ليس لحدثٍ بحجم السابع من تشرين الأول أن يعبر بلطفٍ على صفحات التاريخ، والأكيد أنّ آثاره تتجلّى كفالقٍ يفصل ما بين زمنين يبتعدان أكثر فأكثر مع مرور أيّام “طوفان الأقصى”. وإلى جانب الدروس العسكرية والسياسية والأمنية، فإنّ آثار “الطوفان” قد امتدّت لتبلغ فصولًا من وضوح المشهد لم نشهد لها مثيلًا من قبل. ووضوح المشهد اليوم يتجلّى أولًا بوضوح النصر الذي حقّقته المقاومة الفلسطينية بالضربة الأولى في المعركة، ويزداد المشهد وضوحًا في كثافة الدم الزكيّ الذي يقدّمه شعبنا في غزة والضفة وجنوب لبنان.
ولأنّ الوضوح سمة “طوفان الأقصى”، لا بدّ لكل من سيمسّه “الطوفان” أن يرتقي إلى مستوى الحدث ونتائجه، ولعلّ تلك تكون الخطوة الأولى لمشاركة الجماهير عمليًّا في “طوفان الأقصى”. ما يلي نداءٌ للجماهير العربية، داخل جبهات القتال وخارجها، وتحديدًا تلك التي تتسمّر أمام الشاشات وقلوبها تتأرجح ما بين الألم والأمل، وهي ترى أمواج “الطوفان” تقترب منها رويدًا رويدًا.
عشيّة السابع من أكتوبر
بدايةً، لا بدّ من مراجعةٍ عميقةٍ للذات بناءً على ما كشفه لنا “طوفان الأقصى”. فقد نزعت هذه الملحمة كلّ أقنعة الغشّ عن حقيقة صراعنا في العالم العربي، وحجم الصراع، ودور كلّ طرفٍ فيه. ثبت لنا بالدليل القاطع، أنّ “إسرائيل” ليست سوى أداة وظيفية لمشروع الهيمنة الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة وتبّعها في أوروبا. وما الأساطيل وصواريخ الإبادة التي جاءت لنصرة الكيان الصهيوني إلا دليلٌ على هذه الحقيقة التي طالما تردّدت منذ ستينيات القرن الماضي. وقد ثبت أيضًا بالدليل، بأنّ الصراع على أرض فلسطين ليس صراعًا عقاريًا بين “شعبين” يدّعي كلٌّ منهما أحقيّة الملك في الأرض، بل هو صراعٌ بين مشروع الهيمنة الذي زرع “اسرائيل” ككيانٍ سرطاني هدفه ترسيخ التجزئة والضعف في البلاد العربية والإسلامية، مقابل مشروع “فلسطين”، الذي نستطيع وصفه بمشروع وحدة ونهضة لأبناء هذه المنطقة بعد استعادة الأرض والسيادة على موارد ومرافق معبر العالم من الشرق إلى الغرب. وقد تطوّر مشروع “اسرائيل” بعد فشلها العسكري عام 2006 وما بعده إلى مشروع هيمنة اقتصادي، قوامه تدمير وإفقار مجتمعات المركز العربي (من العراق إلى الجزائر) مقابل سيطرةٍ اقتصادية وسياسية وثقافية مطلقة للأطراف (الخليج والمغرب) بقيادة العقل السرطاني في تل أبيب، كل ذلك ضمن فلك الهيمنة الغربية. على هذه الحال، غفا العرب ليلة السابع من أكتوبر.
