كشف لنا أبو عبيدة، الناطق باسم “كتائب القسام”، أنه، وفي تقدير الكتائب، كان العدو الصهيوني يتحيّن الفرصة للهجوم على المقاومة، وما كان السابع من أكتوبر سوى استباق لهذا الهجوم. وهو أمر مفهوم، إذ كان الأمريكيون والصهاينة يعدّون المسرح لـ”شرق أوسط جديد”، بتعبير بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، حين أطلّ من على منصة الأمم المتحدة عارضًا صفقة تطبيع كبرى مع السعودية.
إنّ فكرة “الشرق الأوسط الجديد” ليست بجديدة، بل إن تاريخ السياسة الأمريكية، أقلّه منذ ضرب وحصار العراق قبل غزوه، هو هندسة المشرق العربي تحت مسمى “الشرق الأوسط” بشكل جديد، أساسه وقوامه إنهاء الوجود الفلسطيني والمقاومة العربية، وتأمين المستعمرة الصهيونية “إسرائيل” وسطوتها على الوطن العربي. لم تكن حروب السنين العشر الماضية والترتيبات الإقليمية من ترابط شبكات الدفاع الجوي إلى اتفاقيات التطبيع وصولًا إلى صفقة التطبيع الإسرائيلي-السعودي سوى محاولة أخرى لبناء تشكيل سياسي-عسكري-اقتصادي جديد للمنطقة. وبالنسبة للصهاينة، كان انتظار الصفقة مع السعودية مجرّد بداية تطبيق المراحل الأخيرة: ضم الضفة وإنهاء المقاومة في غزة، والترانسفير وتهجير الغزاويين لسيناء، ولو على مراحل.
ظن الأمريكيون والصهاينة أن مفتاح حركة التاريخ لديهم، وبدؤوا بالتخطيط وتخيّل مستقبل للمشرق العربي على هواهم، ومن ثم أتت “طوفان الأقصى”، لتتصدّى المقاومة، بكل حيوية واستقلال تاريخي، لعملية رسم مستقبل المشرق العربي؛ ضرب هذا المشروع وهذا التشكيل في قلبه بالمبادرة والهجوم على العدو.
لم توقف “طوفان الأقصى” عملية الصراع على تغيير “الشرق الأوسط”، بل على العكس كثفتها وسرّعتها، وأعادت ترتيب أولوياتها صهيونيًا، حيث صرّح نتنياهو لجمع من المستوطنين: “سنغيّر الشرق الأوسط في حربنا على غزة”. وديفيد اغناطيوس، عبر “واشنطن بوست”، وبنفَس فيه الأمل والحسرة على مآلات الأحداث على التطبيع مع السعودية، رأى أن ما يحدث هو فرصة، وأن الظروف متشابهة مع تبعات حرب أكتوبر 1973، حيث من الممكن أن تصب مخرجات الحرب في مصلحة “فتح طريق” للسلام، و إعادة تشكيل “الشرق الأوسط” وما على محمد بن سلمان إلا أن يكون أنور سادات المرحلة.
ويكفي هنا التوقّف عند الواقعة المستمرة، التي لم يفسح لنا احتدام المعارك وجبن المجازر إعطاءها وزنها التاريخي الحقيقي، وهو أن البلد الذي حاربه السعوديون لثماني سنوات ضمن عملية ترتيب المنطقة أمريكيًا، وهو اليمن، الفقير البعيد، يشن حربًا ويقصف “إسرائيل” بشكل متتال.
إن ما هو مؤكد، أن الأمريكيين فتحوا المجال – بالمشاركة الأطلسية- للصهاينة للتحرك بردة فعل كبيرة ومن دون قيود على غزة مقاومة وأرضًا وإنسانًا، مراهنين على نجاح الصهاينة في إحداث تغيير استراتيجي عبر العملية البرية، أو بالحد الأدنى التغطية على الخسارة الإستراتيجية للسابع من أكتوبر، ضمن مشروعهم الواسع في “الشرق الأوسط”. والمسألة، من ناحية تاريخية، شبيهة – وإن بمستوى مختلف تمامًا – لحرب تموز عام 2006 التي بدأتها المقاومة بعملية ثم لنكتشف أن الصهاينة كانوا يعدّون العدة للحرب في ذلك الصيف أيضًا. ضمن الإطار ذاته، تغيير “الشرق الأوسط”، بلسان كوندليزا رايس والمحافظين الجدد، كانت الحرب تحت غطاء أمريكي وفتح المجال لجيش العدو أن اذهبوا وحاولوا عبر الميدان تحقيق مكتسبات، وكلما تراكم الفشل العسكري لجيش العدو على الأرض، طلب استمرار الغطاء الأمريكي حتى استهلكه.
