“إن الثورة الفلسطينية قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن” (جورج حبش)
كانت تلك أولى العبارات التي تحضر إلى ذهني عندما سمعت كلمة القائد أبو خالد الضيف صبيحة السابع من أكتوبر. كانت تلك اللحظات التاريخية، وتلك المشاهد البطولية منقطعة النظير، أكبرَ من أن تفهمها عقولنا التي كانت تفرح وتوزع “الحلوان” بقتيل أو اثنين من العدو في عملية في الضفة أو القدس. فقد كان ذلك زمن “الممكن” الذي كنّا نحققه ونراه على مدار أعوام، خاصة بعد جهود بناء قواعد لإعادة الاشتباك في الضفة، واسترجاع روح الفدائيين في القدس على يد قافلة من الشهداء يعيدون إحياء الثورة الفلسطينية بعد كل محاولات التصفية لقضيتنا ولروحنا القتالية.
أمّا اليوم، فأصبحنا نعيش زمن المستحيل. مستحيل حققته وتحققه المقاومة منذ أيام، ويحققه عظماء رجال الأمة الذين خرجوا من غزة ليرسموا لنا “شرق أوسط جديد” لا يشبه شرق أوسط نتنياهو وابن سعود والإدارة الأمريكية وحكامها في المنطقة.
لقد كان علينا، على مدار عقود، أن نرمّم ما عاشته المقاومة الفلسطينية من مخاض بعد مخاض خلال أحداث متتابعة على يد العصابات السياسية داخل حدود فلسطين التاريخية وخارجها، ونحن نعمل على استعادة موروثات المقاومة من زمن أوّل فدائي عرفه تاريخنا المقاوم، ومن كل التيارات والفصائل، على يد قلة من شبابنا كانوا أوائل المبادرين الفدائيين الذين “هجموا على النار” في سنوات كنا فيها نتعطش لرؤية الصهيوني تحت النار بدلًا منا. وكان البعض من “الواقعيين” المهزومين يقول إنها مجرد “شعارات” و”شعاراتية”، إلى أن عبرنا في صباح السابع من أكتوبر نحو بداية تحقيق المستحيل؛ لنحوّل شعاراتنا إلى حقيقة لا مفر منها يخضع لها العالم بأسره، وهي أننا سنمحو “إسرائيل” من الوجود.
لقد عبرَت صباح السبت السابع من أكتوبر، ثلةٌ من مقاتلينا ليكتبوا لنا بسواعدهم تاريخًا جديدًا في كل العالم لا في فلسطين وحدها. انهارت “فكرة إسرائيل” خلال بضع ساعات، وانتصرت عمليّتنا على كل حروبهم، وشهدت “إسرائيل” نكستها. وإنّ ما تبع ذلك الصباح من أحداث، لهو انعكاس لحجم الهزيمة والصفعة التي تلقتها “إسرائيل”، وكيلة الإمبراطورية وأكبر قواعدها؛ فإنّ ما “حققته” آلة الحرب الصهيونية على مدار أيام ليس سوى انتقام وحشي من المدنيين العزّل، الذين خرجوا من تحت الأنقاض رافعين شارات النصر يهتفون للضيف ويسيرون خلفه حتى في أصعب الأوقات وأصعب الاختبارات، لأنهم، وعلى الرغم من المجازر، يدركون أن زمن انتصارات “إسرائيل” قد انتهى. أي أننا على الرغم من الألم والمأساة والوحشية الصهيونية، قد استطعنا تحقيق المستحيل.
عدنا لنكون الفاعلين في قضيتنا. حوّلتنا المقاومة في أعين العالم من “ناشطين” إلى مقاتلين. وعلى الصهيوني، في المقابل، أن يحاول ترميم كيانه الهش – إن استطاع – ففلسطين التاريخية بعد ذلك اليوم ليست كما قبله. نرى كيف تبدّل التاريخ؛ الإسرائيلي هو من يرمم نفسه وجل قدراته لا نحن، ويفعل ذلك بمساندة كل العالم الذي وقف ضدنا مؤازرًا للمجرم، بينما يقاتل مقاومونا بما يمتلكون من إرادة وإيمان قبل العتاد والذخيرة، أو كما قال مقاتل “عرين الأسود” وشهيدها محمد العزيزي: “والله لا أمريكا ولا تحالفها العالمي كله ولا إسرائيل ولا كُل هالخرابيط اللي شايفتها عينك بتأثر فينا، ولك إحنا بعون الله بولاد يا زلمة”.
