كان من التداعيات الهامّة الكثيرة للسابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 المجيد، ما حصل من انهيار للجيش الصهيوني في “غلاف” قطاع غزة، مما فاجأ الجميع: ابتداءً من قيادات الكيان الصهيوني، ومرورًا بقيادات أمريكا وأوروبا، وكل دول العالم، وصولًا إلى محور المقاومة، وكل الرافضين تاريخيًا لوجود الكيان الصهيوني. وربما فاجأ حتى المقاومين الذين انقضوا عليه، ونفلوه نفلًا، وأخذوه قتلًا وأسرًا، ضباطًا وجنودًا. ناهيك عن استسلام ميليشيا المستوطنات. وقد تجمع في أسر المقاومة ما لا يقل عن 120 عسكريًا، وبضع مجندات.
لا تسل عن حالات الغضب والخوف، وما تشكّل من روح انتقامية جامحة، حتى فقدان الصواب. وقد تحشد كل رؤساء الغرب للمساندة والدعم، وإعلان حرب الإبادة، وكان بالطبع لإدارة جو بايدن قوس السبق، وحامل المسؤولية الأكبر، في التصدي والانتقام، وتقديم كل أشكال المناصرة السياسية، والدعم المادي والعسكري، وإرسال البوارج، حاملات الطائرات إلى البحر المتوسط، استعدادًا للتدخل العسكري حيثما استوجب، وقد توزعت في الخليج أيضًا.
وبهذا، شنّت حرب إبادة من خلال القصف الجوّي الذي استهدف المدنيين بالجملة، وبيوت سكناهم، كما المساجد والكنائس والمدارس والمجمعات الكبرى والمستشفيات. وقد أسقط من حساب الحرب كل ما له علاقة بالقانون الإنساني الدولي، واتفاقات جنيف، وكل ما له علاقة بحقوق الإنسان، أو الأخلاق، أو أعراف الحرب. وأعلنت قيادات أمريكا والكيان الصهيوني، إسقاط كل ذلك من الحساب علنًا، وجهارًا ونهارًا، فلا شيء يعلو فوق حرب إبادة البشر وتدمير الحجر.
لا تسل عن الفرحة التي عمّت قلوب عشرات الملايين من فلسطينيين وعرب ومسلمين، وأحرار في هذا العالم. وقد جاءت هذه الفرحة بعد ألوان من الأحزان والآلام، كابدتها تلك القلوب، منذ نزول المشروع الصهيوني إلى التنفيذ، ولا سيما في الـ75 عامًا الأخيرة، بعد قيام “دولة” الكيان الصهيوني: الكيان الاستعماري الاستيطاني الاقتلاعي الإحلالي، والمغمّس بدماء الشعب الفلسطيني، والعرب، جيلًا بعد جيل.
جاء هذا المشهد أمام عيون تلك الملايين، وهي ترى انقضاض ثلة من المقاومين المؤمنين من “كتائب عز الدين القسام” على “فرقة غزة” المؤلفة من 1500 جندي وضابط، يُعتبرون من النخبة، ومن الموكلين بقطاع غزة، وصولًا إلى سيناء، وربما مصر كلها. وإذا بتلك الفرقة التي خاضت الحروب ضد قطاع غزة، والجيش المصري منذ العام 1954، وكم ألحقت من هزائم ومذابح وأسر وتنكيل وإذلال، تذوق اليوم طعم الهزيمة والقتل والأسر. فكيف هي فرحة القلوب التي رأت عيناها ذلك المشهد الذي لا مثيل له.
وبهذا بدأت ملاحم ما بعد السابع من أكتوبر، في مواجهة ويلات حرب الإبادة، التي لم تشهد جنديًا، وإنما طائرات أمريكية محمّلة بذخائر أمريكية، ويقودها مجرمو الطيران الصهيوني. مما حوّل احتمال الشعب لما لا يُحتمل، إلى أسطورة في الصمود والبطولة، إيمانًا واحتسابًا، ولو كان كرهًا ولا مجال لدفعه أو وقفه.
ثم اندلعت الحرب البريّة التي تستحق أن تسمى حربًا على العكس من “حرب” الإبادة التي خرجت من أن تكون حربًا، بسبب حصر كل فعلها في قتل المدنيين، وتدمير المنازل والمساجد، وصولًا إلى تجمعات الاحتماء في مدارس وكالة الغوث والمستشفيات.
بالتأكيد طار ما عشنا من فرح استثنائي في السابع من أكتوبر أمام المجزرة\المجازر المتواصلة، المتصلة، ساعة بعد ساعة، ونهارًا وليلًا، ويومًا بعد يوم، لمدى فاق الشهرين، لتحلّ محله الأحزان والآلام النفسية التي لا تنسى أبد الدهر. ولكن الذي أعاد، ليس الفرح، وإنما الشعور بالعزة والكرامة والقوّة والبأس، جاء من خلال المقاومة، التي لا مثيل لها في التغلب والانتصار في الحرب البريّة. وذلك في مواجهة نديّة بمسافة صفرية بين المقاوم الخارج من الأنفاق، والجندي والدبابة، ووراءهما جحافل من فرق الجيش وطيرانه “الثقيل” و”المتوسط” و”الخفيف”، أي من إف-35 إلى المسيّرات.
إذا كانت ساعات الفرح في السابع من تشرين الأول/أكتوبر, لحظات لا تنساها القلوب المعجونة بالحزن والأسى والصدمات، وإذا كانت قد أصبحت ذكرى لا تتكرر، بسبب ما عرفته تلك القلوب نفسها من أحزان، نتيجة ما رأت من أشلاء تسحب من تحت الركام، وما رأت من أطفال، وخدج، يموتون بسبب الحرمان من الدواء والعلاج والكهرباء والطعام، وما رأت من آباء وأمهات يحملون بقايا أجساد أطفالهم إلى الحفرة الممتدة- المقبرة الجماعية… إذا منعت تلك الأحزان الفرح ليدخل قلوبنا من جديد، إلا أنه قد عوّضتنا المقاومة المنتصرة في الميدان. إذ ملأت قلوبنا بالعزة والعزيمة والشعور بالفخار، وبكبرياء المستضعفين حين يمنّ عليهم بالنصر، ولكنه كبرياء غير كبرياء المستكبرين.
يا لعظمة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تبعه من أسطورة، تحمّل قسوة موت الأحبة كبارًا وشبابًا وأطفالًا، تحت ركام البيوت التي أطاح بها القصف الإجرامي الوحشي بلا حدود. ويا لعظمة ما تبعه من نصر المقاومة في الحرب البريّة، وإنزالها الهزيمة بالعدوان الصهيوني الأمريكي، وكل من دعمه.
بكلمة: إنّ هذه العظمة تجعل الذين عاشوا ذلك اليوم، وما تلته من أيام، وكانوا ممن أحبّوا فلسطين محرّرة من النهر إلى البحر، يعيشون أيامًا تساوي ألف عام، تساوي الدهور.