يُعتبر العلامة ابن خلدون (1332-1406)، المؤرخ والعالم الاجتماعى والفقيه المعروف، من أهم العلماء المسلمين والعرب الذين بقي ذكرهم إلى العهد الراهن، وعرفه علماء الغرب. ومن أهم أعماله كتاب يحمل اسم “المقدمة”، يبحث فيه قيام الدولة وسقوطها؛ فالدولة عنده مرتبطة بـ”العصبية” وقوتها، فإذا كانت الدولة قويّةَ “العصبية” اتسع نطاقها وامتدّت حدودها ودام عهدها، أمّا إذا أصابها الضعف فإنه في تلك الحالة ستفقد قوتها. و”العصبية” عند ابن خلدون بمثابة “رابطة دفاع” أو “قوة مواجهة”، وهي “اتفاق الأهواء على المطالبة”.
كتب ابن خلدون عن أسباب انهيار الدول والسياسات التي تودي إلى هذا الانهيار فضلًا عن الوسائل التي تؤخر هذا الانهيار، بعد عمر محدّد يطول وينقص بحسب عوامل مختلفة لكن الانهيار حتمي. فقد نظر إلى الدولة على أنَّها كائن حي يولد وينمو، ثُمَّ يهرم ليفنى، فللدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تمامًا، وقد حدَّد عمر الدولة الذي يمتد من ثمانين عامًا إلى مائة وعشرين عامًا.
لذلك يقول: “وهذه الأجيال الثّلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مرّ ولا تعدو الدّول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلّا إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلًا مستوليًا والمطالب لم يحضرها ولو قد جاء الطّالب لما وجد مدافعًا».
ووفقًا لابن خلدون، هناك خمس مراحل في عمر الدول ــ المرحلة الأخيرة منها تفضي إلى انهيار الدولة.
الطور الأوّل: هو طور التأسيس، وهو طور الظفر وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدى الدولة السالفة قبلها، فيكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك مقتضى العصبيّة التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بحالها.
الطور الثاني: هو الانفراد بالملك، طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنيًّا باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنايع والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيتّه وعشيرته.
الطور الثالث: طور الفراغ والدعة، لتحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبايل وبثّ المعروف في أهله هذا مع التوسعة على صنايعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه واعتراض جنود وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكل هلال حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وزيهم وشكتهم وشاراتهم أيام الزينة فيباهى بهم الدول المسالمة ويرهب الدول المحاربة.
الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة، ويكون صاحب الدولة في هذا قانعًا بما أولوه سلمًا لأنظاره من الملوك واقتاله مقلّدًا للماضين من سلفه يتبع آثارهم حذو النعل بالنعل، ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء، ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره، وأنهم أبصر بما بنوا من مجده.
الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفًا لما جمعه أولوه في سبيل الشهوات والملاذّ والكرم على بطانتها… فيكون مخربًا لما كان سلفه يؤسّسون، وهادمًا لما كانوا يبنون.
وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا برء منه إلى أن تنقرض.
إذن، تتّسم الفترة الأولى بالنصر والتأسيس، وتشتهر المرحلة الأخيرة بالانغماس في الشهوات والملذات وإشباع الرغبات. في إطار ذلك، قال ابن خلدون أنَّ بداية انحلال الدولة يرجع إلى عنصرين هما: انحلال العصبية، والانحلال المالي نتيجة تبذير السلطان، ولهذا تنهار الدولة سياسيًا واقتصاديًا.
تَشكّل الكيان الصهيوني من جماعات بشرية مختلفة الأعراق والقوميات، لا تربطها أي صلة قرابة أو دم، انتسبت إلى الديانة اليهودية، وهي بحثت عن “عصبية” تدعم مطالبها بتأسيس الدولة
على الرغم من أن المبادئ المذكورة أعلاه قد طرحها ابن خلدون منذ قرون من الزمان، إلا أنها قابلة للتطبيق على الكيان الصهيوني، بشكل أو آخر، مع الأخذ بعين الاعتبار شذوذ الحالة الصهيونية عن كل ما هو طبيعي عرفه نشوء الدول، أو المجتمعات الطبيعية، ولكن حالة الانهيار هي الأقرب لحالة انهيار الدول عند ابن خلدون.
