في مساء يوم السابع عشر من تشرين أوّل قرّر المشروع الاستعماري الزائل ارتكاب أبشع جرائمه في فلسطين عن طريق قصف مستشفى المعمداني في غزة وقتل مئات الأبرياء المتواجدين فيه. بعد دقائق من محاولتنا تكذيب الخبر، بدأت الدعوات تنتشر والجوامع تنادي من أجل أن نجتمع في ميادين وشوارع الضفة والقدس للتعبير عن صدمتنا وغضبنا وقهرنا بشكل جماعي، لعلّنا نستوعب ما الذي حدث.
عند الساعة التاسعة مساءً كان هناك الآلاف على دوار المنارة في مدينة رام الله. تخبأتُ بين الجموع وكنت أنظر إلى عيون الناس وكان هناك شعور جماعي بأننا نريد أن نبكي بدل أن نهتف، لماذا نهتف؟ ماذا نقول؟ ورغم صراخ العديد من الحناجر بالهتافات إلا أن الصمت كان موجود بكثرة. من اللامكان صرخت مجموعة من الحناجر بهتاف ضد رئيس السلطة الفلسطينية، وفي ثوان تحول الهتاف إلى “الشعب يريد إسقاط الرئيس…الشعب يريد كتائب القسام”، ومن هنا بدأت حكاية جديدة في علاقتنا نحن -المتظاهرين في تلك الليلة- مع ذاكرتنا ليوم ارتكاب الحركة الاستعمارية مجزرة المعمداني.
لم يكن في مخيلتي ليلة سوداء في علاقتنا مع مدينة رام الله مثل تلك الليلة من شهر حزيران 2018 عندما قررت الأجهزة الأمنية الفلسطينية حشد كامل طاقاتها وقدراتها بتشكيلاتها كافة في الضفة الغربية من أجل مواجهة حراك “ارفعوا العقوبات” الذي كان يطالب برفع العقوبات المفروضة من قبل السلطة الفلسطينية في رام الله على أهلنا في قطاع غزة. قبل أن تبدأ المسيرة الاحتجاجية السلمية التي كانت في 13 من حزيران الساعة التاسعة والنصف مساءً، بدأت الأجهزة الأمنية بضرب كل من كان موجودًا عند دوار المنارة ودوار الساعة وشارع ركب والطرق الفرعية الأخرى، بأكثر الطرق همجية ووحشية وبربرية، ضرب وسحل واعتقالات بالجملة وشتائم وقنابل صوت ومسيل للدموع وهراوات معدنية وكهربائية وغاز فلفل وتنكيل وترهيب وتحرش وتنمر وابتزاز. كل أشكال العنف المادي والرمزي استخدمت عناصر الأجهزة الأمنية في تلك الليلة ومنهم كثيرون كانوا في لباس مدني –استخدامًا لعقيدة المستعربين في التخويف والتخفي.
أعادتنا ليلة السابع عشر من تشرين أول 2023، هذه الليلة المليئة بالحزن والغضب، إلى تلك الليلة من الـ13 من حزيران، مع الفارق أن شكل الذهول جدًا مختلف في ظل وجود مجزرة مدوية لا يمكننا أن نستفيق من هولها لسنوات طويلة. وأن في هذه المرة استخدمت أجهزت السلطة سيارات مصفحة شبيهة بالجيبات الصهيونية لتفريق الحشود عبر “التفحيط” بالشوارع وعلى الميادين بصورة جنونية ودعس الناس، حيث تسبب هذا العمل الجنوني المتهور بدعس شاب وإصابته إصابة خطيرة إضافة إلى إرهاب مئات المتظاهرين السلميين وتقديم صورة واضحة بأن السلطة الفلسطينية مستعدة لقتل الشعب الفلسطيني وتدعيسه بالشوارع.
