من المباح القول أن سمة الأممية في النضال العربي الفلسطيني سمة غالبة، فمنذ الستينيات كانت البنية النظرية والعملية للمقاومة الفلسطينية على تفاعل نشط مع مفهوم الأمة العربية والعالم-ثالثية. وهو ما استمر مع انبثاق المقاومة الفلسطينية بصبغتها الإسلامية؛ فلسطين قضية إسلامية تخص المسلمين كافة، أو قضية “الأمّتين العربية والإسلامية”. وصولًا إلى التكامل التاريخي اليوم لهذه الخطابات وهو شمل الجميع على شكل مخاطبة الأمّة العربية والإسلامية وأحرار العالم، وهو ما أمسى النمط المعتمد للمتحدّثين باسم المقاومة وأحزابها وفصائلها.
بل من الممكن الجزم أنه وعلى مدار التاريخ العربي في فلسطين، فإنه هناك علاقة سببية بين تدهور الوضع السياسي والنضالي مع بروز وطنية فلسطينية انعزالية؛ تكيّف الهوية الفلسطينية ضمن إطار ضيق يخدم بالدرجة الأولى نخبة متعاونة مع الاحتلال، في محاولة استنساخ رديئة للوطنيات العربية تحت مسمى “الدولة الفلسطينية”.
والأمر ليس وليد التسعينيات مع اتفاقية أسلو فحسب، بل يخبرنا محمد مصلح في كتاب The Origins of Palestinian Nationalism عام 1988، أنه وفي العشرينيات من القرن الماضي واجه المجتمع العربي في فلسطين، أو جنوب سوريا كما يشار له حينها، استقطابين:
الأول، هوية فلسطينية منغلقة إلى حد بعيد. والثاني، للهوية القومية العربية.
وكانت الغلبة للأولى، مع تفضيل الطبقة الاقطاعية لحصر مصالحها ضمن هذا الإطار، ولفشل القومية العربية في تجاوز مسألة الخطابات الشاعرية والعاطفية نحو تنظيم ومأسسة حقيقين.
والشاهد هنا، أن الانكفاء عن الأمّة إقطاعيًا فلسطينيًا أدّى بنا لنتائج كارثية؛ من محاربة الشيخ عزالدين القسام، وهو ما يؤول للنكبة، ومنذ التسعينيات في محاربة القساميين من مختلف الفصائل والأراضي العربية السورية في شرق الأردن وجبل عامل ولبنان والشام.
قليلة تلك الخطابات أو الرسائل أو الظهور للضيف، وهو ما يعزى للظروف الأمنية، من جهة، ومن جهة أخرى للتوظيف الميداني والسياسي الأقصى لخطاب قائد الأركان، تحشيدًا للجمهور وردعًا للعدو الصهيوني. يمكننا حصر خطاباته خلال الـ18 عشر عامًا الماضية وهي خمسة خطابات صوتية:
1- تحرير غزة والاندحار من شمال الضفة عام 2005
2- خطاب معركة “حجارة السجيل” عام 2012
3- وخطاب معركة “العصف المأكول” عام 2014
4- وخطاب ذكرى انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عام 2022
5- وبيان 7 أكتوبر في معركة “طوفان الأقصى” عام 2023.
ولمن يدرس هذه الخطابات، يلاحظ قاسمًا مشتركًا بينها جميعها؛ أنه رغم تنوع الظروف بينها، سواء في التخليد لنصر أو في ظل احتدام حرب وعدوان قاس، أبقى “أبو خالد” على تمسّكه بمفهوم الأمّة، مخصصًا لخطابها وندائها حيّزًا لا يتزحزح.
في رسالة خاصة بمناسبة الاندحار الصهيوني عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية عام 2005، يقول:
“أبناء الأمّتين العربية والإسلامية… نشكر لكم مؤازرتكم لنا في جهادنا، وبذلكم عطائكم في دعم الجهاد والمقاومة في فلسطين، ونسأل الله أن يكتب لكم أجر جهادنا ومقارعتنا للصهاينة الغزاة المدحورين بإذن الله. أهلنا الأحباب في العراق الصابر والمحتسب… شاء الله عز وجل أن تبتلوا كما ابتلينا، إنّ تحرير غزة لنا ولكم ولكل الأحرار في العالم درس وعبرة، فلا تتركوا سلاحكم، وقاوموا أعداءكم حتى تمريغ أنوفهم في التراب، وما ذلك على الله بعزيز، أعانكم الله وقواكم ووحد صفوفكم، وثبت عزائمكم، وسدد رأيكم ورميكم… وختامًا… نقول معًا وسويًا حتى تحرير المسجد الأقصى المبارك”.
أمّا في معركة “حجارة السجيل“ 2012:
“يا أبناء شعبنا ويا أمّتنا الإسلامية ويا أمّتنا العربية، إن هذه المعركة حجارة السجيل بعد فضل الله تعالى ثم وقفة أبناء شعبنا وأمتنا كانت بعد إعداد متواصل وبعد جهد بذل وعرق ودماء سالت وشهداء مضوا خلال التدريب والتصنيع والإعداد فهي نتاج لسنوات من الإعداد بعد حرب الفرقان وستكون بإذن الله بداية ونقطة انطلاقة لمرحلة التحرير القادم بإذن الله تعالى، ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ونخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، فالمطلوب حشد جميع طاقات الأمّة لاجتثاث الكيان الصهيوني الغاصب فقد طال أمده وحان الوقت لتطهير المسجد الأقصى من دنسه، ولا بد للأمّة من إسهام ودور فاعل في التحرير القادم، هذا عهدنا وهذا وعدنا باذن الله”.
