ليس المطران هيلاريون كابوتشي مُجرّد رجل دين. ابن حلب السورية كان مطران المقاومة الفلسطينية. عرّض حياته للخطر فداء للمقاومة، فسُجن أربع سنوات سنة 1974 لدى الاحتلال بتهمة تهريب أسلحة إلى الداخل الفلسطيني المُحتل بسيارته الخاصة. نُفي إلى إيطاليا بعد إطلاق سراحه، وهناك أسلم الروح عام 2017. حركة حماس نعت يومها مطران القدس الراحل، بصفته «شريك المقاومة والحقوق»، هو الذي شارك سنتَي 2009 و2010 في أساطيل كسر الحصار المفروض على غزّة. على نهج المطران كابوتشي سار العديد من رجال الدين وأبناء الطائفة المسيحية في فلسطين، فكانوا حجر أساس في تأسيس منظمات الكفاح المُسلّح والحركات الوطنية لمواجهة الاحتلال والاستعمار، رغم أنّهم قد لا يُفضلون على الأرجح التعريف عن أنفسهم بهوياتهم الطائفية. عُرف منهم، على سبيل المثال لا الحصر، مؤسسَا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، جورج حبش ووديع حدّاد. الذاكرة المعاصرة تشهد أيضًا لمواقف المطران عطالله حنّا، الذي يدعو علنًا إلى زوال الاحتلال.
تلتحم حياة المسيحيين العرب بالمقاومة التحام النبات بالتراب. أبناء فلسطين منهم ليسوا بحاجةٍ إلى شهادة ولا براءة ذمّة في هذا الخصوص، فتاريخهم يشهد لهم، والاضطهاد الذي يتعرضون له يوميًا من الاحتلال واضح. حتى ولو اتخذ رؤساء الكنائس في القدس ومرجعياتهم في الفاتيكان واليونان مواقف تُساوي بين الظالم والمظلوم، وتُدين مقاومة الاحتلال.
يعود الحديث عن الوجود المسيحي في فلسطين وارتباط هذه الجماعة بالأرض والمقاومة مع انطلاق عملية «طوفان الأقصى»، ونشْرِ سلطات الاحتلال صورة رؤساء الكنائس متحلّقين حول الرئيس الإسرائيلي، مبتسمين، لتهنئته بالأعياد! والأهم، عودة الحديث عن تسهيلات غربية ستُقدَّم لهم للهجرة والتخلي عن قوميتهم العربية وهويتهم الفلسطينية.
تهجير المسيحيين من فلسطين
آخر ما ظهر في هذا المجال هو ما عَلمه موقع «الكرمل»، عن أنّ حكومة أستراليا أبدت استعدادها لاستقبال قرابة ألف عائلة من قطاع غزّة، العدد الأكبر منهم سيكون من الطائفة المسيحية. المُخطّط الأسترالي، والذي من المُرجّح أن تنضم إليه دولٌ غربية أخرى، يُعدّ أشبه بأداة تنفيذية للمشروع الصهيوني الأكبر: تهجير شعب فلسطين من أرضه عبر تشتيت الفلسطينيين ودمجهم في مجتمعات أخرى، وهو ما عُبّر عنه مرارًا بالحديث عن نقلهم إلى سيناء أو غيره. المشروع يستهدف شعب فلسطين من الخلفيات الطائفية كافة، ولكن يكتسب تهجير المسيحيين منهم خصوصية أكبر، لسببين رئيسيين:
- التسهيلات الكثيرة المُقدّمة لاستقبالهم ودمجهم في المجتمعات الأوروبية والأمريكية،
- عددهم القليل مقارنةً بالمُسلمين، والآخذ بالتراجع منذ احتلال فلسطين.
فوق هذين السببين، يأتي العامل الأهم في كلّ الوضع المسيحي الفلسطيني، وهو سعي الدعاية الصهيونية – الغربية إلى تصويرهم «غرباء» عن شعبهم، غير معنيين بقضية التحرير، مُضطهدين من قبل الفلسطينيين المُسلمين، ساعين إلى الهجرة وبيع الأرض، مُتحالفين مع الاحتلال، راغبين في العيش «بسلام» مع الصهاينة.
