واحدة من النتائج الأولية لمعركة “طوفان الأقصى” هي تحطيم الأسطورة التي سوّقت لها “إسرائيل” طيلة عقود أنّها “دولة الشركات الناشئة” الرائدة في مجال الأمن والتكنولوجيا المتطورة، مُتعاملةً مع هذا القطاع على أنّه منجم ذهبها الذي يدرّ عليها الاستثمارات والأموال الغربية، وأداة تُساعدها على أن تُموضع نفسها في موقع “أسمى” من بقية الدول، أكانت تلك المحيطة بفلسطين أو المُصنّفة مُتقدّمة. الضربة الأولى سُجّلت في يوليو / تموز الماضي، حين قرّر المُعارضون لحكومة بنيامين نتنياهو المسّ بـ”المُحرمات” والتصويب على قراراتها انطلاقًا من “الخاصرة الرخوة”، قطاع التكنولوجيا المتطورة والشركات الناشئة. ولكن لم يُعرّى عمليًا هذا القطاع، إلا بعد العملية التي أطلقتها كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام في 7 أكتوبر / تشرين الأول الحالي. فالحصار المفروض على قطاع غزّة والمُسيّج بتكنولوجيات وإجراءات حماية متقدّمة (الأسلاك الشائكة، الكاميرات، أجهزة التنصّت والاستشعار، القاعدة الخرسانية ضدّ الأنفاق والمدافع الرشّاشة،…) لم تحل بين المقاومين وكسر “الجدار الحديدي” والعودة إلى داخل الأراضي المُحتلة. عملية وصفها مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، ياكوف عميدرور بـ”الفشل الكبير لنظام المخابرات والجهاز العسكري في الجنوب”.
سقوط التكنولوجيا الإسرائيلية
تحايل مقاومو “القسّام” على أجهزة الرقابة الإسرائيلية، وتمكّنوا من تعطيلها، لتوفير غطاء أمني لهجومهم على المراكز العسكرية. يتحدّث تقرير منشور على “بوليتيكو” عن التكتيكات التي يزعم أنّ حركة حماس طبّقتها في هجوم ذاك اليوم، من “البحث عن ثغرات وأماكن لا تُغطيها الكاميرات الإسرائيلية بشكل فعّال، هدم الأسوار بالجرّافات، إطلاق الصواريخ وتدمير الطائرات بدون طيار قبل أن تتمكّن من التحليق في الهواء…”. حصل ذلك بعد أن سجّل الأسبوع السابق للعملية العسكرية “هجمات إلكترونية لعدد من المواقع الإسرائيلية، أكانت وزارية أم إعلامية”. صحيحٌ أنّ العدّو لا يملك “أي دليل على وجود تنسيق بين الهجوم العسكري والهجمات الإلكترونية”، بحسب المُحلل الاستخباراتي ألكسندر ليزلي، ولكن مُجرّد كون “إسرائيل” من أكثر الدول تقدّمًا في مجال الأمن السيبراني، ومركزًا رئيسيًا لصناعة تقنيات المراقبة، وتبيع برامج تجسّس وتنصّت للحكومات والمنظمات، يُصبح لما قامت به المقاومة والجهات الإلكترونية أهمية قُصوى. تنقل “بوليتيكو” عن ألكسندر ليزلي أنّ السؤال اليوم هو: “كيف فشلت الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية في اكتشاف مثل هذه العملية واسعة النطاق التي قامت بها حماس. هذا السؤال الذي ترك الكثير من الناس، داخل الحكومة الإسرائيلية وخارجها، في حيرة شديدة”، لا سيّما أنّ غالبية الاستثمارات التكنولوجية لها علاقة بالجيش والأمن الإسرائيلي. وهنا النكبة الحقيقية لأسطورة الكيان.
