لا يبدو للبعض أن الحرب على لبنان وغزة متجهة إلى الانتهاء، إلا أن هناك عدة مؤشرات داخلية إسرائيلية إلى قرب انتهائها، على لبنان تحديداً، أو إلى تغيّر شكلها. ومن المؤكد أن أي وقف لإطلاق النار لن يكون كما كان بعد حرب عام 2006، إذ لن يكون هناك هدوء دائم، بل ستتخلّله خروقات إسرائيلية تردّ عليها المقاومة.
بوادر وقف الحرب، أو سيناريو تغيّر شكلها إلى حرب منخفضة الوتيرة عمّا نعيشه اليوم، هو الخطة الاقتصادية للعام ٢٠٢٥ التي وضعها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهي عبارة عن ميزانية أساسها انتهاء الحرب، وليست ميزانية حرب كالتي وضعت للعام 2024. وإلى ميزانية ٢٠٢٥، يضاف ما يعانيه جنود الاحتياط بعد عام من الحرب، وهو ما انعكس سلباً بشكل كبير على المجتمع الإسرائيلي، بجانب ما يجري في شمال فلسطين المحتلة من تصاعد أصوات تطالب بوقف الحرب مع حزب الله لتأثيرها على واقعهم الاقتصادي والمعيشي.
بالعودة إلى ميزانية 2025، فبحسب خطة سموتريش المالية ستنتهي الحرب آخر العام الجاري، وهو ما عبّر عنه في جلسة للكنيست لمناقشة الميزانية، بالقول إن الحرب مع لبنان ستنتهي في شهر أو أقل أان شكل الحرب مع غزة سيتغيّر لتصبح عمليات عسكرية منخفضة الوتيرة. وبحسب المشروع المقدّم للكنيست، فإن الشهر الأول والثاني من العام المقبل، سيكونان شهرا بدء التعافي الاقتصادي.
هذه الحاجة في “إسرائيل”، بعد عام من الحرب، إلى وقف الحرب في لبنان وتخفيض وتيرتها بشكل كبير في غزة، تعزى إلى أسباب عدّة، منها:
أولًا: أزمة الاحتياط
لم يعد المجتمع الإسرائيلي يحتمل الحرب، خاصة فئة الاحتياط. وكما هو معلوم فإن غالبية قوات الجيش الإسرائيلي قوامها من جنود الاحتياط. إذ إن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بنت عقيدتها، منذ نشأتها، على الحرب السريعة التي يتجنّد فيها الجمهور في الاحتياط، ثم يعود هؤلاء إلى حياتهم المدنية الطبيعية لتفعيل الدورة الاقتصادية التي تعتمد عليهم.
إحدى نتائج “طوفان الأقصى” كانت تدمير هذه العقيدة العسكرية، ما حتّم على المجتمع الإسرائيلي “التضحية”، من أجل الثأر، بكل ما عاشه وعرفه، وتغيير نمط حياته، ذلك بعدما لامست “الدولة” التهديد الوجودي صباح ذلك اليوم. لقد أثّرت خدمة جنود الاحتياط أكثر من 250 يومًا، واستدعاء قسم كبير منهم للمرة الخامسة، على نمط حياتهم وعلى عائلاتهم وأعمالهم ودراستهم. إذ في الفترة الماضية، نشرت مقالات عدة تحدثت عن معاناة هؤلاء وعن تفكك عائلات بعضهم وطرد آخرين من عملهم لتغيبهم عنها. كما أن الطلاب الذين يخدمون في الجيش أبلغوا قيادتهم العسكرية أنهم لن يخدموا في الاحتياط هذا العام لعدم رغبتهم في ضياع سنة دراسية ثانية عليهم.
هذا الواقع يدركه رئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي الذي وصلته رسائل عدة من جنود الاحتياط وعائلاتهم عبر البريد الإلكتروني العسكري، ما دفعه للطلب من شعبة القوى البشرية تخفيف الأعباء على قوات الاحتياط، في العام 2025 (“إسرائيل اليوم”، الثلاثاء 22-10-2024). وإذ تشهد بعض الوحدات حالياً نقصاً في الجنود، ما دفع الجيش لنشر إعلانات طلب جنود للاحتياط على شبكات التواصل الاجتماعي.