هل هذه هي الحقيقة؟
الواقع يُشير إلى غير ذلك. اضطهاد الصهاينة للمسيحيين يعود إلى يوم إنشاء الكيان، ولكن لا يُسلّط الضوء عليه كما يجب، أولًا كون السكان من الطائفة المسيحية أقلية مقارنةً بأبناء الطائفة المُسلمة؛ ثانيًا تسليط الضوء في الإعلام على معركة «تحرير المسجد الأقصى» بسبب الانتهاكات الجمّة التي يتعرّض لها هذا المعلم والمُصلّون فيه؛ وثالثًا بسبب التحوّل في طبيعة حركات المقاومة التي تقود حرب تحرير فلسطين، واتخاذها طابعًا دينيًا إسلاميًا.
يقول أحد المُناضلين الفاعلين سابقًا في حركة القوميين العرب لـ«الكرمل» إنّ المسيحيين الفلسطينيين «يتشاركون مع المُسلمين الفلسطينيين في التعذيب والتنكيل والاضطهاد والقتل والتعدّي على حقوقهم من كيان العدّو». المسيحيون «كانوا حجرًا أساسيًا في تأسيس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. دورهم كان أضخم من عددهم لإيمانهم بأهمية قتال العدّو». ويُضيف بأنّ «الإسرائيلي يتضايق من الوجود المسيحي أكثر من غيره بسبب علاقة المسيحيين بالأرض وظهور المسيح فيها الذي كان سابقًا للإسلام».
العدّو الذي لا يُفرّق
تتذكّر الأخت ماري، وقد أمضت أكثر من عشرين عامًا من خدمتها الرهبانية في غزّة، تعرّض جنود الاحتلال للمدنيين «من دون أن يُفرّقوا بين مسيحي ومسلم». في ثمانينات القرن الماضي، وصلت الراهبة إلى غزة وبقيت فيها حتى العام 2005، «وكان الوضع فعلًا مأسويًا. الاسرائيليون يضربون بالأسلحة والرصاص، وشبابنا كانوا لا يملكون غير الحجارة ليواجهوا بها».
اعتداءات وملاحقات وقتل وتدنيس لحُرمة الكنائس، ممارسات «روتينية» شهدها المسيحيون في فلسطين. «أستطيع أن أُخبرك عن غزّة تحديدًا لأنني عايشت التجربة»، تقول الأخت ماري في حديث مع «الكرمل». حادثتان تسرِدهما كعيّنة عن إجرام العدّو. «في إحدى المرّات، كان الجنود الإسرائيليون يتجولون في شوارع غزّة. رآهم أحد الشبّان وكان يبلغ حينها نحو 17 عامًا من عمره، خاف وهرب يختبئ في منزل قريب». لاحقه جنود العدّو، وسحبوه من مكان اختبائه إلى مستشفى أبو كبير للتشريح في «تل أبيب». في ذلك المستشفى «كانوا يُقطّعون الأولاد ليبيعوا أعضائهم». قُتل الشاب، وهو من الطائفة المسيحية، «ثم اتصلوا بنا لنذهب ونستلم الجثة». يوم الدفن، «رافقنا كراهبات خروج الجثة من منزل الشاب نحو الكنيسة». ولما كان موكب الجنازة يقطع المسافة سيرًا على الأقدام، تأهّب جنود العدّو في الشارع بطريقة استفزازية، فرشقهم الشبان بالحجارة. «ركضنا نختبئ بين البيوت. ألقوا قنابل حارقة على ساحة الكنيسة. وانتشروا على الأسطح يُطلقون النيران». لم يتوقّف الاعتداء الاسرائيلي على الكنيسة والمُصلين «إلا بعد تواصلنا مع البطريركية في القدس، التي ضغطت على المرجعيات اليهودية الدينية. بعد ذلك حقّق معنا اليهود (تقصد جنود الاحتلال) ليعلموا من الذي اتصل بالبطريركية».
في حادثة أخرى، تتذكّر الأخت ماري تعرّضها للتحقيق من قبل ضبّاط الاحتلال، «عذّبونا كثيرًا، خاصة كرجال دين وراهبات كلّما أردنا التنقّل داخل فلسطين، أو الخروج والعودة إليها رغم امتلاكنا لتصاريح مرور من الفاتيكان».
رؤية الفلسطينيين يُضربون بالأسلحة الحربية تحوّل إلى «عادة» في المُدن الفلسطينية، «كنت أراهم بأمّ العين. اليهود يعتدون على المسلم والمسيحي. يعتدون على كلّ من يعتقدون أنّه يُشكّل خطرًا عليهم من دون تفرقة».