تأسيس الكيان الصهيوني
استنادًا إلى الوقائع التي تقول إن تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين ارتبط بالقوى الغربية الحامية للمشروع الصهيوني، وسيطرة هذه القوى على العالم العربي، ما أدّى إلى ضعف ووهن العالم العربي في مواجهة المشروع الصهيوني الاستيطاني-الاجتثاثي-الإحلالي، إضافة إلى القوة العسكرية والجيش الصهيوني (التي تمثّل العصبيّة) والأموال والممتلكات (التي تمثّل الدعم الغربي للكيان الصهيوني). وهي عوامل متغيرة وليست ثابتة ومن شأنها أن تتغيّر في أي لحظة.
هذه العوامل مجتمعة لم ولن تحمي الكيان الصهيوني بالنظر إلى انعدام المبرّر التاريخي لوجوده في فلسطين. وهذا ما ذهب إليه أري شبيط (Ari Shavit)، في مقاله المثير للدهشة “إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة”، الذي نشر في 8 أيلول/ سبتمبر2016 في صحيفة “هآرتس”، بالقول: “الإسرائيليون منذ أن جاؤوا إلى فلسطين، يدركون أنهم حصيلة كذبة ابتدعتها الحركة الصهيونية، استخدمت خلالها كل المكر في الشخصية اليهودية عبر التاريخ. ومن خلال استغلال ما سمي المحرقة على يد هتلر (الهولوكوست) وتضخيمها، استطاعت الحركة أن تقنع العالم بأن فلسطين هي أرض الميعاد، وأن الهيكل المزعوم موجود تحت المسجد الأقصى، وهكذا تحوّل الذئب إلى حمَل يرضع من أموال دافعي الضرائب الأميركيين والأوروبيين، حتى بات وحشًا نوويًا” [Haaretz’s Writers and Readers Are Obligated to Fight for Israel, Not to Spread Hatred and Leave – Opinion – Haaretz.com]
فقد أكد علماء آثار غربيون ويهود، حقيقة مهمة تكمُن في أنّ قرنًا من البحوث الأثريّة المكثَّفَة؛ الذي لم يترك شبرًا أو حجرًا من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر على أثر واحد يربط “أسفار التناخ” (أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعًا) بها، وأي ادعاء بغير ذلك غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق [يُراجع: زئيف هرتسوغ، إسرائيل فنكلشتاين ونيل اشر سيلبرمان، شلومو ساند، كيث وايتلام، توماس طمسن].
انحلال العصبيّة – انحلال الكيان
تَشكّل الكيان الصهيوني من جماعات بشرية مختلفة الأعراق والقوميات، لا تربطها أي صلة قرابة أو دم، انتسبت إلى الديانة اليهودية، وهي بحثت عن “عصبية” تدعم مطالبها بتأسيس الدولة، فقد قامت بتحويل الانتساب للديانة اليهودية إلى عملية اختراع للشعب اليهودي المُتخيّل! وهذا واضح في إعلان الاستقلال لما يسمّى بـ”دولة إسرائيل” الحديثة الذي أصدره مجلس الأمّة المؤقت في “تل أبيب”، في 14/5/1948، فقد جاء فيه: “نشأ الشعب اليهودي…”. فقد كان الانتساب إلى الدين اليهودي إحدى الحجج التي بلورت “العصبية” المُتخيّلة، وتطوّرت في ما بعد إلى مسمّي “شعب إسرائيل”!
