“فلسطينيو لبنان”، هذه الفئة التي احتار في أمرها الصديق قبل العدوّ، والتي ما انفكّت تتأرجح بين اجتراح الأمل لأمةٍ بأسرها وبين إعلان الهزيمة لشعبٍ مظلوم. قد يتساءل البعض، ما شأن الحديث عن فلسطينيي لبنان في ظلّ ما يجري في غزة؟ لكن، وبعيدًا عن أفخاخ الانعزالية، فإنّ ما جرى ويجري في غزة يمسّ الكلّ الفلسطيني والعربيّ، ولأنّها كذلك، فمن واجب الجميع الإضاءة على آثار “طوفان الأقصى” على البيئة المباشرة، والانطلاق من ذلك لشحن محاولاتنا في فهم الواقع المتسارع عبر دروس التاريخ الفلسطيني الذي -كالموت- تتعدّد أشكاله بجوهرٍ واحد.
قد لا تسعفنا الكلمات في فهم ووصف ما يخوضه شعبنا في غزة، لكنّ وحدة الدم والمصير تسمح لكلّ منّا باقتباس المعاني من تاريخه وواقعه، لتكون عبرًا لنا وسندًا لشعبنا الصامد في غزة.
لعقودٍ طويلة، شكّل اللاجئون الفلسطينيون في لبنان رافعة العمل الفدائي الذي رفع حدّة الصراع مع العدوّ ووسّع رقعة المواجهة لتشمل كلّ العالم. تحوّلت سمة اللجوء من صورة الهزيمة الفلسطينية إلى مصدر قوّةٍ وإصرارٍ وقدرة هائلة على التضحية. وعلى الصعيد السياسي، كان وجود “اللاجئين” كخزّانٍ بشريّ للمقاومة يثبّت قواعد الصراع الأساسية بوجه رياح تحويل القضيّة إلى خلافٍ عقاريّ على حدود عام 1967. فاللاجئ المقاتل مبتغاه العودة، والعودة شرطها زوال “إسرائيل” وهزيمة المشروع الذي يغذّيها. لكنّ هزيمة الثورة الفلسطينية في لبنان، ورهان قيادتها على تغميس الفتات من الصحن الأمريكي، رسما تاريخًا مختلفًا لشعبٍ قدّم عشرات الآلاف من الشهداء وخاض مواجهته مع العالم بدوم كفوف.
وهناك، في بيتٍ أوروبي التصميم فوق قريةٍ من قرانا المهجّرة، يجلس أحد الشياطين المتقاعدين على كرسيّه ويراجع كل أوراقه التي رسمها لتصفيتنا، وينظر شمالًا فيبصر رياض وحمزة وأحمد ويحيى وصهيب و…فيرتعد لما يراه في عيونهم. ألم نقتلهم؟ سيقول لنفسه!
لا زالت صور خروج الفدائيين من بيروت تزدحم في ذاكرة ووعي الفلسطينيين عمومًا، واللاجئين في لبنان خصوصًا. تلك اللحظة المثقلة بالصمود والبطولات والفقد والهزيمة، كانت لحظة الشكّ الأصعب التي غلّفت مستقبل شعبٍ كامل، وحاضر هذه الفئة المُحاصَرة بأدوات العدو من كل الجهات. كانت صبرا وشاتيلا، وقبلها مجزرة مخيم برج الشمالي وعين الحلوة. وبينما كنّا نحاول استجداء الموت ليوقف عدّاده الثقيل، كان الآلاف يودّعون الآلاف، بأبشع أشكال القتل التي اختلقها البشر. كانت هزيمة العمل الفدائي في لبنان إيذانًا بتصفيتنا، جسديًا وسياسيًا، والثانية كانت أشدّ قسوةً على الأحياء. دخلنا نفقًا مظلمًا من العبث، تتقاذفنا أجهزة العدو بأسمائها المختلفة، وتُسلبُ الحياة منّا ببطء، كلّما ابتعدنا عن فلسطين، أو ابتعدت عنّا فلسطين.