نمت الصناعات ذات التقنية العالية بسرعة خلال العقود الماضية، فباتت تُمثّل حوالي 14% من الوظائف وما يقرب من خمس الناتج المحلي الإجمالي، وفق وكالة “رويترز” التي ذكرت انخفاض أسعار الأسهم والسندات الإسرائيلية بعد معركة “طوفان الأقصى”. الانخفاض في قيمة الأسهم لم يقتصر على الشركات الإسرائيلية، بل شمل كذلك شركات التكنولوجيا الأمريكية، والشركات العالمية التي لديها أعمال أو مراكز داخل الأراضي المُحتلة. توقّعات السوق في هذا الإطار لا تُشير إلى “انهيار” تام لقطاع الأمن والتكنولوجيا المتطورة الإسرائيلي على المدى الطويل، ولكنّها لا تُنكر تلقّيه ضربة كبيرة ستؤثّر في صورته، وستنعكس سلبًا على مبيعات هذه الشركات. يقول اقتصاديون فلسطينيون إنّه “حين يرى الشارون المُحتملون أنّ هذا المُنتج لم يكن فعّالًا في بلد المنشأ، وعجز عن حماية الجيش الذي صُمّم لمساعدته، فلماذا نشتريه؟ وما ستكون فعاليته؟ بالتأكيد سيكون هناك انعكاسات للحرب على هذا القطاع، ستظهر رويدًا رويدًا”.
اليد العاملة تهجر القطاع
الخضّة التي يعيشها قطاع الأمن والتكنولوجيا المتطورة يتسبّب بها أيضًا فقدان نسبة كبيرة من اليد العاملة، التي استُدعيت كقوة احتياط في الجيش الإسرائيلي. فقد استدعت “إسرائيل” أكثر من 300 ألف جندي احتياطي عسكري للقتال، تُقدّر شركة “ستارت أب نيشن سنترال – SNC” الإسرائيلية أنّ حوالي 10% منهم من موظفي قطاع التكنولوجيا، وبلغت نسبة المُجندين في بعض الشركات “حوالي 30% من مجموع قوّتها العاملة”. كما أنّ العديد من رؤساء مجالس إدارة الشركات التكنولوجية أو مؤسسيها، “جمّدوا أعمالهم للانضمام إلى الجيش”.
الشركات التكنولوجية العاملة بالأراضي المُحتلة مزوّدة منذ انتشار وباء كورونا بتقنيات تسمح للعاملين بإتمام العمل عن بُعد، وتستفيد من طابعها العالمي ووجود فرق مُنتشرة في مختلف أنحاء العالم للعمل حتى لا تتوقف العمليات نهائياً، “لكن بعض الأنشطة الحيوية للنظام التكنولوجي لا يمكن القيام بها عن بعد. أُلغيت مثلًا ما لا يقل عن ثلاثة مؤتمرات تقنية رفيعة المستوى كان من المقرر عقدها هذا الشهر، بما في ذلك قمة الذكاء الاصطناعي التي استضافتها شركة تصنيع الرقائق Nvidia – NVDA”، بحسب تقرير منشور على موقع “سي أن أن”. وأُضاف التقرير، نقلًا عن مسؤولين تنفيذيين بمجال التكنولوجيا، أنّ “جمع الأموال لتطوير الشركات الناشئة وعقد الاتفاقيات يمكن أن يتعرّض لضربة أيضًا، حيث ينتظر المستثمرون لمعرفة كيف سيتطور الوضع. سيكون الأمر صعبًا خلال الأسبوعين المقبلين، فالتحدي الكبير الذي يواجه اقتصاد الشركات الناشئة هو التأكد من استمرار تدفق الأموال”.
التطور السلبي الثالث أنّ شركات التكنولوجيا العالمية الكبرى التي لها مكاتب في “إسرائيل” تبحث “نقل عملياتها التجارية إلى الهند أو مناطق تدور في نفس الفلك الزمني، مثل الشرق الأوسط أو أوروبا الشرقية أو مواقع أخرى إذا تصاعدت حدّة الصراع”. التصعيد في الحرب مُمكن أن يؤدّي أيضًا إلى “تعطّل سلسلة التوريد في المنطقة، وبالتالي حصول تداعيات على خدمات تكنولوجيا المعلومات، وتراجع الإيرادات”.