الاعتداءات الإسرائيلية على المسيحيين
صحيح أنّ الأخت ماري خرجت من غزّة سنة 2005، ولكنّ ما عاينته طيلة عشرين عامًا لم يتغيّر، لا بل ارتفعت وتيرته في السنوات الماضية.
خلافًا لبروباغندا العدّو بأنّه يحترم الديانات كافة ويوفّر الحماية لمختلف الجماعات، حاصرًا معركته مع المقاومة الفلسطينية، توفّر السلطات السياسية والأمنية الإسرائيلية الحماية للمستوطنين ليعتدوا على الفلسطينيين. يصعب تصديق أنّ مستوطنًا مُحتلًا يسرق أرض شعب آخر ووطنه سيتعامل «باحترام» معه، فأصل وجوده وقيام «دولته» يقوم على محو السكّان الأصليين. «يجب أن نتذكّر ما هي المسيحية بالنسبة لليهود. يجب علينا أن نتذكر أنّ ملايين اليهود الذين عاشوا في المنفى خلال الحملات الصليبية والتعذيب في محاكم التفتيش، والمؤامرات الدموية، والمذابح الجماعية، لن ينسوا أبدًا تلك الأحداث»، قال المستوطن إيليشع يارد (كان سابقًا الناطق باسم النائبة في الكنيست الإسرائيلي ليمور سون) على وسائل التواصل الاجتماعي. يتّفق يارد مع غيره من المستوطنين بأنّ «البصق على المسيحيين هو عادة يهودية قديمة ومُباركة»، مُبرّرين بذلك تزايد الحالات التي سُجّلت بهذا الخصوص بعد انتشار مقاطع فيديو تُظهر مستوطنين إسرائيليين يبصقون على الأرض أثناء خروج المؤمنين المسيحيين من إحدى كنائس البلدة القديمة بالقدس.
زادت الاعتداءات ضدّ المسيحيين الفلسطينيين في العام 2023 مقارنةً بالسنوات السابقة. «هناك اضطهاد يهودي يُشجّعه إما إهمال الشرطة أو التصريحات التي يُدلي بها وزراء الحكومة الإسرائيلية»، نقلت وكالة «أناضول» التركية في أكتوبر / تشرين الأول الماضي عن مُنسّق مجلس الكنائس العالمي في القدس، يوسف ضاهر.
من بين الاعتداءات التي سُجّلت بحق أبناء الدين المسيحي في فلسطين (الكثير منها قد يحصل ولا يُسجّل)، نذكر على سبيل المثال:
- يوم 16 ديسمبر 2023 قتل قنّاص إسرائيلي سيدتين داخل كنيسة العائلة المقدسة في قطاع غزّة.
- في 17 أكتوبر سنة 2023، ضربت القوات الإسرائيلية المستشفى الأهلي العربي المعمداني، الذي تُديره الجماعة الأنجليكانية، واستشهد فيه المئات. بعد يومين قصف العدّو كنيسة القديس برفيريوس، أقدم كنيسة في غزّة، بصاروخ مُباشر.
- في يناير سنة 2023، اقتحم مستوطنون مقبرة جبل صهيون البروتستانتية في القدس ودنّسوا شواهد القبور. في الفترة نفسها، اقترح مشرعون يهود مؤيدين لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فرض عقوبة السجن على التبشير المسيحي.
- هاجم مُستوطنون إسرائيليون حانة أرمنية في الحيّ المسيحي في البلدة القديمة بالقدس، هاتفين «الموت للعرب. الموت للمسيحيين».
- هجم صهاينة بالعصي على مسيحيين أرمن كانوا يُغادرون أحد الأديرة وحاولوا تسلّق جدران الدير لإزالة العلم الذي عليه الصليب.
- يعتدي اليهود المُتطرفين بشكل مُتكرّر على الكهنة والرهبان، أكان عبر البصق أو الضرب.
- دخل أحد المُتطرفين إلى الطابق السفلي من كنيسة الجلد التي تقع ضمن دير حبس المسيح للفرنسيسكان داخل أسوار البلدة القديمة للقدس، وأسقط تمثال السيّد المسيح الذي يبلغ طوله 10 أقدام، ودمّر وجهه جزئيًا.
