لا يمكن مقارنة الحرب الدائرة في غزة حاليًا بأي حرب خاضتها “إسرائيل” سابقًا، لا ضد الدول العربية ولا ضد حركات المقاومة، بدءًا من معركة الكرامة في العام 1968 وصولًا إلى حرب لبنان الثانية. ومن المؤكد أن الإسرائيلي الذي يقاتلنا اليوم، ليس هو نفسه الإسرائيلي الذي قاتلناه أو عرفناه في السنوات الماضية. وما يجري في غزة الآن ليس مرتبطًا بما يسمى “المعركة بين الحروب”، أو سياسة “قص العشب”، التي عملت بها “إسرائيل” في السنوات الماضية لمنع تعاظم قوة المقاومة في فلسطين. بل لا يمكن مقارنة الحرب على غزة وحجم الدمار وكثافة القصف والزخم بما جرى في تموز عام 2006.
ففي الساعات الأولى بعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر الماضي، أعلن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، الحرب على قطاع غزة، وفرض قانون الطوارئ على المجتمع الإسرائيلي، واستدعي الاحتياط بشكل واسع وكبير شبيه بما جرى في “حرب الغفران” في أكتوبر من العام 1973.
ما يجري في غزة اليوم إعلان حرب هي بالنسبة لـ”إسرائيل” حرب وجود وحرب “الاستقلال الثانية”، تهدف منها إلى تثبيت وجودها، في حال انتصرت فيها، لـ٧٥ عامًا أخرى. في حرب “الاستقلال الأولى” التي أسست الكيان عام 1948، نفذت العصابات الصهيونية مجازر عدة وسمحت لنفسها بفعل أي شيء لتأكيد وجودها، واليوم يعيد أحفاد عصابات “الهاغاناه” و”ليحي” و”الارغون” تكرار السيناريو نفسه مع أبناء قطاع غزة لدفعهم للخروج منه.
ما يجري في غزة الآن، على المستوى العسكري، هو خلاصة السنوات الماضية من دروس ونظريات وعقائد وضعها رؤساء هيئة الأركان السابقين، وخلاصة تجربة العدو في حرب لبنان الثانية، وحروبه اللاحقة. وما اختلف هذه المرة هو سرعة مباشرة العدو في تنفيذ المناورة البرية التي طالما تخوّف منها. فـ”إسرائيل”، ومن خلفها جيشها، تدرك أن ما جرى في صباح السابع من أكتوبر وضع الكيان على سكة الزوال.
لذلك، بدأ العدو حربه بتنفيذ خطة “جدعون” (عقيدة الضاحية الجنوبية) بتدمير المباني في غزة كما جرى في ضاحية بيروت الجنوبية إبان حرب 2006، والتي وضعها رئيس هيئة الأركان السابق غابي ايزنكوت في العام 2008عندما كان قائدًا للمنطقة الشمالية. وأظهرت كثافة النيران والقصف الجوي والبحري والبري والتنسيق بين أذرع الاستخبارات والجو والبحر والبر والتواصل المباشر في ما بينها هو تنفيذ لخطة “تنوفا” (الزخم) التي وضعها رئيس هيئة الأركان الأسبق افيف كوخافي في العام 2020.
الحرب التي تخوضها غزة الآن لا مثيل لها، والإسرائيلي الذي نقاتله اليوم يختلف عمّن قاتلناه في السابق. العدو الذي كان يخاف على حياة جنوده لم يعد يكترث لذلك، فهو تجاوز صدمة الدم بعد الضربة الافتتاحية التي شنتها المقاومة ضده في السابع من أكتوبر. من دفع 1200 قتيل (خفضت “إسرائيل” الرقم من 1500 قتيل إلى 1200) لن يكترث لموت مئات آخرين من جنوده يضافون إلى سجل الأرقام ليصلوا الى الـ 1500 الذين أعلن عنهم سابقًا. كما أظهرت تحقيقات شرطة العدو أن الجيش الإسرائيلي قتل عددًا كبيرًا من المستوطنين في كيبوتس راعيم، وذلك بحسب ما كشفته صحيفة “هآرتس” (18-11-2023). كما أن تنفيذ الجيش إجراء “هنيبعل”، أي قتل الخاطف والمخطوف (المدني وليس العسكري)، يؤكد أن العدو الذي نقاتله اليوم لم يعد كما كان، وأن صفعة السابع من أكتوبر غيّرته.
تمكنّ المقاومة من الصمود، إلى الآن، بوجه الحرب المجنونة التي تشنّها “إسرائيل”، هو إنجاز بحد ذاته. وهنا الكلام ليس بهدف رفع المعنويات، إذ جنّدت “إسرائيل” ما يقارب 350 ألف جندي بين قوات نظامية واحتياطية، ينتشر منها في محيط قطاع غزة ما يقارب الـ140 ألف جندي، معهم 1000 آلية مدرعة تتوزع بين جرافات الـD9 ودبابات الميركافاه الجيل الثالث والرابع، عدا عن أنواع الطائرات التي تحلق في سماء غزة كل الوقت.
وبرغم من هذه القوة الإسرائيلية، ومن دعم الدول الغربية، وتحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، عسكريًا واستخباراتيًا، لا تزال المقاومة في غزة صامدة؛ لم يخرج مقاتل واحد رافعًا راية بيضاء، والمواجهات لا تزال مستمرة في مناطق يفترض أن العدو قد تجاوزها، فلا زلنا نسمع عن مواجهات واشتباكات شمال قطاع غزة وفي المناطق الخلفية لأماكن وجود العدو. التحكم والسيطرة لدى المقاومة الفلسطينية لا يزال بخير، فبعد تبجّح العدو بعدم تمكّنها من إطلاق الصواريخ إثر سيطرته على شمال القطاع، أطلقت عددًا كبيرًا منها على تل أبيب وعسقلان والداخل المحتل. كما أن قدرة “كتائب القسام” على ضبط مكان إجراء عمليات تبادل الأسرى، في الشمال تحديدًا، والخروج بكامل تجهيزاتهم وعتادهم العسكري بآلياتهم، دلّ على أن قدرة المقاومة ربما تكون قد تضررت لكنها لم تتأثر.
من غير الواضح كيف سيكون شكل إنهاء الحرب. إلا أن المؤكد أن ما يجري الآن في غزة هو لفظ الثور الإسرائيلي أنفاسه الأخيرة. أمريكا تدرك أن “إسرائيل” انتهت، لذلك دعمها لها غير محدود، ومن المؤكد أن “إسرائيل” لن تنتصر، فبهذه القوة الكبيرة التي تفوق عدد القوات التي شاركت في حرب أكتوبر عام 1973، ضد مصر وسوريا (والأردن جزئيًا)، لم تستطع، مع مرور 64 يومًا، تحقيق أي إنجاز ميداني على الأرض. هذه المعركة هي أطول حروب “إسرائيل”، أطول من “حرب الاستقلال الأولى”، لكن في نهايتها لن تبقى “إسرائيل” كما عرفناها بعد “الاستقلال”.