مدى تطوّر القطاع
طُوّر قطاع التكنولوجيا في “إسرائيل” ليخدم الهدف الأكبر: بقاء “الدولة” عبر بناء قدراتها الأمنية، الاستخباراتية، والدفاعية، وقد تمّ “انتداب” العاملين من المؤسسة العسكرية ليكونوا “قوّات نُخبته”، وقامت وزارة الأمن بتخصيص تمويل للقيام بالأبحاث التكنولوجية اللازمة. علمًا أنّه ابتداءً من نهاية الثمانينيات وحتى أوائل التسعينيات، استفادت “إسرائيل” من وصول المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي، ومن مستوياتهم التعليمية العالية، في تطوير وتنمية قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. سريعًا، أُقصي اليهود الآتون من دول شرق أوروبا، وأفريقيا، والفلسطينيون، من العمل في هذا القطاع، واقتصرت اليد العاملة على فئة مُحدّدة.
نجح هذا القطاع في تحويل كيان العدّو إلى “اقتصاد مُتقدّم” وانضمامه إلى “مُنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية”. لكن كيف بدأت الرحلة؟
يُخبر الاقتصاديان الإسرائيليان، جوناثان نيتسان وشمشون بيشلر، في كتابهما ” الاقتصاد السياسي العالمي لإسرائيل” عن التبدّل الذي حصل في تسعينيات القرن الماضي “من تحالف الأسلحة والبترودولار إلى نشوء تحالف جديد يقوم على التكنودولار. التطورات في إسرائيل واكبت قيام النظام العالمي الذي ارتكز على التكنولوجيا المتطورة الجديدة واندماج الشركات، وتحوّلت شركات رأس المال المُهيمنة إلى جانب الآلاف من الشركات الناشئة للاستثمار في التكنولوجيا المُتقدمة”.
ومنذ البداية، حدّدت الحكومة الإسرائيلية هدف تطوير تكنولوجيا تتعلّق بالأمن السيبراني، حتى أصبحت تملك اليوم حوالي “200 شركة مُتخصّصة في الأمن السيبراني، وربع شركات الأمن السيبراني الناشئة الممولة من رأس المال الاستثماري في العالم هي شركات إسرائيلية”، بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي. تستثمر الدولة موارد كبيرة في مجمع تطوير الأمن السيبراني الشامل، CyberSpark، في منطقة بئر السبع.
التحالف مع رأس المال الغربي
لمساندة المشروع الأكبر، أسّست الحكومة سنة 1993 صندوقًا استثماريًا، سمّته “برنامج يوزما”، برأسمال يبلغ 100 مليون دولار مع تقديم حوافز ضريبية للاستثمارات الأجنبية لرأس المال المُغامر في الأراضي المُحتلة، ما ساعد في جذب الأموال الأجنبية وإطلاق سوق مُزدهرة ودعم مئات الشركات الناشئة سنويًا. وكانت البداية لتأسيس العديد من الصناديق الاستثمارية.
تلقّت الشركات الناشئة الإسرائيلية سنة 2018 وحدها دعمًا بقيمة 1.19 مليار دولار أمريكي، أي ما يقارب 20% من استثمارات رأس المال العالمي في مجال الأمن السيبراني
بالتزامن، خصخصت الحكومة العديد من المؤسسات “آلت إلى تكتلات عملاقة سيطرت عليها، فكانت نسبة التركّز عالية”. يُضيف نيتسان وبيشلر أنّ “أصول الشركات كانت مخفية عبر سلاسل ملكية مُعقّدة، تؤدّي غالبًا إلى شركات وهمية في الخارج”.
تغلغلت المؤسسات الاستثمارية الأجنبية في سوق الأوراق المالية الإسرائيلية، واستحوذ مُستثمرون أجانب على نسبة من أسهم (أو كامل أسهم) العديد من الشركات المحلية، مثل “مصرف هبوعليم” (الذي يُعدّ أكبر مصرف إسرائيلي، يُموّل إنشاء مستوطنات، ولديه اتفاقات عمل مع مؤسسات مالية في دولة الإمارات). بحلول عام 1998، “كانت الملكية الأجنبية للشركات الأجنبية قد ارتفعت من 3% سنة 1993 إلى الـ14.4%. وكانت بعض الشركات الإسرائيلية في التكنولوجيا المُتقدمة، مُدرجة في بورصات أجنبية، خاصة في نيويورك، ومملوكة بالكامل تقريباً لأجانب”، وفق نيتسان وبيشلر.