اليوم، المعادلة مختلفة؛ وإن مثّل عام 2006 ثقل الوجود الأمريكي في المنطقة، مقابل “انسحاب” منها اليوم، فإنّ واقع مقتلة أكثر من ألف من المستوطنين والتنكيل بجنودهم على أرض غزة أمام العدسات، والضربة الإستراتيجية الكبرى لـ”طوفان الأقصى”، مقابل خدش الهيبة في عملية الأسر قبل 17 عامًا، ستنتج تبعات مختلفة، فأكثر ما يحوّل الأوروبيين، منذ خمسة قرون، إلى وحوش لا أقنعة، هو دم المستوطن الأبيض.
يحاول الأمريكيون إدارة سعار وهستيريا الصهاينة، الذين سارعوا وبغباء وعنجهية إلى قتل قرابة الـ10 آلاف شهيد، واستهلاك صورة “المظلومية اليهودية” من العمليات البطولية للمقاومة، لتنقلب الصورة وتنهار السطوة الإعلامية والكذب الغربي، الذي دفعنا نحن العرب ثمنه في هندسة الأكاذيب الكبرى في تاريخ البشرية في العراق ولبنان وسوريا، وذلك عبر تلبية الجماهير الحرة حول العالم والنشاط الإعلامي الشعبي خصوصًا في وسائل التواصل.
إنّ لبّ صراعنا التاريخي في الوطن العربي، منذ احتلال نابليون لمصر قبل قرنين من الزمن، هو رسم ماهية شكل هذه البقعة الجغرافية وعنوانها الحضاري ودورها العالمي
إلا أننا، رغم ذلك، نشهد اليوم مشاركة أمريكية مباشرة، وحشدًا على السواحل، وإزاحة لمركز الصراع الدولي نحو الأرض العربية مجددًا، والهدف الأمريكي-الصهيوني تطبيق أكبر قدر ممكن من التغيير في فلسطين، بل إن المراقب للإعلام الغربي يرى أنهم من العنجهية والغرور وسرحان الخيال حول ماذا سيحدث “ما بعد حماس”. وكذلك، فإنّ أهم مخاوفهم، ضمن هذا التغيير، هو عدم اتساع رقعة الصراع، وفتح الجبهة الشمالية تحديدًا التي تصاعدت من صبيحة الثامن من أكتوبر بشكل لم يحدث طوال تاريخ الصراع، مهشّمة سردية الردع الصهيوني المنشغل بدوره بالعبء الذي تحمله مقاومة غزة على كتفيها بكل شموخ.
باختصار، ولأن المستعمرين لا يتعلّمون، يتحرّك الأمريكيون والصهاينة ضمن ما يخيّل إليهم رسمًا دقيقًا ومضبوطًا لمشهد التغيير “الشرق أوسطي”، عبر إنهاء المقاومة في جنوب فلسطين، مع ضمان عدم فتح جبهة الشمال بشكل واسع وبشكل يكسر المعادلات، وللمفارقة فإنّ تاريخ الصراع العربي-الصهيوني هو تاريخ إدارة لجبهات الشمال والجنوب، الجبهتين السورية والمصرية، و”الوهم المتبدد”-“الوعد الصادق” عام 2006، وصولًا إلى مصيرية الجبهتين اليوم، بل ومصيرية أدوارنا الشعبية والعسكرية كلّنا كعرب في هذه البقعة التي نسمّيها الوطن.
إنّ لبّ صراعنا التاريخي في الوطن العربي، منذ احتلال نابليون لمصر قبل قرنين من الزمن، هو رسم ماهية شكل هذه البقعة الجغرافية وعنوانها الحضاري ودورها العالمي. إنّ ما يخاض اليوم في فلسطين من قتال هو قلب هذه العملية التغييرية، والهدف “الشرق أوسطي” هو التضحية بالوجود الفلسطيني وتثبيت أركان الممالك والدولة المطبعة ونخبها الحاكمة، ولا يجوز في هذه المعركة سوى المبادرة وصد العدوان وطرد المستوطنين من أرضنا. لقد شرّعت “طوفان الأقصى” أبواب التاريخ، حتى أتت جيوش “الأطلسي” إلى سواحلنا لتحافظ على حصتها التاريخية في أرضنا، عبر إبادة شعبنا الفلسطيني بكل ما تحمل الكلمة من معنى. هذا التغيير الذي ترنو إليه الصهيونية والإمبريالية الأمريكية، اليوم وبعد 26 يومًا من 7 أكتوبر المجيد، يصل بنا إلى لحظة تحوّل جديد في المعركة يظنّ فيها الأمريكيون أنهم يمسكون ويديرون خيوط اللعبة، وما زيارة أنتوني بلنكن غدًا إلا ضمن هذا الوهم، بينما الجمعة الرابعة من المعركة هي نقطة تملّك المقاومة وقيادتها ومجاهديها للمرحلة، والذين بهم سنرى: من سيغيّر “الشرق الأوسط”؟