العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يمثّل اختبارًا لعملية إعادة العلاقات بين تركيا و”إسرائيل”. في البداية، كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أكثر اعتدالًا بشكل ملحوظ على عكس التصعيدات السابقة، لكن بدأت تتصاعد حدة خطابه مع تنامي وحشية أعمال الإحتلال. ووصف تصرفات “إسرائيل” بأنها “ليست حربًا، بل مذبحة للمدنيين” مُعتبرًا أن هجماتها “غير المتناسبة والتي لا أساس لها” على غزة تؤدي إلى تشويه سمعتها دوليًا.
وجاء الهجوم المفاجئ، “طوفان الأقصى”، الذي شنته “حماس” ضد الاحتلال في 7 أكتوبر/تشرين الأول في وقت تسعى فيه أنقرة إلى تعميق تقاربها مع “إسرائيل”، متطلعة إلى التعاون الاقتصادي، خاصة في مجال الطاقة حيث سيتم نقل الغاز الإسرائيلي إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا. لذا، يبدو أن الزعيم التركي عالق بين المطرقة والسندان وأن الحفاظ على صورته كمدافع عن فلسطين، خصوصًا لدى التيارات الإسلامية السياسية في المنطقة، سيكون أمرًا صعبًا.
إردوغان منخرط في لعبة توازن دقيقة؛ فمن ناحية هناك تعاطف الشعب التركي والعربي والإسلامي مع القضية الفلسطينية. وعلى الجانب الآخر، هناك علاقة تركيا المتنامية مع إسرائيل بعد سنوات من العلاقات المتوترة حيث استعادت أنقرة وتل أبيب علاقاتهما الدبلوماسية بالكامل في عام 2022، بعد أشهر من لقاء الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ مع إردوغان في أنقرة. لكن، إذا أصبحت الحرب على غزة مكلفة سياسيًا بالنسبة لإردوغان “داخليًا”، خاصة وأن الانتخابات المحلية من المقرر إجراؤها في آذار\مارس 2024، فقد يختار خفض مستوى العلاقات مرة أخرى، وهذا نسبيًا قد يكون مُستبعدًا؛ فالجبهة الداخلية التُركية تشعر بأن تدهور اقتصادها جاء بسبب تدخلات تركية واسعة في الإقليم وأن من اللازم تغيير هذه السياسات، ولن يستطيع الإنحياز أكثر لقضية يمكن أن تستغل ضد حزبه خصوصًا مع تنامي موجة كراهية ضد “العرب” واللاجئين.
بالعودة إلى عام 2011، ومع اندلاع الانتفاضات في الوطن العربي وما وقع بعدها من أحداث، منحت تركيا ملاذًا آمنًا للعديد من الإسلاميين ودعمت بسخاء منظماتهم العاملة في البلاد. وفي أوقات الصراعات الداخلية، مثل محاولة الانقلاب في عام 2016 أو الاستفتاء الدستوري في عام 2017، رحّب حزب العدالة والتنمية بدوره بدعم الإسلاميين لإردوغان. ومع ذلك، فإن الإيديولوجية ليست السبب الوحيد وراء العلاقة بين الإسلاميين وإردوغان، فالمصالح مهمة أيضًا. وكثيراً ما كان يُنظر إلى تركيا على أنها قوة معادلة للحكام العرب “المستبدين”، الذين يرون في الإسلام السياسي تهديدًا لبقائهم، ولكن ساهمت سياسة أنقرة الخارجية الصدامية والبصمة العسكرية المتزايدة لعدم التطابق بين طموحات تركيا المعلنة وقدراتها الفعلية لتصبح معزولة بشكل متزايد.
منذ عام 2020، كان التحول في سياسة تركيا مدفوعًا بمجموعة من العوامل، بما في ذلك المشاكل الاقتصادية التي تواجهها أنقرة، وانتخاب الرئيس الأمريكي جوزف بايدن، وإعادة التنظيم الجيوسياسي في المنطقة بعد اتفاقيات “ابراهام” التطبيعية، وعودة اتصالات بعض البلدان العربية مع الحكومة السورية، وإصلاح العلاقات بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر مع قطر. كما شعرت أنقرة بالقلق من التعاون المتزايد بين اليونان وجمهورية قبرص و”إسرائيل” ومصر في شرق البحر الأبيض المتوسط.
لذا، نأَت تُركيا بنفسها عن الإسلاميين العرب للمساعدة في إصلاح علاقاتها مع الجهات الفاعلة الإقليمية، بما في ذلك “إسرائيل”. وطلبت الحكومة التركية من القنوات الإعلامية التابعة لجماعة “الإخوان المسلمين” التخفيف من حدة انتقاداتها، فيما طلبت من أعضاء بجماعة “الإخوان المسلمين” و”حماس” مغادرة تركيا. وقد كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة مدى رغبة الإنخراط التُركي في هذا الصراع، فيما لم يقم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بزيارة تركيا خلال رحلته الأولى للمنطقة، حيث كان يضغط على الدول العربية في المنطقة لإدانة حركة “حماس”، وتحرير الرهائن، ومنع التصعيد المحتمل إلى حرب إقليمية. وحاولت تُركيا أن تنخرط بشكل مُخفف مع الصراع، حيث اشترك وزير الخارجية التُركي حقان فيدان في “مؤتمر السلام” المصري الذي عُقد لبحث تطورات الحرب على القطاع، واقترحت أنقرة الوساطة لكن أوضح السفير الإسرائيلي في أنقرة أن الوقت لم يحن بعد.
ومن ألمانيا استمر إردوغان في نقد “إسرائيل” كلاميًا، بينما استمرت تُركيا في إرسال الشُحنات التُجارية إلى الموانئ الإسرائيلية حيث وصلت ما يقارب 300 سفينة خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول، بالإضافة إلى صفقة فولاذ بلغت قيمتها 50 مليون دولار حصلت عليها تل أبيب من المصانع التركية، وأخيرًا تأمين تمرير النفط الأذربيجاني لـ”إسرائيل” عبر ميناء جيهان التُركي. وعمومًا، فإن ردود فعل أنقرة المُختلفة، بين كلامية إردوغان والسياسة الواقعية السلبية تمامًا تجاه الهجوم الوحشي الذي تشنه “إسرائيل” على المدنيين والانتقام واسع النطاق الذي أدى إلى دمار شامل وخسائر في الأرواح في غزة، وبين الدعم الأمريكي القاطع وغير المشروط للسياسة الإسرائيلية، يظهر أنه بعد عقدين من سياسة توسيع الدور في الإقليم، أصبحت أنقرة لاعبًا هامشيًا، ولا يمكنها أن تُقدّم الكثير. لذاـ تُحافظ على مستوى مكاسبها الإقتصادية مع “إسرائيل”، ويرجع ذلك جزئيًا إلى هشاشة علاقات تركيا مع الفاعلين الآخرين، خصوصًا “حماس” والولايات المتحدة.