- في نيسان سنة 2023، اعتدت الشرطة الإسرائيلية بالضرب على المُصلين في كنيسة القيامة، لأنّ عدد الذين حضروا للمشاركة في مراسم معجزة النار المُقدّسة فاق الـ1800 الذين أعلنت الشرطة الصهيونية أنّه سيُسمح لهم بدخول الكنيسة. ومُنح فقط 200 تصريح لمسيحيي غزّة، شرط أن تكون أعمارهم فوق الـ55 عامًا، ومع منعهم من زيارة القدس.
- مُنع المسيحيون سنة 2022 من الوصول إلى القبر المُقدس واعتُقلوا بوحشية في كنيسة القيامة في القدس خلال عيد الفصح الأرثوذكسي.
- تُمنع العائلات من تمضية عيدَي الفصح والميلاد مُجتمعة، إذ لا يُعطى تصريح الذهاب إلى بيت لحم لكلّ أفراد الأسرة.
- اقتحم جنود صهاينة دير الكريمزان في بيت لحم (الذي يُريد العدّو السيطرة عليه وعلى أراضيه المجاورة) واحتجزوا كلّ من بداخله قبل إطلاق سراحهم.
- كُشف سنة 2021 عن مُخطط صهيوني لمُصادرة أراضٍ تابعة للكنائس في جبل الزيتون، بالقدس الشرقية. وبعد ضغوط مارستها الكنيسة، قيل إنّه جُمِّد.
- في ديسمبر سنة 2020، حاول مستوطن إحراق كنيسة الجثمانية في القدس، فسكب البنزين وأشعل النار في جزء منها، قبل أن يتصدّى له حرّاس الأمن الفلسطينيون ويحتجزونه.
- كانت كنيسة رقاد السيّدة العذراء (حيث يعتقد المسيحيون أنّه توفيت العذراء مريم) عرضة لأكثر من اعتداء، كرشّ عبارات مُسيئة ليسوع ووالدته مريم على جدرانها.
- يُهدّد ويُرهّب المستوطنون الشخصيات البارزة في المجتمع المسيحي، كتمزيق إطارات سيارة تابعة لمحامي مركز «سانت إيف» الكاثوليكي لحقوق الإنسان في حيّ الشيخ جراح، القدس.
- أُلقيت قنابل حارقة على دير بيت جمال حيث تسكن راهبات بيت لحم، وشُوّهت جدرانه بنجمة داوود وعبارتَي «تدفيع الثمن» و«الانتقام» بالعبرية.
ما ذُكر هو بعضٌ ممّا يتعرّض له المسيحيون «في أرض المسيح». حوادث بدأت مع النكبة سنة 1948 من خلال التهجير ومُصادرة الأرض، وبدأت ترتفع وتيرتها وحدّتها بعد عام 2011 حين أطلق مستوطنون صهاينة حركة «تدفيع الثمن» لترهيب الفلسطينيين المسيحيين ودفعهم إلى مغادرة أراضيهم وإقامة مستوطنات جديدة.
رعّية الـ1%
«ضغط الاحتلال الإسرائيلي، الإكراه الدائم، السياسات التمييزية، الاعتقالات التعسفية، مصادرة الأراضي تزيد من الشعور العام باليأس لدى المسيحيين الفلسطينيين وتدفع بعضهم إلى الهجرة (…) استراتيجية «إسرائيل» تقوم على فكرة أنّ مجموعة من العوامل – الصعوبات الاقتصادية الهائلة، الحصار الدائم، نظام الفصل العنصري، وانهيار الروابط المُجتمعية والروحية – ستؤدي في النهاية إلى طرد جميع المسيحيين من وطنهم، ويُمكّنها من تصوير الصراع في فلسطين على أنّه نزاع ديني حتى تتمكّن من تصوير نفسها على أنّها دولة يهودية محاصرة وسط سكّان مُسلمين مُهيمنين إلى حدّ كبير في الشرق الأوسط». ورد هذا التحليل في مقالةٍ للباحث في مركز «أورفاليا للدراسات العالية والدولية بجامعة كاليفورنيا»، رمزي بارود تشرح سبب التراجع الكبير لأعداد السكان المسيحيين في فلسطين.