تحمّلُ قوات الاحتياط لحرب طويلة بما يخالف العقيدة العسكرية الإسرائيلية، شكّل أزمة داخلية للجيش الإسرائيلي الذي يطالب حاليًا بتمديد فترة الخدمة النظامية لـ36 شهرًا، وتجنيد المتدينيين اليهود (الحريديم)، وهو ما يهدد بانهيار الائتلاف الحكومي بسبب الخلاف على إقرار القانون. تطالب الأحزاب الحريدية بإقرار قانون إعفائهم من الخدمة العسكرية، لتصوّت على تمرير الميزانية، ما يشكّل عبئًا على الاحتياط والمجتمع العلماني في الكيان، وهو ما دفع كاتب الرأي في صحيفة “هآرتس” (29-10-2024)، روغل آلفر، إلى اتهام الدولة بتفضيلها دماء اليهود المتدينيين على العلمانيين، معبراً عن ذلك بقوله إن “حياة الفرد في إسرائيل قشرة ثوم، ومن المسموح للنظام أن يدمره ويسحقه ويرسله إلى الموت ويضحي به إذا تم اختطافه، ويتخلى عنه ويتوقف عن حمايته. إن دماء الأفراد رخيصة جدًا. هنا يجب علينا التحفظ: دم الأفراد الحريديين يساوي أكثر بكثير. يسري التخفيض فقط على الآخرين. الفاشية هنا دينية: دم الكفار رخيص ويجب التضحية بهم من أجل الحفاظ على الآخرين، الشعب اليهودي، لا سيما من يتعلمون التوراة من بينه”.
ثانيًا: التأثير الاقتصادي
بالعودة إلى ميزانية سموتريتش، فإن الاقتصاد الإسرائيلي يعاني حاليًا من عجز كبير وصل إلى 8.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الأشهر الـ12 حتى يوليو/تموز الماضي، في حين توقعت وزارة المالية أن يكون العجز حوالي 6.6 في المئة، إلا أنه بحسب “بنك أوف إسرائيل” (البنك المركزي) فقد وصل العجز إلى 7.2%.
كما أظهرت الأرقام التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزية (30-10-2024) ارتفاع نسبة البطالة من 4% في آب/أغسطس الماضي، إلى 4.6% في أيلول/سبتمبر الفائت، واعتبار أكثر من 31 ألف عامل عاطلين عن العمل.
ووصل عدد هؤلاء، في شهر أيلول الماضي، إلى 211 ألف شخص، بينما كان عددهم في آب الماضي 180 ألفاً.
وتشير معطيات الشهر الماضي إلى أن نسبة المتغيبين عن العمل بسبب الخدمة في قوات الاحتياط تبلغ 12% بينما كانت 6.9% في الشهر الذي سبقه. أمّا نسبة تغيّب الرجال فتبلغ 23.3% بسبب الخدمة في قوات الاحتياط في أيلول الماضي (تاريخ بدء العدوان على لبنان واستدعاء الاحتياط بشكل كبير)، بينما كانت 18.6 في شهر آب الماضي. أمّا نسبة تغيّب النساء عن العمل في الشهر الماضي، بسبب الخدمة في قوات الاحتياط، فبلغت 3.2%، بينما كانت 1.3% في آب الماضي.
هذه الأرقام انعكست سلبًا على التصنيف الائتماني لـ”إسرائيل”. بالنسبة لبلد مثل لبنان لا يملك اقتصادًا منتجًا هذه الأرقام غير مهمة، أمّا بالنسبة لدولة تقول إنها “أمة الشركات الناشئة”، فإن خفض التصنيف الائتماني ينعكس سلبًا على اقتصادها وعلى المستثمرين الذين سيفضّلون وضع أموالهم في أماكن أكثر أمنًا واستقراراً، بدل استثمارها في دولة تدفع يوميًا على الحرب نصف مليار شيكل (135 مليون دولار).
عدا عن تأثير الحرب في الجبهتين الشمالية والجنوبية على الاقتصاد الإسرائيلي، فإن للجبهة الشمالية تأثير إضافي لم تتمكن غزة من إحداثه بسبب ضعف قدرات المقاومة فيها مقارنة مع لبنان جراء الحصار المصري، وهو الاضرار بنمط حياة المستوطنين.
ثالثًا: تغيّر نمط الحياة لدى المستوطنين
قبل بدء الحرب مع لبنان، أجرى معهد الأمن القومي الإسرائيلي استطلاعين للرأي، الفارق الزمني بين الأول والثاني ستة أشهر. وتوزعت أعمار المستطلعين ما بين 22 و65 عامًا، وتوزع المستطلَعون على نصف صوّت في الانتخابات الأخيرة لأحزاب اليمين (الليكود، الصهيونية الدينية، وإسرائيل بيتنا)، ونصف آخر لأحزاب الوسط واليسار (المعسكر الرسمي، وحزب هناك مستقبل، وحزب العمل). وبحسب نتائج الاستطلاع في آب/أغسطس الماضي، فإن 44% من الجمهور يعتقدون أنه يجب على إسرائيل بدء حملة واسعة في لبنان، ولو أدى ذلك إلى حرب إقليمية واسعة.