تظهر السلطة الفلسطينية منذ بداية معركة “طوفان الأقصى” وكأنها البريء الصامت الذي لا حول ولا قوة له في ظل معركة كبرى، وكأنها خارج معادلة الصراع. وصحيح أن المجازر التي ترتكب الآن في قطاع غزة لا تشارك بها السلطة الفلسطينية، وبعيدًا عن كل ممارساتها وقراراتها في الضفة الغربية، علينا إعادة الحديث عن علاقة السلطة بمحاصرة وعقاب أهلنا في قطاع غزة لتبنيهم خيار المقاومة. وذلك في ثلاث قضايا:
العقوبات لم تنته
بعد التفاهمات التي حدثت في بداية عام 2017 بين حركة “حماس” والنظام المصري التي أدت إلى مجموعة من التسهيلات وإدخال البضائع ومواد البناء عبر معبر رفح، قررت السلطة الفلسطينية في آذار من نفس العام عمل حزمة من العقوبات على أهل قطاع غزة، بهدف الضغط على “حماس” لتسليم إدارة قطاع غزة للسلطة. وشملت العقوبات: إحالة 26 ألف موظف/ة إلى التقاعد القسري خلافًا لإرادتهم ودون إعلامهم. خصومات بلغت 50% على رواتب 62 ألف موظف/ة من موظفي السلطة في غزة (بما فيها قطاع الصحة والتعليم). وقف جميع العلاوات. قطع رواتب 277 أسيرًا محررًا. تخفيض تدريجي لعدد موظفي الحكومة في غزة مقارنة بالضفة. وقف صرف مخصصات مئات الأسر من برنامج الحماية الوطني. تأخير صرف رواتب الشؤون الاجتماعية 76 ألف أسرة (في آب 2023 سرقت السلطة أموال 18 ألف عائلة عن طريق صرف 370 شيكل (أقل من مئة دولار) بدل 1800 شيكل). إغلاق الحسابات البنكية لجمعيات الأيتام التي تكفل أكثر من 40 ألف يتيم. تخفيض ثلث قيمة مخصصات عائلات الشهداء والجرحى والأسرى. تقليص في التحويلات الطبية في الخارج للأمراض الصعبة ومرضى السرطان. كما شملت العقوبات وقف الموازنات التشغيلية والتطويرية في قطاع التعليم والصحة وهذا ما زاد الضغط على التعليم في داخل المدارس .
شركة الكهرباء
منذ عام 2012 تحاول الحكومة في قطاع غزة عمل حلول من أجل إنهاء أزمة الكهرباء في القطاع. واحدة من تلك الحلول هو مشروع إنشاء محطة توليد كهرباء بقيمة 100 مليون دولار في رفح سيناء لتجنب استهدافها من قبل الصهاينة. وبعد الموافقة المصرية على المشروع المشروطة بموافقة السلطة، رفضت السلطة الفلسطينية الموافقة على إنشاء المحطة. ليس هذا فقط، حتى هذا العام ترفض السلطة تحويل المحطة الحالية إلى محطة غاز بدل الوقود، وذلك بعد الموافقة القطرية على إمداد المحطة بالغاز الذي يزيد من قدرات المحطة الانتاجية إلى 300% .
الغاز الطبيعي
على الطريقة اللبنانية، حاولت المقاومة في عام 2022 إيصال رسائل إلى العدو الصهيوني بأنها تمكتلك أسلحة بحرية وطائرات من دون طيار تمكنها من استهداف محطات استخراج الغاز الفلسطيني المسروق على الساحل الفلسطيني. لا يمكننا الحديث عن ملف الغاز على شواطئ غزة الموجود في ثلاث مناطق، مارين1 ومارين 2 والنصيرات، من دون الحديث عن الفشل الذريع من قبل السلطة الفلسطينية في إدارة ملف الغاز. فبداية تتكتم السلطة على كل ما يتعلق بالغاز الفلسطيني الموجود على الساحل، ويحتكر صندوق الاستثمار الفلسطيني كافة المعلومات حول حقول الغاز والاتفاقيات الموقعة بشأنها ولا تسمح لأحد بالاقتراب من هذا الملف. وهي منذ عام 2007 عندما فقدت السيطرة على قطاع غزة بدأت تنظر لموضوع الغاز على أنه خارج صلاحياتها، واستخدمته فقط من أجل المساومة أو الحصول على بعض الهبات أو والمساعدات أو الافراج عن الأموال المحتجزة. وكان أفشل ما قامت به السلطة هو اتفاقية غاز مع كيان العدو عام 2015 كانت تقوم فيها بشراء الغاز المسروق من حقولنا، والتي تراجعت عنها بعد الضغط الشعبي والفصائلي. في حدود اتفاقية أوسلو والقانون الدولي والضغط في المحافل الدولية، بإمكان السلطة عمل الكثير بما يتعلق بحقول الغاز الموجودة على الساحل الفلسطيني بما في ذلك الاستخراج والاستخدام وتزويد محطات الكهرباء وبيع الغاز، إلا أنها تتنازل عن هذه الحقوق إلى الصهاينة، لضمان عدم استفادة الغزيين منه.