النكبة هجّرت نحو 35% من مسيحيي فلسطين، أما من تبقّى حاليًا فتُشير آخر الإحصاءات الفلسطينية الرسمية إلى أنّ نسبتهم لا تتخطّى الـ1% من عموم السكان
هجرة الفلسطينيين ليست محصورة بطائفة واحدة، وهي تُشبه ما يجري مع كلّ شعوب العالم التي تختار البحث عن مستقبل في بلاد أخرى لظروف إما سياسية أو اقتصادية أو عائلية. لكن هجرة المسيحيين من فلسطين لها طابعها الخاص كونهم «الحجارة الحيّة»، وهو اللقب الذي يُطلق عليهم لارتباطهم بالنسب مع المسيحيين الأوائل، ولأنّ التحالف الصهيوني – الغربي يُريد القضاء على المسيحيين في فلسطين عبر تهجيرهم إلى دول أمريكية وأوروبية من خلال بثّ دعاية أنّهم «لا يُشبهون مُحطيهم» و«يتميزون بمستوى تعليمي وثقافي أعلى».
النكبة هجّرت نحو 35% من مسيحيي فلسطين، أما من تبقّى حاليًا فتُشير آخر الإحصاءات الفلسطينية الرسمية إلى أنّ نسبتهم لا تتخطّى الـ1% من عموم السكان. وقد نشرت مؤسّسة الدراسات الفلسطينية سنة 2022 تقريرًا تذكر فيه أنّ «عدد المسيحيين في الضفة الغربية يبلغ نحو 50 ألفًا، بينما يبلغ عدد المسيحيين في قطاع غزة نحو 1200»، وذلك بحسب آخر الأرقام الصادرة أواخر سنة 2021.
ومن السخرية أنّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو يزعم بأنّ «عدد العرب في القدس – ومن بينهم المسيحيون – قد تضاعف ثلاث مرات» منذ احتلال المدينة عام 1967، في حين أنّ الأرقام تؤكّد العكس.
يوضح ابن حركة القوميين العرب أنّ «المسيحيين المُهاجرين لا يقطعون علاقتهم مع فلسطين. بل يعودون إلى الوطن للاستثمار فيه بعد أن يجنوا المال في الخارج، وخاصة بالنسبة للمتواجدين في أمريكا الشمالية وأوروبا».
حركة حماس تضطهد المسيحيين؟
منذ تسلّم حركة حماس الحُكم في غزّة سنة 2006، يُحاول العدّو بثّ أخبار في وسائل إعلامه، وعبر جهات خارجية، عن أعمال عُنف ضدّ المسيحيين. فضلًا عن التركيز على دور «المُبشّرين الإسلاميين» في الضغط على المسيحيين لإشهار إسلامهم:
- سنة 2011، نشر البرلمان الأوروبي عبر موقعه الإلكتروني تقريرًا يُفيد أنّه «بين عامي 2007 و2011، وقعت أعمال تخريب وهجمات بالقنابل على المدارس والمنازل والمؤسسات المسيحية، فضلًا عن حالات القتل ضد أفراد من المجتمع المسيحي». ونقل عن مُنظّمة كندية لم يُسمّها أنّه في نهاية عام 2009، «دنّس أعضاء حماس بشكل متكرر قبور المسيحيين واستخرجوا الجثث لتطهير التربة من جثث المسيحيين الذين يعتقدون أنهم لا يستحقون الدفن. وأجبرت حماس المسيحيين على التعاون معها، وإلا فالاغتصاب والانتقام من عائلاتهم». وبحسب التقرير، الذي لا يستند إلى أي معلومات دقيقة، «المُسلمون في الضفة الغربية أصبحوا أكثر عدائية تجاه المسيحيين الفلسطينيين».
- سنة 2012، نشرت وكالة «رويترز» عن إجبار عائلة مسيحية في غزة على اعتناق الإسلام ما أدّى إلى توتّر بين المسيحيين والمُسلمين. وأنّ المئات نظّموا احتجاجات أمام الكنيسة «للمُطالبة بعود أفراد طائفتهم الـ2500 الذين اختُطفوا على يد المُبشرين الإسلاميين وأُجبروا على اعتناق الإسلام».
تقريرا البرلمان الأوروبي ووكالة «رويترز» يُمثّلان عيّنة عن الكذب والبروباغندا لتقليب الشارع الغزّاوي ضدّ حركة حماس ونزع التأييد الشعبي لها. الأخت ماري تؤكد لـ«الكرمل» أنّه قبل العام 2006 «لم نشهد أي اعتداء أو ضغط من الفلسطينيين المُسلمين». هي غادرت غزّة قبل سنة من تسلّم حماس للحُكم، ولكنّها تؤكّد على «تعاملهم باحترام مع المسيحيين. وقد أخبرتني الراهبات لاحقًا كيف أنهنّ زرن حماس لتهنئتهم والعلاقة الجيّدة بين الفريقين».