إنّ التهديد الوجودي الحقيقي على مستقبل الكيان الصهيوني، هو “ضعف عرى وحدة العصبية”، أو كما قال ابن خلدون في أسباب انهيار الدول “انحلال العصبية”. فقد “ازداد الحديث في (إسرائيل) خلال العقد الأخير عن أنها تواجه صراعات داخلية عميقة تهدّد وجودها، وتعيد أغلب الكتابات هذه الصراعات إلى الاستقطاب الداخلي الشديد على خلفية الصراع الديني- العلماني والشرقي-الأشكنازي الذي انضفر أيضًا في الصراع الأيديولوجي بين معسكري اليمين الجديد الشعبوي الذي يقوده بنيامين نتنياهو ويجمع تحت مظلته المتدينين من التيارات الاستيطانية المتزمتة والحريديم وتيارات واسعة من الشرقيين، ومعسكر وسط-يسار علماني يغلب عليه طابع أشكنازي وينضوي تحت مظلته بالأساس أبناء الطبقات العليا والوسطى من سلالات “المؤسسين” الذين يرفعون راية “المؤسساتية” و”الدولانية” ويحلمون بإعادة إسرائيل “إلى مجدها” الذي يقصد به إجمالًا فترة هيمنة حزب “مباي” في عقودها الأولى، على الرغم من مساعيهم الحثيثة لنزع صفة “ورثة” مباي عنهم والابتعاد قدر الإمكان عن ربطهم به” [هنيدة غانم، قصة الماضي الذي في المستقبل.. “خراب إسرائيل سيأتي من الداخل”!، مدار – قصة الماضي الذي في المستقبل.. “خراب إسرائيل سيأتي من الداخل”! (madarcenter.org)]
وهذا ما حذّر منه رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق إيهود باراك، في مقالته “التهديد الحقيقي هو الكراهية بين اليهود”، التي نشرها في 8 أيار/ مايو 2022 في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، والتي جاء فيها: “ليس الإرهاب ولا الفلسطينيون أو حزب الله، ولا إيران النووية، إن العدو الأخطر هو الصدع الداخلي، التحريض، التعصب والانقسام… هي ذاتها الكراهية المجانية التي تسببت بتدمير عالم اليهود السابق بحسب الحكايات الموروثة». وتنبّه لذلك الرئيس الصهيوني إسحاق هرتسوغ، في تصريحاته: “إنّ إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي في مرحلة صعبة وأزمة داخلية عميقة وخطرة تهدّدنا جميعًا”، وأضاف: “نحن منقسمون ومتخاصمون أكثر من أي وقت مضى” [Israel could cease to exist before 80th anniversary, says ex-premier Barak (presstv.ir)]
يمثّل التصدّع الديني الحاصل في الكيان الصهيوني، بين مجتمع المتدينين الذي يميل نحو مستويات متفاوتة من العزلة وفرض تشريعاته وبقية المجتمع الصهيوني، أهم التصدعات الاجتماعية التي أخذت تهيمن على الساحة الاجتماعية والسياسية، وله تأثير كبير في تعزيز الانقسامات الاجتماعية السياسية الأخرى، مثل التصدع الاثني الحاصل بين المجموعات اليهودية السيفارادية والأشكنازية والمهاجرين الروس والأثيوبيين [يُراجع:عبد القادر عبد العالي، التصدّع الديني العلماني من خلال الحالة الإسرائيلية، إنسانيات، المجلة الجزائرية في الأنثربولوجيا والعلوم الاجتماعية، التصدّع الديني العلماني من خلال الحالة الإسرائيلية (openedition.org)]
في الأسابيع الأخيرة، تتوالى الأزمات السياسية في الكيان الصهيوني، وسط تساؤل حول السبل الممكنة لردم الهوة في ظل الانقسام الشديد بين مختلف الأطياف في المجتمع. وبحسب صحيفة “جيروزاليم بوست”، 14 أب/ أغسطس 2023، فإن هناك حديثًا عن “حل التقسيم”، في ظل غياب دستور للـكيان الصهيوني، وفي ظل فقدان الأمل في التوصّل إلى تسوية يتفق عليها الخصوم السياسيون. المقترح هو أن تكون هناك “دولة إسرائيل”، وتتمركز في محيط “تل أبيب”، وتتكوّن بشكل أساس من الليبراليين العلمانيين، الذين يرون في مصطلح “الدولة اليهودية” على أنه وطن لجميع اليهود، ويرتكز على مبادئ ديمقراطية ليبرالية. والدولة الأخرى هي “دولة يهودا”، وتتمركز في محيط القدس، وتتكوّن بشكل أساس من اليهود المتدينين والمحافظين، الذين يسعون إلى تطبيق الدولة اليهودية؛ بالمعنى الديني. [Splitting Israel into two Jewish states solves nothing – opinion – The Jerusalem Post (jpost.com)]
إضافة إلى مظاهر الترف التي أخذت تترعرع خلال العشرين سنة الماضية، مجتمع الاستهلاك والفساد والبيزنس داخل الكيان الصهيوني والجيش، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون بـ«طور الإسراف والتبذير».