استفادت “إسرائيل” أيضًا من الاندماج مع الشركات الأجنبية، حتى تخرق الدول التي تُصنّفها “عدّوة”، أو ترفض التعامل معها، حتى تستطيع الوصول إلى أكبر قدر من البيانات والمعلومات الخاصة، والولوج إلى قطاعاتها الحسّاسة.
تصدير الشركات إلى الخارج
تم بناء النظام البيئي الإسرائيلي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات تدريجيًا في منطقتي تل أبيب وحيفا، مع اهتمام الشركات الإسرائيلية بتصدير مراكزها إلى أمريكا وأوروبا، والسبب بحسب تقرير البنك الدولي، أنّه “كان من الصعب على شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أن تنمو بسبب المسافة التي تفصلها عن عملائها في الولايات المتحدة وأوروبا. وكان الحل هو نقل التسويق والمقر الرئيسي خارج إسرائيل ليكون أقرب إلى العملاء. مع بقاء البحث والتطوير في إسرائيل”. يوجد حاليًا في الأراضي المُحتلة قرابة الـ300 شركة متعددة الجنسيات لها مراكز بحث وتطوير.
يُقدّم نيتسان وبيشلر رواية أخرى، إذ يعتبران أنّ “وَصف إسرائيل بأنّها النواة لهذه التكنولوجيا كان مُبالغًا فيه. فلُبّ الأعمال كان لا يزال الولايات المتحدة وأوروبا، من دون أن تتمكّن الشركات الإسرائيلية من تحديد مسارات. فهي ببساطة كانت تُحاول تخمين الاتجاهات العالمية، والتكنولوجيا التي يجب تطويرها، حتى يتم إقناع الشركات الأجنبية بالاستحواذ عليها”.
مع التطور… أتى الفقر
انتشرت التكنولوجيا في “إسرائيل” عن طريق “استئصال أجزاء أخرى من المجتمع”، يروي نيتسان وبيشلر. فقد ارتفع متوسط مستوى المعيشة، “ولكن ليس بالسرعة التي يتوقعها المرء من الثورة التكنولوجية، وبالتأكيد أبطأ بكثير مما كان عليه خلال الخمسينيات والستينيات. ففي الأعوام الأخيرة، اقتربت معدلات البطالة الإجمالية من مستويات قياسية تاريخية، وارتفعت فجوة التفاوت في الدخل”.
تدحض هذه المعلومات الحُجّة القائلة إنّ التكنولوجيا والتطور يترافقان مع نموّ اجتماعي، كما أنّه يؤكدّ أنّ “إسرائيل” ليست “نموذجًا” يجب الاحتذاء به. وفي هذا الإطار، تشرح الباحثة البولندية دومينيكا نواك، في ورقة بحثية صادرة عن السفارة البولندية في تل أبيب، أنّه على الرغم من “النجاح الكبير الذي حقّقه قطاع التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل، إلا أنّه يكشف عن بعض أوجه القصور. لم تنتشر صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتطورة للغاية، والتي تعتبر إحدى أدوات الابتكار الاقتصادي، إلى قطاعات اقتصادية أخرى. بالإضافة إلى ذلك، بما أن أكثر من 40% من الشركات الناشئة الإسرائيلية يتم تمويلها من خلال رأس المال الاستثماري، فإنها تميل إلى بيعها في مرحلة مبكرة جدًا للشركات الأجنبية”.
تُعرف الشركات الناشئة بأنّها عرضة، أكثر من غيرها، للفشل والافلاس، خاصة خلال سنواتها الأولى. ليست الشركات الإسرائيلية بمنأى عن هذا المصير، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة انهيارًا شاملًا للسوق ولقطاع التكنولوجيا. ففي الحالة الإسرائيلية، قد يُعادل ذلك انهيار الكيان وانتهاء المشروع، الأمر الذي ستُقاتل الدول الغربية للحفاظ عليه.