معظم رجال الدين والفاعلين في المجتمع المسيحي يرفعون الصوت ضدّ اضطهاد اليهود المُتطرفين لهم، وإجراءات الحكومة الإسرائيلية تجاههم. حتى بطريرك الروم الأرثوذكس في القدس، ثيوفيلوس الثالث، المعروف بعلاقته الجيدة بحكومة الاحتلال، أكّد «أنّ وجودنا في القدس مُهدّد بسبب الجماعات الاستيطانية الإسرائيلية المُتطرفة التي تُحاول طرد المسيحيين الفلسطينيين من البلدة القديمة بالقدس».
لكن، فلسطين ليست استثناء في حصول توترات من حين لآخر بين المسيحيين والمُسلمين، «وخصوصًا من جانب عدد قليل من المتطرفين، كما حصل مثلًا عند وقوع انفجار في إحدى الكنائس في قطاع غزة سنة 2014 تبنّته جماعة إسلامية أصولية مرتبطة بـ«داعش»». وفي مقابلة نُشرت سنة 2015 مع كاهن غزّة سابقًا الأب مانويل مسلّم، يوضح أنّ هذه الأحداث «تُدينها حركة حماس بشكل منهجي وتُرسل عناصرها لحماية دور العبادة حين يكون هناك توترات أمنية. سنة 2014، فُتحت الكنائس ليلجأ إليها جميع سكان غزة هربًا من القصف الإسرائيلي». يُخبر مسلّم عن نفوذ المسيحيين في قطاع غزّة، بالإشارة إلى أنّ «30% من اقتصاد غزّة تُديره 10 عائلات مسيحية. المسيحيون لا يُعانون من تمييز ضدّهم».
وفي تلك الفترة، مثّلت حماس رأس حربة دفاع عن الوجود المسيحي وقاتلت «داعش» في غزّة. شنّت حملة مداهمات واعتقالات للعناصر المُرتبطة بالتنظيم الإرهابي. وواجهت كلّ محاولة لتفجير الوضع في غزّة. وكنتيجة لذلك، صدرت عن «داعش» مواقف تكفّر حماس، واعتبارها أنّ الحركة لا تحكم باسم الاسلام «ولا تريد أن تقيم إمارة إسلامية في غزة وإنما محاربة الإسلام»، مع التأكيد أنّ «العداء لحماس نابع من عدائها للدين وعدم تحكيمها شرع الله».
يهوذا الإسخريوطي سلّم مسيحيي فلسطين
يُعاني المسيحيون مثل بقية الفلسطينيين من وجود سلطة فلسطينية حوّلت نفسها إلى مُخبرٍ للعدّو. الأخطر وجود «يهوذا الاسخريوطي» بينهم، يتكلّم باسمهم ويُدير شؤونهم، أي المرجعيات الكنسية، الكاثوليكية والأرثوذكسية.
يهوذا الاسخريوطي، عيّنه يسوع المسيح أمينًا للصندوق، فسرقه وسرق أموال الفقراء. اختاره المسيح ضمن الـ12 تلميذًا الذين رافقوه، فتناول معه العشاء الأخير قبل أن يخرج ويُسلّمه مقابل ثلاثين من الفضّة. أعطاه يسوع فرصةً للتوبة والتراجع عن خطيئته، ولكنّه أصرّ على الخيانة… تمامًا كما أصرّ رؤساء الكنائس في فلسطين على خيانة رعيتهم ولقاء رئيس الكيان الصهيوني، إسحق هرتسوغ قبل أيام من عيد الميلاد المجيد (ديسمبر 2023)، أي في ذروة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. صافحوه، قهقهوا وإيّاه، تصوّروا معه، وعلى بُعد أميال منهم يدكّ جيشه منازل فوق رؤوس ساكنيها، ثم خرجوا يُبرّرون بأنّها زيارة «للمُطالبة بوقف شلّال الدم» وليس لتبادل المعايدات «كما جرت العادة». علمًا أنّ التبرير أتى لاحقًا لحملة الانتقادات التي شُنّت على رؤساء الطوائف، في حين أنّ ما صدر بعد اللقاء وما تبنّاه الجانب الإسرائيلي هو أنّها كانت زيارة «روتينية» للتهنئة بالأعياد.
