العودة إلى الحرب، وبتصعيد ميداني فوري، ضد المدنيين، وضد ما تبقى من بيوت سكنية، والعودة بالطبع إلى الحصار المطبق، والحرمان المطلق، للدواء والطعام والوقود والماء، جاء بعد توقع أن تمتد الهدنة الإنسانية إلى بضعة أيام أخرى، أو حتى الوصول إلى وقف إطلاق النار. الأمر الذي أعاد مشاهد القتل الجماعي، والتدمير الواسع إلى ما كانت عليه. وذلك مع عودة التصميم من جانب نتنياهو وشركائه، على التأكيد، بأنها عودة لن تتوقف. ويجب أن تحقق أهداف الحرب بالقضاء على المقاومة، وتحرير “الأسرى” عنوة واقتدارًا.
من يتابع مجريات القصف الجوي والمدفعي والصاروخي، يتأكد أن العودة إلى الحرب لا رجعة عنها. وهذا ليس موقف نتنياهو وحده، وإنما هو موقف تحالفه في الحكومة، وفي حكومة الطوارئ المصغرة أيضًا.
السؤال: هل صحيح أن الحرب سوف تستمر عدة أشهر، كما يتوعد قادتها السياسيون والعسكريون، أم من الممكن أن يتحدّد اتفاق هدنة مدنية، وعودة لتفاوضٍ قادم من قِبَل رؤساء مخابرات الوسطاء الثلاثة (أمريكا ومصر وقطر) من أجل وقف إطلاق النار.
إنّ العوامل التي تجمّعت لفرض الهدنة الإنسانية السابقة، وتمديدها، ما زالت قائمة، وضاغطة، مثل اضطرار أمريكا تحت ضغوط الرأي العام الغربي، والداخل الأمريكي، فضلًا عن ضغوط على مستوى الحزب الديمقراطي، وكوادر في الخارجية من جهة، والقناعة الأمريكية، بفشل إمكان تحقيق أهداف الحرب المُعلنة، صهيونيًا وأمريكيًا، وغربيًا، من خلال الحرب البريّة، كما أثبتت وقائع الحرب بأن خسائرها هائلة من جنود وضباط وآليات، من دون إنجاز عسكري واحد، يُعتدُّ به، من جهة أخرى. وطبعًا تجب إضافة التظاهرات العربية والإسلامية والعالم ثالثية، إلى جانب ضغط غالبية دول العالم، لوقف الحرب الإبادية الإجرامية ضد المدنيين. فضلًا عن تكرار هول ما وصلته مآسي تعطيل المستشفيات، وتفاقم مخاطر الحرمان، من الماء والطعام والدواء والوقود على الأطفال، خصوصًا (موت الخدج)، والمرضى والجرحى.
هذه العوامل، وأولها من حيث الأهمية، هي انتصارات المقاومة في الميدان، وصمود الشعب العظيم، بالرغم من المجزرة المستمرة المتواصلة، والمتصلة ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم، لمدى كاد يقارب الشهرين. هذه العوامل ما زالت قائمة وضاغطة، خصوصًا على إدارة بايدن، لتحاول التمويه عن شراكتها بالجريمة، من خلال الضغط لهدنة إنسانية، وما حصل من تمديد لها. الأمر الذي دفعها إلى الضغط على نتنياهو وشركائه، للإذعان بقبول هدنة الأربعة أيام، وتمديدها ثلاثة أيام أخرى. أي أن الموقف الأمريكي “مزدوج” ومرتبك، ولا يُحتمل.
ولكن لم يكن، في المقابل، من الممكن لقادة الكيان الصهيوني، ولقادة إدارة بايدن أيضًا، أن يبتلعوا رؤية المقاومة مسيطرة على الوضع، إلى الحد الذي ظهر من خلال الهدنة، وعمليات تبادل الأسرى. ومن ثم لم يكن بمقدورهم تصوّر تكرار وضع الهدنة نفسه، ممتدًا إلى ما بعد وقف إطلاق النار. لذلك، عادت إدارة بايدن لتغطية عودة الجيش الصهيوني، ومشاركته الحرب البرية، والهجوم على المدنيين، وذلك بادّعاء أن “حماس” هي التي خرقت الهدنة، من خلال عملية القدس، في صباح اليوم السابع من الهدنة. وهي حجة مفتعلة للعودة إلى الحرب، ولكن أشيع أن أمريكا تريدها لأسابيع لا لأشهر، كما يريد نتنياهو، لأن العوامل التي أجبرتها على الذهاب إلى الهدنة الإنسانية ما زالت قائمة ومرشحة للتصاعد (جميعها) ابتداءً من تعاظم قدرات المقاومة وتصديها للحرب، ثم استعداد الشعب لمزيد من التحمّل والصبر الاضطراريين، إيمانًا واحتسابًا، كما تصاعُد ضغوط الرأي العام العالمي والأمريكي والغربي، وما يمكن أن يتطوّر على مستوى الدول ومستويات أخرى، خصوصاً، محور الجبهات المقاومة، في لبنان واليمن والعراق وسورية.
إنّ انتقال كل من قيادتي أمريكا والكيان الصهيوني، لإطلاق الحرب العدوانية والوحشية الإبادية من جديد، جاء لأسباب معانِدة لموازين القوى التي أجبرتهما على الذهاب إلى الهدنة، وكانت تفرض الرضوخ لوقف إطلاق النار. ومن ثم ابتلاع بقاء المقاومة والشعب في قطاع غزة، هو ما يقررا مصير المرحلة التالية (بعد وقف إطلاق النار).
ولهذا، من سوء التقدير تحدي ميزان القوى العام، وعدم الاتعاظ بنتائج الحرب البريّة، والصمود الأهلي الأسطوري. كما الاتعاظ بما نشأ من إرادة شعبية وضميرية عالمية، وضعت أمريكا والغرب في قفص الاتهام. وذلك من حيث التشارك مع الكيان الصهيوني، باقتراف جرائم الحرب والإبادة، وانتهاك القانون الإنساني الدولي، والقوانين الدولية. فضلًا عن تفاقم تراجع هيمنة أمريكا على نظام الأحادية القطبية، لحساب الصين وروسيا ودول العالم بعامة.
إنّ الدوافع الأساسية وراء الإصرار الصهيوني على مواصلة الحرب ودعم أمريكا له ينبعان من روح الانتقام، ومن رغبات السيطرة، وعدم قبول المعادلة الجديدة، ما بعد 7 أكتوبر، وليس من حساب دقيق لميزان القوى، وما سيترتب من نتائج سلبية أو وخيمة، عندما يعودان مرة أخرى، لطلب الهدنة ووقف إطلاق النار، وبهزائم ميدانية وسياسية، وخسارة أكبر للرأي العام، ولمعركة القِيَم العليا والأخلاق