بعد إعلان “الطوفان” من غزة بدأت لحظة الحقيقة، تلك التي أتت لتشفي صدورنا وتجعلنا نصحح مسار التاريخ العالمي، ونكتب فجرًا عربيًا جديدًا، وننتشل مستضعفي الأرض وننهض سويًا لقتال الإمبراطورية
ومن ضمن المستحيل، شاهدنا من خلال المقاطع تقدّم مقاتلينا في مستوطنات جنوب فلسطين واشتباكاتهم البطولية. وضمن المستحيل أيضًا رأينا صدق مقاومينا في أخلاقهم القتالية التي تحاول البروباغاندا الأمريكية محوها من أذهان العالم لتبرر فظائع الآلة الإسرائيلية بأنه من المستحيل أن يحتفظ أي أحد في الحرب بتلك الأخلاقيات العالية، لكننا لطالما محونا كلمة “مستحيل” من قاموسنا ورفعنا سقف كل شيء منذ قرن ليصبح كل مستحيل ممكن.
كنا قد بدأنا نلمح الضوء في السنوات السابقة في عيون السبّاقين، في انعكاس انتفاضة السكاكين وبطلها مهند الحلبي، ثم في عيون خيري علقم وعدي التميمي وكل فدائي في كل عملية بطولية في القدس أو الداخل المحتل، في بطولات إبراهيم النابلسي وجميل العموري ورفاقهما المشتبكين في الضفة. رأيناها في “سيف القدس” و”وحدة الساحات” و”ثأر الأحرار”. كنّا قد رأينا ضوء الشمس مع أسرانا الستة حين خرجوا من النفق ليكسروا قيدنا جميعًا ويعطونا درسًا في تحقيق المستحيل، فكان من الحتمي أن تعجّل كل البطولات على امتداد الأرض الفلسطينية العربية بقدوم “الطوفان” الذي لطالما انتظرناه لسنوات.
وبعد إعلان “الطوفان” من غزة بدأت لحظة الحقيقة، تلك التي أتت لتشفي صدورنا وتجعلنا نصحح مسار التاريخ العالمي، ونكتب فجرًا عربيًا جديدًا، وننتشل مستضعفي الأرض وننهض سويًا لقتال الإمبراطورية؛ وهو ما يعكسه أيضًا فقراء الشارع العربي اليوم من جهوزية واستعداد للزحف نحو فلسطين. فهنيئًا لمن لحق بـ”الطوفان” وكتب تاريخه بيده، لتسمع عنه أجيال من بعدنا فتستلهم من بطولاته طريق الحرية والكرامة.
اليوم، وبعد أيام على بداية الملحمة، تعاد أمام أعيننا مشاهد سمعنا قصص عنها خلال عام النكبة، ونحن مؤمنون مدركون أنها، وعلى الرغم من حجم الألم والمآسي والدم، مخاض ولادة سيمر، لا احتضار موت أو هزيمة. وها نحن هنا نعود في كل دقيقة إلى كل أديباتنا المقاومة، من اليسار الفلسطيني حتى المقاومة الإسلامية، لننتشل أنفسنا وننهض، فنتذكر أن ما نراه هو ما حلمنا به منذ ولادتنا، فاليوم نعيش أيامًا مباركة غرسها لنا مقاومونا منذ بداية الاستعمار، لينهض أبناء وأحفاد القسام، والشقاقي، والياسين، وأبو علي مصطفى، وجورج حبش، ووديع حداد، والحاج رضوان وكل من قاتل وأسّس وجاهد واستشهد. نستحضر في أذهاننا كل قادتنا وشهدائنا وأديباتهم وما تركوا لنا ونحن نرّدد: “احنا رجال محمد ضيف”، وبتنا نرى حرب التحرير أقرب من أي وقت. اليوم زمن المستحيل الذي أعلنه الملثّم أبو عبيدة وظل الضيف، زمن فلسطين وانتصاراتها، يشاهدنا العالم ونحن نحقّقه وخلفنا قوافل من الشهداء والأسرى.