غزّة هذا العام هي عنوان لمجزرة وحملة إبادة وتهجير جديد، ولكن فلسطين في كلّ عام هي عنوان لتوسّع استيطاني واعتقالات وقصف. فأن يكون هدف الزيارة مُختلفًا عمّا «جرت العادة» لا يُبرئ رؤساء الكنائس، بل يُعرّضهم أكثر وأكثر للمساءلة والمحاسبة. في الأصل، لماذا يجب أن «تجري العادة» على مُصافحة العدّو والتسليم بوجوده؟ المشكلة في التعاون والتنسيق بين البطريركية الأرثوذكسية والفاتيكان من جهة وسلطات الاحتلال من جهة أخرى. يبرز من داخل الكنيسة، مطارنة وكهنة ورهبان وراهبات يُعارضون سياسات مرجعياتهم ويتبنون علنًا خطابًا مقاومًا لسلطات الاحتلال، لكن سلوك السلطة الكنسية لا يعبّر سوى عن تحالف مع كيان الاحتلال، تمامًا كما هي حال السلطات الدينية الإسلامية في دول التطبيع.
- في ما خصّ بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية، هي تُعاني من أزمة عميقة ممتدة منذ عام 1948. تتبع «المقدسية» كنسيًا إلى اليونان التي غالبًا ما تُعيّن بطاركة يونانيين لا من العرب، «يتماهون مع المشروع الصهيوني. وبحجة الأزمة الاقتصادية، يقومون بتصفية العقارات التابعة للكنيسة، مُختبئين خلف دستور أملاك القبر المُقدّس الذي ينصّ على أنّ الأملاك تتبع للأمة اليونانية. مبنى الكنيست، ديوان الرئاسة، مسكن رئيس الحكومة والحاخامية الرئيسية، مبانٍ إسرائيلية أُقيمت على أرض الكنيسة»، يُخبر كهنة فلسطينيون «الكرمل».
إحصاءات المجلس المركزي الأرثوذكسي تُشير إلى أنّ البطريرك الحالي، ثيوفيلوس الثالث، وقّع 18 صفقة بيع عقارات مع العدّو. ثيوفيلوس الثالث ينتقد الصهاينة المُتطرفين في العلن، ولكن في الحقيقة هو حليف الاحتلال. فقد كشفت وثيقة «أُسس الاتفاق مع بطريركية الروم الأرثوذكس» عام 2007 أنّ «إسرائيل» رفضت الاعتراف بالبطريرك إلا بعد التزامه «بيع أملاك الكنيسة لإسرائيل فقط» وعدم المُطالبة باسترداد عقارات. أبرز الصفقات التي وقّعها ثيوفيلوس الثالث هي بيع 500 دونم إلى بلدية القدس المحتلة سنة 2017 مقابل قرابة الـ8 ملايين دولار، وبيع أملاك للبطريركية الأرثوذكسية لمصلحة جمعية «عطيرت كوهانيم». أما سلفه، البطريرك إيرنيوس فقد ذاع صيته بـ«صفقة باب الخليل» التي تضمنت بيع فندقَي البتراء والإمبيريال الواقَعين في ساحة عمر بن الخطاب في باب الخليل وعقارات أخرى داخل القدس المحتلة.
- من جهة البطريركية الكاثوليكية، فإلى جانب التنازل عن عقارات لمصلحة العدّو، يعترف الفاتيكان بـ«دولة إسرائيل» ويُقيم معها علاقات دبلوماسية. عام 1993، وقّعا اتفاقية من جملة ما نصّت عليه: «الفاتيكان ودولة إسرائيل يُعلنان تعّهدهما بالعمل على إيجاد حلّ سلمي ينهي النزاعات بين الدول والشعوب بغير العنف والإرهاب (…) يعتقد الفاتيكان من الملائم التذكير بحكم وضعه، بتعهده بالبقاء محايدًا عن جميع النزاعات الزمنية، ويسري هذا المبدأ خصوصًا على النزاعات في شأن الأراضي والحدود».