أمواج الطوفان
جاء السابع من أكتوبر ليجرف بطريقه أٌسس المشهد السياسي العربي والعالمي، ويعيد ترتيب أوراق الصراع إلى جولاته الأولى. فبعد عقودٍ من تلطّيها خلف قناع “الوسيط” و”اللاعب الضروري”، خرجت أمريكا (وأوروبا خلفها) بوجهها الدمويّ بدون كفوف لتتصدر المشهد وتقود الحرب، وذلك لاستعادة آخر وظائف مشروعها الاستعماري: “إسرائيل”. والأخيرة قد تلقّت ضربةً قاضية؛ إذ بعد ثبات فشلها في لعب دور “البلطجي” في المنطقة، جاء “طوفان الأقصى” ليعلن انتهاء “إسرائيل” كمركزٍ اقتصاديٍّ في النظام العالمي القائم. وهذا الواقع خلط كلّ أوراق الصراعات العالمية وخرائط التجارة ومستقبل العلاقات الدولية، وتلك ليست مبالغة. بالمقابل، أثبتت المقاومة الفلسطينية بأنّ تفوّق “إسرائيل” ليس قدرًا، كما يصوّره العقل الرسمي العربي الراكع لأمريكا، وبأنّ تراكم القوّة وكسر تفوّق “إسرائيل” في الميدان كفيلٌ بفرض شروط المصلحة العربية، وعلى رأسها الفلسطينية، على العالم وعلى أمريكا. ثمّ جاء تتالي الأحداث ليؤكّد صحّة الاستراتيجية التي قامت عليها حركة التحرر العربية الممتدة من اليمن إلى العراق وسوريا وجنوب لبنان وصولًا إلى غزة. ففي حين كان كثر يهاجمون هذا الخطّ لتقديمه مسار تراكم القوة العسكرية على أي مسارات أخرى في الكيانات التي ينشط بها، بدا واضحًا أنّ منطق “لا يفلّ الحديد إلا الحديد” هو أنجع الخطط لهزيمة “إسرائيل” التي تبني كلّ هيمنتها (بما فيها سلطتها داخل الكيانات) على جبروت التفوق بالنار. وهنا أيضًا، أعاد “طوفان الأقصى” مشهد العلاقة العربية مع “إسرائيل” إلى شكله الوحيد والحقيقي: الدم. فالانتقام الصهيوني-الغربي من شعبنا في غزة مسّ كل الشعوب العربية، وعلى رأسها شعوب المركز، التي استعادت للحظات وعيها لواقعها الرديء، ولعلاقتها بسبب هذا الواقع – “إسرائيل”. فغاية “إسرائيل” هي إبادتنا، وإن لم تفعل ذلك جسديًا، فهي تحقق الإبادة اقتصاديًا وسياسيًا لكلّ من مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن. كما وأنّ تكتيك العدو في “إرهاب” الشعوب العربية من خلال المجازر والمذابح، ينقلب حقدًا و”وعيًا” مضادًّا يتمثّل في تجسيد صورة “إسرائيل” كقاتلٍ محتمل لكلّ طفلٍ عربي، وهو ما يمسّ وعي كلّ فرد أيًا كان موقعه ومكانه.
كشفت أمواج “الطوفان” زيف شبكة العلاقات التي تربط الإنسان العربي بالعالم
أخيرًا، كشفت أمواج “الطوفان” زيف شبكة العلاقات التي تربط الإنسان العربي بالعالم. فعلى مدار عقود، أسست الهيمنة الغربية في العقل العربي هدف كسب القبول الغربي كشرطٍ للوجود في العالم، على الصعيدين الجماعي والفردي. وعلى مدار عقود، بُذلت جهود حثيثة من قبل نخب عربية لـ”تحسين صورتنا” أمام العالم (الغرب طبعًا)، ثمّ توضيح قضايانا أمام عقولهم وأفئدتهم. ثم جاء “طوفان الأقصى” ليثبت بأنّ أقصى التضامن الغربي مع فلسطين والعرب كان مشروطًا بشكل الإجابة على سؤال: “هل تدين حماس؟”. ومؤخرًا، ازدادت حدّة التضييق على الخطاب المناصر للمقاومة في الغرب، وهي نتيجةٌ طبيعية للشرط الذي صنعته معادلة المقاومة العربية = إرهاب، والتي لا يقوى أشدّ المناصرين لفلسطين على تحدّيها في الغرب. من هنا، زالت الغمامة عن أوهام الديمقراطية والاندماج وتقبّل الآخر، لتستبدلها حقيقة أنّ الحكومات الأوروبية لها مصلحةٌ أساسية في استمرارية “إسرائيل” كاستثمار سياسي-اقتصادي يدرّ أرباح الهيمنة ويؤبّد علاقة التفوّق الغربي مع أصحاب الأرض.