“ينقض عليها العداء من كل جانب”!
علاوة على ذلك، إدراك الصهاينة أن لا مستقبل لهم في فلسطين، وهذا ما أكده الصحفي الصهيوني اليساري جدعون ليفي بقوله: “يبدو أن الفلسطينيين طينتهم تختلف عن باقي البشر، فقد احتللنا أرضهم، وأطلقنا على شبابهم الغانيات وبنات الهوى والمخدرات، وقلنا ستمر بضع سنوات، وسينسون وطنهم وأرضهم، وإذا بجيلهم الشاب يفجر انتفاضة الـ 87.. أدخلناهم السجون وقلنا سنربيهم في السجون. وبعد سنوات، وبعد أن ظننا أنهم استوعبوا الدرس، إذا بهم يعودون إلينا بانتفاضة مسلحة عام 2000، أكلت الأخضر واليابس، فقلنا نهدم بيوتهم ونحاصرهم سنين طويلة، وإذا بهم يستخرجون من المستحيل صواريخ يضربوننا بها، رغم الحصار والدمار، فأخذنا نخطط لهم بالجدران والأسلاك الشائكة. وإذا بهم يأتوننا من تحت الأرض وبالأنفاق، حتى أثخنوا فينا قتلًا في الحرب الماضية، حاربناهم بالعقول، فإذا بهم يستولون على القمر الصناعي الإسرائيلي عاموس ويدخلون الرعب إلى كل بيت في إسرائيل، عبر بث التهديد والوعيد، كما حدث حينما استطاع شبابهم الاستيلاء على القناة الثانية الاسرائيلية.. خلاصة القول، يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال”.
يمثّل التصدّع الديني الحاصل في الكيان الصهيوني، بين مجتمع المتدينين الذي يميل نحو مستويات متفاوتة من العزلة وفرض تشريعاته وبقية المجتمع الصهيوني، أهم التصدعات الاجتماعية التي أخذت تهيمن على الساحة الاجتماعية والسياسية
تضعف الدولة، بحسب ابن خلدون، عندما “ينقض عليها العداء من كل جانب”، وهذا واضح في حالة الكيان الصهيوني، فقد ازداد الحديث في الكيان، خلال العقد الأخير، عن المخاطر المحيطة به، والمشاهد المستقبلية للدولة، فالكيان لم يحرز نصرًا عسكريًا منذ عام 1967، وخاصة بعد سلسلة الهزائم المتتالية التي مُني بها جيشه في عدة جبهات، منذ حرب تشرين/ أكتوبر 1973، واندحار الاحتلال الصهيوني من جنوبي لبنان عام 2000، ومن قطاع غزة عام 2005 ، ثم هزيمته المدوية في حرب تموز/ يوليو- آب/ أغسطس 2006 في لبنان، كما هزائمه العسكرية في 2008/2009، و2012، و2014 في قطاع غزة، ومعركة سيف القدس في 2021.
ومع تعاظم مشروع المقاومة في فلسطين ولبنان، أصبح أمر بقاء واستمرار الكيان الصهيوني تدور حوله الشكوك، فالعدو الصهيوني فقد تفوقه العسكري الحاسم الذي رافقه منذ نشوئه، فلم يعد قادرًا على القيام بعمليات حربية خاطفة أو حروب سريعة يحقّق فيها إنجازات عسكرية كبيرة؛ كُبّلت يداه في مواجهة قوى المقاومة، وبات متخوّفاً من أن تنقض عليه من كل الساحات.