بعد عملية «طوفان الأقصى»، بقي الفاتيكان وفيًا لتعهداته بالبقاء على الحياد في «النزاعات الزمنية»… فوقف إلى جانب دولة الاحتلال. وأعلن الحبر الأعظم البابا فرنسيس «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها». وزار وزير الخارجية، بيترو بارولين، السفارة الإسرائيلية في الفاتيكان مُعبّرًا عن «مشاعر عميقة من الألم والتضامن»، داعيًا إلى الإفراج الفوري عن «الأسرى الإسرائيليين»، عارضًا وساطة الفاتيكان بين الاحتلال وحماس «لتجنّب إراقة الدماء».
أكثر من 20 ألف شهيد في غزّة، ولم يتنبّه البابا فرنسيس إلى أنّ «إسرائيل تستخدم أساليب الإرهاب، وتعرّض مدنيين عُزّل للقصف وإطلاق النار»، سوى بعد استشهاد امرأتين مسيحيتين في مجمع رعية العائلة المُقدسة.
الفلسطينيون المسيحيون يُعارضون بيع الأملاك لكيان الاحتلال أو تأجيرها لمدة 99 سنة، وقد سبق لأبناء الرعية اعتراض موكب ثيوفيلوس الثالث ورميه بالبيض ومحاولة منعه من الوصول إلى كنيسة المهد في بيت لحم. تمامًا كما لم يستجب المسيحيون عام 2014 للحملة الإسرائيلية لتجنيد الفلسطينيين المسيحيين وتبنّي الهوية الآرامية كبديل عن هويتهم العربية الفلسطينية. الحملة شارك في قيادتها الأب الأرثوذكسي جبرائيل ندّاف.
ومن جانبهم، اتهم الفلسطينيون الانجليكانيون في الضفة الغربية رئيس الأساقفة الأنجليكاني في القدس حسام نعوم «بتجاهل محنتهم». وراسلوا – بعد «طوفان الأقصى» – الزعيم الروحي العالمي لكنيستهم، جاستن ويلبي مُعبّرين عن «مخاوف من أنّ علاقة الحكومة البريطانية مع الزعماء اليهود تهمّ الآباء الأنجليكانيين أكثر من الحرية وحقّ العودة لأقدم مجتمع مسيحي في العالم».
الخاتمة
يُنقل عن بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية والرئيس الأعلى للطائفة الأرثوذكسية المصرية الراحل، شنودة الثالث قوله إنّ زيارة كنيسة القيامة بوجود الاحتلال هو خيانة ليسوع المسيح. موقف البابا الراحل عبّر عن التيار الغالب لدى المُجتمع المسيحي العربي عامة، والفلسطيني خاصة بعدم الاعتراف بالاحتلال وعدم تطبيع العلاقات معه حتى ولو كان تحت حجّة زيارة الأماكن المُقدسة.
معاداة الاحتلال والالتزام بالمقاومة ليس مُجرّد شعار يرفعه مسيحيو تلك البلاد، بل فعل إيمان يُجسدونه يوميًا. ففلسطين بالنسبة إليهم هي قضية مصيرية ووجودية، لا تقبل أي نوع من أنواع المساومة.
المسيحيون في فلسطين هم ضحية الاحتلال الذي لا يوفّر مناسبة إلا ويُنكّل بهم ويُهينهم. ما يُريده الصهاينة هو طرد المسيحيين من أرض المسيح، تمامًا كما يُحاول تهجير كلّ شعب فلسطين. هم أيضًا ضحية السلطة الفلسطينية التي تخلّت عن مقاومة الاحتلال، بكافة أشكالها، ومن ضمنها الحفاظ على أملاك الكنيسة لأبنائها العرب، واختارت عقد صفقات مع الصهاينة تضمن استمرار حُكم أفراد منها على حساب الوطن. أما الأخطر في حالة المسيحيين، فهي المواقف والاتفاقيات التي يعقدها رؤساء الكنائس مع الاحتلال وتُشوّه موقف المسيحيين وتهدّد وجودهم ماديًا، وتُوتّر علاقتهم بمحطيهم.
هذه العوامل الثلاثة تؤثّر على الوجود المسيحي في فلسطين وتُهدّده، وإن كانت لا تختلف كثيرًا عمّا يُعاني منه كلّ الشعب الفلسطيني. فالمصيبة مفروضة على الجميع. لكن المسيحيين، وهم «أقلية»، لا يحظون بقيادة سياسية (سلطة التنسيق الأمني) أو طائفية (السلطات الكنسية) تحافظ عل أملاكهم ووجودهم، فلا يجدون أمامهم من خيار سوى التمسّك بوطنيتهم وبمقاومتهم.