التعديلات القضائية vs تراجع قطاع التكنولوجيا
في تموز / يوليو الماضي (وبالتزامن مع مناقشة نواب الكنيست الإسرائيلي مشروع قانون يمنع المحكمة العليا من إلغاء تشريعات على أساس عدم معقوليتها)، عُمّم على مختلف وسائل الاعلام والمواقع الإلكترونية تقريرٌ صادر عن منظمة “ستارت أب نايشن سنترال” الإسرائيلية، له هدفٌ واحد: الضغط على الحكومة للتراجع عن التعديلات الهادفة إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا وإعادة هيكلة الجهاز القضائي (أو ما يُعرف بـ”الاصلاحات القضائية”). تُحاول حكومة نتنياهو، مدعومةً من الأحزاب اليمينية والدينية المُتطرفة، تمرير التعديلات منذ كانون الثاني / يناير الماضي، في وقت تُعارضها قوات الاحتياط في الجيش، والأحزاب المُصنّفة يسارية، وشخصيات سياسية، اقتصادية، أكاديمية، ومؤسسات المجتمع المدني. كان هذا قبل التطورات الميدانية الأخيرة.
الغيارى على “الديمقراطية الإسرائيلية” ونموّها الاقتصادي قرّروا التحذير من أنّ “68% من الشركات الناشئة في إسرائيل بدأت اتّخاذ خطوات قانونية ومالية لنقل بعض أعمالها إلى الخارج، وتسريح موظفين، بسبب أزمة التعديلات القضائية”، بحسب نتائج المسح الذي أجرته “ستارت أب نايشن سنترال”.
شارك في المسح مُمثلون عن 521 شركة، تبيّن أن “22% منها سحبت أرصدة نقدية من إسرائيل، 37% منها أفادت أنّ الشركات الأم التابعة لها سحبت جزءًا من الأرصدة النقدية. 8% منها أعلنت بدء إجراءات نقل مكان تسجيلها القانوني، و29% تنوي القيام بذلك في المستقبل”. ووفق الشركات المُشاركة في المسح، “التعديلات القضائية المُقترحة كانت السبب في تراجع التمويل الذي جمعته شركات التكنولوجيا المُتطورة بنسبة 70% في النصف الأول من العام الجاري”.
في السياق ذاته، أعدّت شركة “لئومي تك”، الذراع المصرفية لـ”بنك لئومي” لصناعة التكنولوجيا، تقريرًا عن تراجع الاستثمارات في شركات التكنولوجيا، “فقد انخفضت الأموال التي جمعتها الشركات الناشئة والتكنولوجية بنسبة 65% في الربع الثاني من العام 2023 مقارنةً بالفترة نفسها من العام 2022”. كما جاء في تقرير مشترك لهيئة الابتكار الإسرائيلية ومعهد سياسة أمة الشركات الناشئة أنّ “ربع الشركات توقف عن تعيين موظفين جدد وربعها يعتزم تسريح المزيد من الموظفين، وتعتزم كثير من هذه الشركات التخلي عن خمسة بالمئة من قوتها العاملة” بسبب التراجع في الاستثمار.
القطاع ليس استثناءً
صحيحٌ أنّ قطاع التكنولوجيا يُمثّل حوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي (القيمة الإجمالية للسلع والخدمات المنتجة في بلد ما خلال فترة مُعيّنة)، وأنّ “إسرائيل” تعتمد في قطاع التكنولوجيا فائقة الدقة على استثمارات أجنبية وصلت خلال عامَي 2021 – 2022 إلى نسبة الـ80%، وهي “أعلى نسبة تمويل أجنبي في مجالات البحث والتطوير للقطاع الخاص”، بحسب مُنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. إلا أنّ ما كان يجري في سوق التكنولوجيا الإسرائيلي، قبل انطلاق “طوفان الأقصى”، أمرٌ اعتيادي. فواحدة من مهّام المُستثمرين في جميع أنحاء العالم هي التفاعل مع كلّ الأحداث مهما كان نوعها، مُعدّلين ومُعيدين توجيه أعمالهم بما يتناسب مع المُعطيات الطارئة، أكانت سياسية أم اجتماعية أم أمنية أم اقتصادية أم صحية. ما يعني أنّه كان من الطبيعي سحب جزء من رأس المال أو إعادة هيكلة الأعمال أو اتخاذ قرارات تنفيذية جديدة، ربطًا بوجود عدم استقرار داخلي.