وخلال معركة “العصف المأكول“ 2014 الصعبة والمريرة:
“يا أمّتنا ويا أبناء شعبنا نقدر لكم وقفتكم واعلموا أننا بكم من بعد الله أقوى وأنهم لن يضروكم إلا أذى وأن النصر صبر ساعة”.
ومنذ أشهر قليلة في الذكرى الخامسة والثلاثين لانطلاقة “حماس“ عام 2022:
“لتتوحد كل الرايات ولتلتئم كل الجبهات ولتفتح كل الساحات لهدف واحد وغاية كبيرة نبيلة مقدسة وهي تحرير فلسطين وإعادتها إلى حضن الإسلام”.
وأخيرًا، وليس آخرًا (إن شاء الله!)، بيان 7 أكتوبر بداية معركة “طوفان الأقصى”:
“يا اخواننا في المقاومة الإسلامية في لبنان وإيران واليمن والعراق وسورية هذا هو اليوم الذي تلتهم فيه مقاومتكم مع أهلكم في فلسطين ليفهم هذا المحتل الرعديد أنه قد انتهى الزمن الذي يعربد فيه، اغتال العلماء والقادة قد انتهى، زمن نهب ثرواتكم قد انتهى، القصف شبه اليومي في سورية والعراق، لقد انتهى زمن من راهنوا على تقسيم الأمّة وبعثرت قوتها في صراعات داخلية وآن الأوان أن تتحد كل القوى العربية والإسلامية لكنس هذا الاحتلال عن مقدساتنا وعن أرضنا.
يا أهلنا في الأردن ولبنان، في مصر والجزائر والمغرب العربي، في باكستان وماليزيا وأندونيسيا، في كل أنحاء الوطن العربي والإسلامي، ابدؤوا بالزحف اليوم الآن وليس غدًا نحو فلسطين ولا تجعلوا حدودًا ولا قيودًا ولا أنظمة تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى”.
لم يبدأ الأمر بالظهور الصوتي في موقع القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسّام، بل تعود “الوحدة الإسلامية” و”الأممية” عند الضيف إلى عام
لم يبدأ الأمر بالظهور الصوتي في موقع القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسّام، بل تعود “الوحدة الإسلامية” و”الأممية” عند الضيف إلى عام 1994 وفي أبرز العمليات القسامية التي تتعلق بالأسر والتبادل بالعملية المعروفة باسم الأسير الصهيوني فاكسمان؛ حيث لم تحدّ الضيف الحدود الفلسطينية للصراع ليشمل معتقلي المقاومة الإسلامية في لبنان في مطالب التبادل، مؤسسة لسابقة على توحيد الساحات في أحلك ظروف الثورة الفلسطينية. وكذلك، رسالته للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في شهادة نجل القائد عماد مغنية، جهاد مغنية، مع ثلة من المقاومين في سورية عام 2015، حيث أكد في ما سمّاها “المرحلة الحرجة” على أن “هذه الدماء هي بمثابة صرخة مدوية، وصفعة شديدة، في وجه المتخاذلين والمتهافتين والتائهين، وإن تعددت مسمياتهم، أن عدو الأمة الحقيقي هو العدو الصهيوني، ونحوه يجب أن توجه كل البنادق، ويكفي الأمة استنزافًا وهدرًا لطاقاتها، ورهنًا لإرادتها”، مضيفًا أن “واجب كل قوى المقاومة الحية والملتزمة الرافضة للاسترقاق للمشروع الصهيوني، أن تتحد معًا في مشروع واحد مقابل مشروع الاستسلام للعدو الصهيوني وأعوانه”. خاتمًا بالقول أنه “بات لزامًا على كل قوى المقاومة الحية في الأمة أن تدير معركتها القادمة واحدة، تتقاطع فيها النيران فوق الأرض المحتلة”.
اعتبرت خطابات القائد محمد الضيف، وطوال العقود الماضية، وبشكل ثابت، أن المسؤوليات تجاه القضية الفلسطينية تتحمّلها جماهير أوسع من الشعب الفلسطيني، لتمتد، أولًا، عربيًا، وثانيًا إسلاميًا، وثالثًا “أحرار العالم”. وهنا يكون دور الشعب الفلسطيني، وبلسان الضيف نفسه، “تمثيل عن الأمّة”، أو، بلسان أبو عبيدة، “نيابة عنها”.
وعليه، يكون دور الأمّة هنا الدعم والمشاركة في المعركة. ولأن الأمم تصنع بالحروب، تشكّل اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أهمية صهر الدماء بشكل عابر للحدود، تحويلًا عمليًا للأمّة من مفهوم وتطلع إلى واقع على الأرض، يتجسّد بتحويل “وحدة الساحات” إلى ساحة واحدة، ومعادلات الردع لمعادلة واحدة ومترابطة. وهذا ما نشهد بوادره خلال معركة “طوفان الأقصى”، وهو ما يجب علينا جميعًا الوصول إليه، حتى لا تكون الإبادة الصهيونية بحد ذاتها تقسيمًا لنا، ولنخوض المصير نفسه كـ”أمّة”.