خاتمة: هل ضروري أن تكون الوحدة الوطنية قاتلة؟
في اليوم التالي لليلة المعمداني الدموية نشرت حركة “فتح” على دوار المنارة في رام الله بيانًا دعت فيه إلى مظاهرة وأدانت قيام “فئة خارجة عن الصف الوطني” بـ”الاعتداء على الممتلكات الخاصة العامة في مدينة رام الله ليلة أمس” دون أي ذكر للقمع الوحشي من قبل الأجهزة الأمنية للمحتجين في الضفة الغربية والتي أدت إلى العديد من الاصابات والاعتقالات إضافة إلى استشهاد الطفلة رزان تركمان من جنين، والتي رأت عائلتها في بيان أن ما حصل بحق ابنتهم “جريمة بكل معانيها” لكن “دمها الطاهر هو رسالة طاهرة للوحدة الوطنية” وذلك من أجل عدم تشتيت البوصلة وحرف النظر عن الجريمة البشعة التي ترتكب بحق أهلنا في قطاع غزة.
لا أحد يختلف على أن ما يحدث في قطاع غزة الآن سياسة فاشية إبادية تتطلب تظافر كافة الجهود الوطنية والقومية والانسانية من أجل إيقافها، لكن ما قالته السلطة بكل وضوح في تلك الليلة حمل العديد من الرسائل التي تتطلب منا أقله أن نعيد التفكير في مفهوم “الوحدة الوطنية” ليس من أجل التشتيت وإنما من أجل التصويب لما بعد المعركة. فما قالته السلطة في تلك الليلة كان مدويًا وكسر كل الصمت التي تتلحف به من بداية “طوفان الأقصى”؛ ففي رسالتها السياسية عبّر العنف عن تمسك السلطة بالعداء الكامل لمشروع المقاومة في قطاع غزة كعقيدة وممارسة حتى لو تطلب هذا التمسك قتل الفلسطينيين في الضفة. وهذا إلى جانب التأكيد على أن بنية السلطة بنية قمعية قائمة على العنف والعسكر ومعاداة الديمقراطية والمجتمع المدني، فهي كان بإمكانها فض التظاهرات أو التعامل معها بدرجة أقل من العنف، لكن من اللحظة الأولى بدأ اطلاق القنابل والرصاص. كما عبّر العنف عن كره السلطة للشعب الفلسطيني ولأي ممارسة تحررية أو اجتماعية أو ثقافية ممكن أن يمارسها هذا الشعب بشكل جماعي. وليس فقط الكره وإنما ضرورة إذلال الشعب وضربه وسحله في الشوارع واعتقاله كلغة وحيدة في الحوار بين السلطة والشعب.
وأخيرًا، منذ عام 2018 كانت السلطة تعبر بالعنف المواجه للحراك الشعبي المتنامي المكون من حركات طلابية وعمالية ومجموعات شبابية وثقافية وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني ونواد، عن تبني عقيدة نيوليبرالية في ضرورة أن يكون الشعب الفلسطيني مكونًا من أفراد، وليس جماعات. أنت في الضفة بامكانك أن تستهلك وأن تشتري المنتجات وتأخذ القروض، ولكن ليس أي ممارسة جماعية فيها قيم تحررية أو ديمقراطية. وتعبّر كذلك عن عقيدة استسلامية قائمة على تبني العنف في مواجهة الشعب، والحلول السلمية في مواجهة الاحتلال.