في المقلب الآخر، الخلاف السياسي بين الصهاينة حول التعديلات القضائية “نقطة” في بحر الحرب اليومية التي تشنّها “إسرائيل” ضدّ الفلسطينيين، وإقامة المستوطنات، والأوضاع الأمنية غير المُستقرة داخل الأراضي المُحتلة. إذًا، رأس المال الأجنبي يُدرك أنّه يعمل في بيئة محفوفة بالمخاطر العالية وعدم الاستقرار الذي قد ينعكس سلبًا على أشغاله، ومع ذلك غامر واستثمر فيها. عندئذٍ أليس مُستغربًا أن يختار حصرًا ملفّ التعديلات القضائية ليعتبر أنّ استثماراته بخطر ويدقّ ناقوس الخطر مُتسبّبًا بضرب شركات التكنولوجيا المتطورة، وهو القطاع ذات الأهمية الاستراتيجية لـ”المشروع الصهيوني”؟ فحتى حاليًا ومع اندلاع الحرب، واتخاذ العدّو قرارًا بتنفيذ إبادة بحقّ قطاع غزّة، وردّ المقاومة باستهداف المستوطنات، وتحريك جبهة الشمال على الحدود مع لبنان، لم تحصل بعد “هجرة” للشركات الناشئة من “إسرائيل”، وهو سبب “منطقي” أكثر لهكذا خطوة من “مُجرّد” خلافات داخلية صهيونية.
تغاضت شركات التكنولوجيا الإسرائيلية عن الانقسامات الداخلية والخلافات حول الحكم مع الحكومة، وقرّرت العودة إلى جذورها، عناصر في جيش الاحتلال، تُشارك في قتل أبرياء غزة
إذًا، كانت التقارير خلال شهر يوليو / تموز عن التراجع في قطاع التكنولوجيا مُضخّمة وهدفها التهويل لوقف التعديلات القضائية، ولم يكن الوضع في “إسرائيل” مُقلقًا. فأولًا، حجم المعاملات التي جمعها المُستثمرون في الربع الثالث كانت أعلى ممّا تمّ جمعه في الربع الأول. ما كان يُشير إلى نوعٍ من الاستقرار. ثانيًا، التراجع في تمويل الشركات الناشئة غير محصور بـ”إسرائيل”، ويعود إلى سنة 2020، حين سُجّلت عوامل عدّة انعكست سلبًا على قطاع التكنولوجيا والشركات الناشئة تحديدًا:
(1) انتشار وباء كورونا
(2) إفلاس مصرف “سيليكون فالي” الأميركي، وهو أحد أبرز المُمولين للشركات الناشئة الإسرائيلية والأميركية، وما لحقه من إفلاسات لمصارف أخرى
(3) أسعار الفائدة المرتفعة التي قوّضت رغبة رأس المال في الاستثمار
وبحسب شركة “Pitchbook”، المُتخصّصة بالبيانات المالية والبرمجيات، “انخفض تمويل رأس المال الاستثماري للشركات الناشئة في جميع أنحاء العالم إلى النصف في الأشهر الستة الأولى من العام 2023، وكان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ لولا الاستثمارات الكبيرة في الذكاء الاصطناعي”. كما أنّ حوالي 95% من جميع الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا “التي تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار غير قادرة على تحقيق أرباحٍ على الإطلاق”. ما يعني أنّه أيضًا الشركات في المرحلة التأسيسية “شهدت انخفاضًا في قيمة تمويلها بنسبة 26.3% في الربع الثاني من سنة 2023، مقارنةً بالأشهر الأولى من سنة 2022”.
الأرقام أيضًا تُكذّب السردية الإسرائيلية القائمة على أنّ التعديلات القضائية هي المسؤولة “حصرًا” عن تراجع قطاع التكنولوجيا. فتُشير أرقام شركة “Crunchbase” الأميركية التي تُقدّم معلومات تجارية عن الشركات الخاصة والعامة، إلى أنّ عدد الشركات الناشئة التي تأسّست في الولايات المتحدة انخفضت بنسبة 86% من عام 2020 إلى منتصف العام 2023. في “إسرائيل” انخفض العدد بنسبة 89%، أمّا في الاتحاد الأوروبي فالنسبة هي 87%. وعلى صعيد تمويل الشركات الناشئة، فسُجّل انخفاض بنسبة 26% في الولايات المتحدة مقابل 32% في “إسرائيل”.
