحدة الوطنية” التي يرأسها غانتس على 38 مقعدًا مقارنة بـ12 يملكها حاليًا، في المقابل سيحصل “الليكود” على 16 مقعدًا في حين يملك حاليًا 32 نائبًا. وأوضح الاستطلاع أنه لو تم استبدال نتنياهو في رئاسة “الليكود” برئيس الموساد السابق يوسي كوهين، فإنّ الحزب سيحصل على 23 مقعدًا بمقابل 33 لحزب “الوحدة الوطنية”. ولفتت القناة إلى أنه لو جرت الانتخابات اليوم لحصلت الأحزاب المشكلة للحكومة الحالية على 45 مقعدًا فقط، مقارنة مع 64 تملكها الآن.
لذلك، يسعى نتنياهو في الحفاظ على ائتلافه لأنه يدرك أنه، في أي انتخابات مبكرة مقبلة، لن يحصل اليمين على الأكثرية لتشكيل الحكومة. وتعالت مطالب داخل “الليكود” لاستقالة نتنياهو بعد الحرب مباشرة، وحسب “واي نت” (موقع “يديعوت أحرونوت”، في 4-12-2023)، يعتقد أعضاء “الليكود” في الكنيست أنه ينبغي التوجّه إلى انتخابات عامة بعد الحرب، ويجرون حول ذلك محادثات بينهم حول توقيت وشكل طرح مطلب كهذا. إلا أن الصحيفة نقلت أن الانطباع هو أن “نتنياهو لا يعتزم السعي إلى انتخابات أو حل الكنيست، وإنما محاولة الاستمرار بتركيبة الحكومة الحالية والتوضيح لوزرائها أن حل الحكومة يعني أنهم لن يعودوا إلى مناصب وزارية في أعقاب انتخابات جديدة حتى لو ازدادت قوة قسم منهم، وذلك لأن أحزاب الائتلاف ككتلة ستخسر في الانتخابات”.
لذلك، يستمر نتنياهو منذ اللحظة الأولى لـ”طوفان الأقصى” في رفض تحمّل مسؤولية الفشل الأمني والعسكري الذي لحق بـ”إسرائيل”، حتى عندما سئل أكثر من مرة في مؤتمرات صحفية إن كان سيتحلّى بالمسؤولية عن الفشل أجاب بأنه بعد الحرب سيخضع الجميع للمساءلة. إلا أن أداءه لا يشير إلى نيته تحمّل المسؤولية، ففي الأسبوع الأول لـ”الطوفان” حمّل، في تصريح على منصة “أكس”، “الشاباك” والاستخبارات العسكرية “أمان” مسؤولية التقصيرـ قبل أن يحذف التغريدة. وبحسب ما كشفته “هآرتس” (22-10-2023) عن مصادر في الجيش الإسرائيلي فإن نتنياهو بدأ بجمع المعطيات التي تدين الجيش و”أمان” و”الشاباك” لعدم تنبؤهم بالسابع من أكتوبر.
نتنياهو، المتخوف على مستقبله السياسي، بدأ يلمس ما ينتظره من محاكمات، خاصة بعد استئناف محكمة القدس محاكمته بتهم الفساد، وذلك أثناء الحرب فكيف سيكون حاله بعدما تسكت أصوات المدافع
وبحسب استطلاع رأي نشرته صحيفة “معاريف” (20-10-2023)، أظهر 80% من المستطلعين أن نتنياهو مسؤول عن الإخفاقات الأمنية والسياسية التي أدّت إلى نجاح “طوفان الأقصى”، برغم من إعلان عدد كبير من المسؤولين الإسرائيليين تحمّلهم لمسؤولية ما جرى في السابع من أكتوبر، ومنهم غالانت، ورئيس “الشاباك” رونين بار، ورئيس “أمان” أهارون هاليفا، ورئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي، ورئيس مجلس الأمن القومي تساحي هانغبي، وقائد القوات الجوية تومر بار، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وقائد قيادة الجبهة الداخلية في الجيش رافي ميلو.
نتنياهو، المتخوف على مستقبله السياسي، بدأ يلمس ما ينتظره من محاكمات، خاصة بعد استئناف محكمة القدس محاكمته بتهم الفساد، وذلك أثناء الحرب فكيف سيكون حاله بعدما تسكت أصوات المدافع. كما إن الضغط الأمريكي عليه، من العسكري بسحب حاملة الطائرات جيرالد فورد من شرق المتوسط، والسياسي بتحفيز المحكمة العليا على إصدار ردّها (أغلبية 12 قاضيًا من أصل 15) على إلغاء قانون “حجة المعقولية” الذي سنّه الكنيست في العام الماضي للالتفاف على قرارات المحكمة العليا ومنعها من نقض قرارات الحكومة والكنيست، سيتصاعد بعد الحرب.
لذلك، يسعى نتنياهو في الحفاظ على حكومته اليمينية. وبرغم من ضمّه إليها كلًا من خصميه رئيس حزب “أمل جديد” جدعون ساعر، ورئيس “أزرق أبيض” بني غانتس، فإنه يدرك أن وجودهما في الحكومة والمجلس الأمني المصغر متعلق بمستقبلهما السياسي حصرًا، وأنه لا يمكنه الاعتماد عليهما لأنهما سيتخليان عنه بعد الحرب، والوحيدان اللذان يشكلان له شبكة أمان هما سموتريش وبن غفير.
بالنسبة لغانتس، رجل أمريكا في الحكومة، فوجوده فيها دافعه شخصي ليظهر أنه منقذ “إسرائيل” الذي تعالى على الجراح والخلافات الداخلية الحزبية، للوقوف إلى جانب الحكومة لمواجهة الخطر الذي يواجه الدولة. استفاد غانتس من هذه الخطوة، أولًا لتحسين صورته في الداخل الإسرائيلي ولاستمالة اليمين الوسط “الليكوديين”، اللذين يرفضان أداء نتنياهو، لجذبهم إليه. كما أنه يعمل على الترويج لنفسه أمام زعماء العالم، فهو الذي يتواصل معهم ويتحدّث إليهم ويوجّه الرسائل والتحذيرات لنقلها، مثل اتصالاته المتكررة بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز.
المؤكد أن “طوفان الأقصى”، التي أطلقتها “حماس”، سيكون لها تداعيات كبيرة على كيان العدو، إلا أنه من المؤكد أن “أسباط إسرائيل” في اليوم التالي لوقف الحرب سيتقاتلون في ما بينهم وسيحققون نبوءاتهم التي تقول إن خراب “إسرائيل” دائمًا يبدأ على يد أبنائها.