ما بعد الطوفان
فماذا نفعل إزاء هذه النتائج؟ الخطوة الأولى تكمن في استيعابنا لحجم الحدث، وهذا يقتضي حتمًا التخلّي عن أدوات الماضي في فهم الواقع واجتراح الحلول. بدايةً، لا بدّ من الخروج من دائرة الفردانية إلى استعادة الذات الجماعية، وهي التي تشمل تعزيز الشعور الوطني للفرد وما يترتّب على ذلك من نتائج. ثانيًا، إنّ النصر العظيم الذي تحقّق في 7 أكتوبر، وما تلاه من تضحيات عظيمة لشعبنا في غزة، لا بدّ أن تُقابلها توجهات بحجم ما تحملها هذه التضحيات والإنجازات على مستقبل كلّ فردٍ منّا. على صعيد الأفراد، لا بدّ من عودة الفرد إلى مسار الخلاص الجماعي، وذلك عبر التمسّك بالعروبة ثقافةً وهويةً وفعلًا، وباستعادة الرابط بين مسار الفرد ومصير الجماعة، ماديًا ومعنويًا وسياسيًا. وهنا لا بدّ من توجيه النداء إلى كلّ المتعلّمين داخل بلادنا العربية وخارجها: هيّئوا أنفسكم لتكونوا جزءًا من مرحلة استعادة البلاد من محتلّيها، و”استثمروا” إمكاناتكم في خدمة شعبكم العربي ومقاومته، فالمصلحة هنا والمستقبل هنا، مهما بلغ ضباب المجازر.
أمّا على الصعيد الجماعي، فالنداء يوجّه لمجتمعات دول المركز العربي؛ إنّكم تملكون قوةً عظيمةً حطّمت فكرة التفوّق التكنولوجي في الحروب وأعادت قضية العرب إلى طاولة الأمم. فكيف يُعقل أن تستمرّ سلطة “أوسلو” بعد “طوفان الأقصى”؟ وكيف يُعقل أن يستمرّ شعبنا في الأراضي المحتلة عام 48 رهينةً لأحزاب وحركات تفشل حتى في حمايته وما زالت تسعى لـ”أسرلته”؟ وكيف يُعقل أن تستمرّ مصر في ذلها وانكسارها وأسرها بيد العدوّ وأدواته بينما تسنّ السكاكين لذبحها؟ وكيف يُعقل أن نستمرّ في اللهث خلف الغرب ثقافةً ولسانًا وسياسةً، ونحن أهل الموارد والقنوات والمضائق، وقبل كلّ ذلك، بأس المقاتل الشجاع في الميدان؟
كونوا سندًا للمقاومة العربية، واجتمعوا على تشكيل مقاوماتكم إن لم توجد بعد. إذا كانت “إسرائيل” ومَن خلفها يُهزم، فكيف يخيفكم بعض جرائها؟ وهنا لا بدّ من تأكيد المؤكّد الذي ثبت أيضًا في “طوفان الأقصى”، إنّ خلاصكم من أزماتكم شرطه الأول زوال هذا السرطان من جسدكم، واستعادتكم لسيادتكم على أرضكم ومواردكم ومعابركم وأنفسكم.
“ليست أمريكا قدرًا”، هو نداء شعبنا المقاتل من غزة إلى جنوب لبنان وسوريا والعراق واليمن.
إن هُزم “الطوفان”، ستموتون عطشًا وجوعًا وتنكيلًا،
وإن استمرّ “الطوفان”، فلا خاسر كمن تخلّف عن ركبه.
هلمّوا إلى سفينة النجاة، فهذا “الطوفان” جارف!