يُضاف إلى كلّ هذه المعطيات، واقع أنّ “إسرائيل” هي “شركة مُساهمة” تملكها الإمبريالية الغربية يتمّ توفير كلّ الإمكانات اللازمة لها لتتخطّى مطبّاتها. على سبيل المثال، تلقّت الشركات الناشئة الإسرائيلية سنة 2018 وحدها دعمًا بقيمة 1.19 مليار دولار أمريكي، أي ما يقارب 20% من استثمارات رأس المال العالمي في مجال الأمن السيبراني، وفق تحقيق نشرته وكالة الأنباء التركية. كما أنّها ستبقى قُبلة الشركات العالمية في ما خصّ الأبحاث والدراسات. يشرح مؤلفَا كتاب “أمة الشركات الناشئة: حكاية مُعجزة إسرائيل الاقتصادية”، دان سينور وشاول سنجر، كيف أقامت شركتا “غوغل” و”مايكروسوفت” أول مخبر خارج الولايات المتحدة في “إسرائيل”.
“هناك الكثير من الشركات العالمية العملاقة والرائدة في المجال التكنولوجي مثل IBM وINTEL وPHILIPS.
أما شركة سيسكو الرائدة في مجال المعدات الشبكية، فقد اشترت تسع من أكبر الشركات الإسرائيلية، ويبحث فيها رؤساء أمن المعلومات عن خدمات وحلول تجعلهم يتقدمون خطوة على المهاجمين عبر شبكة الإنترنت”.
ما بعد “طوفان الأقصى”
تمرّ الشركات الناشئة الإسرائيلية وشركات الأمن والتكنولوجيا بواحدة من أسوأ المراحل في تاريخها وأكثرها حساسية. ستنهار شركات ناشئة، رأس المال الأجنبي قد يُحجم عن ضخّ أموالٍ جديدة، اليد العاملة عادت لتخدم في جيشها، إلا أنّ كلّ ذلك لا يستدعي دقّ ناقوس الخطر… بعد. فلأنّ الدور الأساسي لقطاع التكنولوجيا هو تدعيم “وجود الدولة اليهودية”، وتفعيل الأمن والقوة الاستخباراتية في العالم، ولأنّ العدد الأكبر من عملياته موجّه لخدمة جيش العدّو، سيكون هناك “استشراس” في الحفاظ على وجوده. الدعم المعنوي تجلّى مثلًا عبر توقيع أكثر من 500 صندوق رأس مال استثماري من جميع أنحاء العالم على “بيان الدعم للشركات الناشئة ورجال الأعمال والمستثمرين الإسرائيليين”، الذي جاء فيه أنّ “إسرائيل كانت شريكًا دائمًا لنظام الابتكار العالمي، حيث عزّزت التقدّم التكنولوجي الرائد وابتكار الشركات الناشئة… حان الوقت الآن للانتقال إلى المستوى المطلوب ودعم إسرائيل والشعب اليهودي”.
بعيداً عن “المعنويات”، تدخّلت شركات التكنولوجيا في العالم لتقديم الدعم المادي لزميلاتها في “إسرائيل”، مثل “مايكروسوفت”، “ألفابيت غوغل”… أمّا صندوق الاستثمار الأمريكي “إنسايت بارتنر” فقد أعلن أنّه سيتبرّع بمليون دولار للمنظمات الخيرية في كيان العدّو لأنّها “فرصة مُهمّة للوقوف مع أصدقائنا وشركائنا الإسرائيليين”.
تغاضت شركات التكنولوجيا الإسرائيلية عن الانقسامات الداخلية والخلافات حول الحكم مع الحكومة، وقرّرت العودة إلى جذورها، عناصر في جيش الاحتلال، تُشارك في قتل أبرياء غزة وإبادة شعبها، وتدمير المجتمع الفلسطيني. عملية “طوفان الأقصى” سدّدت ضربة مؤلمة لـ”القطاع المَلك”، كاشفةً زيف الأسطورة التي تتحدّث عن “الفرادة” الإسرائيلية. لم ينهار قطاع الأمن والتكنولوجيا الاسرائيلي، إذ استنفر رأس المال الغربي لانتشاله من أزمته وإنقاذه، ولكن ذلك لا يعني أنّ رحلته إلى برّ الأمان مُيسّرة.