فما علاقة كلّ ذلك بغزة؟
عشيّة مجزرة “صبرا وشاتيلا”، حسبنا أنّ العالم لن ينام ليلةً بسبب ثقل الجثث الملقاة في هذه البقعة الصغيرة. توهّمنا أنّ الأرض ستنخسف لكمّ الحقد الذي سرى في شرايينها مع دمائنا تلك الليلة. لكنّ العالم غفى واستيقظ ولم تتراجع الأرض عن دورانها. ظلّ الألم يرافقنا جيلًا بعد جيل، لكنّ أشدّ ما أوجعنا كان “العجز”، فحينها كانت ثورتنا في أفول وكان قادتها قد استسلموا لإرادة “العم سام”، فكانت غصّتنا أنّ دمنا الذي سال كان عنوان هزيمة لا قربان فداء وانتصار. وهذه باختصار، هي رسالة “صبرا وشاتيلا” إلى غزة. ففي صبرا وشاتيلا، كنّا “غير مسلّحين”، مستسلمين لشروط أمريكا و”إسرائيل” وكان مقاومونا في آخر أصقاع العالم العربي. فماذا كانت النتيجة؟ مذبحة. أمّا اليوم، وعلى عكس زمن الهزيمة، فدمنا المسفوك في غزّة هو عنوان هزيمة العدو وقربانٌ ثمين يقدّمه شعبنا على مذبح حريّته.
أمّا الرسالة الثانية التي نحملها إلى شعبنا في غزة، فهي رسالة “ما بعد الموت”. بعد 1982، ظنّت “إسرائيل” أنّها قد فتكت بنا، لا بل حسبت أنّها تستطيع أن تجعلنا وقودًا لمؤامراتها في المنطقة. لكن، ومن بين عتمة النفق، كانت قلةٌ تقبض على النور في قلوبها وتسير بضيائه على الصراط المستقيم. على مدار عقود، كانت فصائل المقاومة الفلسطينية تعمل بصمتٍ وهدوء وسط بحرٍ من الأفخاخ والعوائق لاستعادة الدور الفلسطيني في جبهة الشمال. خسرنا عقولًا مبدعة ورجالًا أشدّاء، بيد العدو حينًا وعملائه أحيانًا، لكنّ الصادقين الصابرين لم يقنطوا، وفي ذروة “المستحيل” كانوا يغرسون بذور الممكن. ومع “طوفان الأقصى”، علت بعض الأقمار إلى السماء مزيلةً عن أبصارنا الغمامة. كان هدف اجتياح لبنان عام 1982 هو “استئصال الخطر الفلسطيني” من الشمال. وها نحن عام 2023، والخطر الفلسطيني في الشمال قد عاد رسميًّا. وها نحن ننظر من حولنا، فنرى فلسطين أقرب وكأنّنا ثلاثون عامًا لم نغب.
وهناك، في بيتٍ أوروبي التصميم فوق قريةٍ من قرانا المهجّرة، يجلس أحد الشياطين المتقاعدين على كرسيّه ويراجع كل أوراقه التي رسمها لتصفيتنا، وينظر شمالًا فيبصر رياض وحمزة وأحمد ويحيى وصهيب و…
فيرتعد لما يراه في عيونهم. ألم نقتلهم؟ سيقول لنفسه. ألم نذبحهم ونهجّرهم وننفيهم بعيدًا عن منفاهم؟ كيف عادوا من الموت؟!
قد يغيب عن البعض قيمة هذه العودة، وما ستعنيه في الأيام المقبلة للجيل الناشئ في مخيمات اللجوء في لبنان، لكنّ شهداءنا الخمسة – ومن ينتظر – هدموا عقودًا من جهد العدو. وتلك هي استراتيجيتنا الأولى والأخيرة نحو النصر، وهي رسالتنا المتواضعة هنا من تجمّعات قتلنا البطيء في لبنان، إلى أرض الرباط والتضحية في غزة:
أنّنا شعبٌ يحيا بعد المقتلة.
وكيف لشعبٍ كهذا أن يُهزَم؟