إلا أن هذا الجو العام الذي طغى حينذاك تلاشى مع استمرار الحرب مع لبنان نهاية أيلول/سبتمبر، بسبب العدد الكبير من القتلى والجرحى الشهر الماضي، إذ سقط في أكتوبر -على الجبهة الشمالية- 46 قتيلًا وما يقارب الـ900 جريح. كما أن استمرار إطلاق حزب الله للصواريخ وتوزع نطاقها الجغرافي بشكل واسع، أدى إلى تغيّر نمط حياة المستوطنين الذين يعيشون في شمال فلسطين المحتلة وتحديدًا مدينة حيفا التي تعتبر عاصمة الشمال، حيث طلب رئيس بلديتها، يونا ياهف، من سموتريتش (30-10-2024)، إدراج الأعمال التجارية في المدينة ضمن خطة التعويضات للمتضررين في ميزانية العام المقبل وذلك بسبب الحرب مع حزب الله. واعتبر ياهف أن سياسة الجبهة الداخلية بالحد من التجمعات تسببت بكارثة اقتصادية وانخفاض حاد في الإيرادات في قطاعات الأغذية والملابس والترفيه والسياحة والثقافة. كما أدى استمرار إطلاق الصواريخ إلى تأجيل انطلاق العام الدراسي مرتين في العديد من المؤسسات الأكاديمية وأشهرها جامعة حيفا.
وهنا أرقام تظهر حجم الضرر الذي أصاب المصالح الاقتصادية شمال فلسطين المحتلة:
بحسب مراسل الشؤون الاقتصادية لموقع “زمن إسرائيل” تاني غولدشتاين (31-10-2024)، فإنه منذ بدء العدوان على لبنان، تعرضت 77 ألف شركة في منطقة حيفا لأضرار اقتصادية، تضاف إلى 101 ألف شركة في الشمال سبق أن تعرضت لأضرار منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023. ومع اتساع إطلاق حزب الله للصواريخ في الشهرين الماضيين، فإن مناطق الجليل والجولان، حيث تتركز فيهما 15% من الأعمال التجارية في إسرائيل برمتها، سجلت 57% من شركاتهما انخفاضًا في حجم الأعمال، فيما يقع 11% من الشركات في حيفا التي بدأت للتوّ ترصد أضرارها. وبحسب الصحيفة فإنه “منذ بداية الحرب، تم إغلاق 59 ألف شركة إسرائيلية، فيما تركزت الأضرار الرئيسية في قطاعات البناء والسياحة والترفيه والثقافة، وجميع القطاعات الخدمية، وقد أغلقت نصف مطاعم الشمال لفترات طويلة، و23% منها أغلقت بشكل دائم”.
ونقلت الصحيفة عن رئيس بلدية طبريا، يوسي نبوة، أن “أجهزة الأمن بمجرد أن أغلقت الشواطئ، فإن هذا كان بمثابة الحكم بالإعدام على المدينة. و40% من سكان الجليل الأعلى عاطلون عن العمل؛ وبدأت الأعمال التجارية الصغيرة في الانهيار، وانخفض حجم أعمالهم بنسبة 70% منذ بداية الحرب”.
وكشف المدير التنفيذي لاتحاد الصناعات داغان ليفين للصحيفة، أن “الحرب أثرت على الصناعة بعدة أبعاد مختلفة، حيث تأثر الإنتاج سلبًا، لأن العديد من العمال موجودون في جيش الاحتياط، وآخرون خائفون، أو لا يستطيعون الوصول إلى المصانع الواقعة على خط المواجهة، كما تأثرت القدرة على توصيل البضائع بسرعة للعملاء في الخارج، بسبب انخفاض عدد الرحلات الجوية، وهناك عملاء في الخارج لا يثقون بقدرتنا على توصيل البضائع”.
رابعًا: الجمود الميداني
بعيدًا عن الشق الاقتصادي، وصل الواقع العسكري الميداني إلى نقطة جمود لا جديد فيها بعد أسابيع من الحرب. إذ دخلت القوات الإسرائيلية إلى قرى حدودية أغلبها تعتبر ساقطة عسكرية، وتم تدميرها مسبقًا بالقصف الجوي الذي طاولها في عام الإسناد. حاليًا، لا جديد في الميدان العسكري، وكلما ابتعدت “إسرائيل” عن 27 أيلول، يوم اغتيال نصرالله، فإنها ستخسر في استثمار ذلك سياسيًا، وهو ما عبر عنه عدد كبير من المحللين السياسيين والعسكريين الجديّين، أبرزهم رئيس العمليات السابق في الجيش إسرائيل زيف، في مقال على موقع القناة 12، قال فيه: “بشكل واضح الكرة في ملعب إسرائيل إلى حد بعيد جدًا، والسؤال المنطقي الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، هو عمّا إذا كانت هذه الحكومة تعرف كيف تتخذ قرارات أبعد من الضربات العسكرية. بما معناه اتخاذ قرارات سياسية شجاعة تستغل الإنجازات العسكرية وتترجمها كي تغدو نتائج على شكل ترتيبات. هذا سيسمح لإسرائيل بإعادة تأهيل نفسها، بعد الأثمان الغالية والكبيرة والمؤلمة التي دفعتها خلال العام الماضي”.
ماذا بعد؟
في العام الماضي، تعرّفنا على “إسرائيل جديدة”، احتملت عدداً كبيراً من القتلى، تخلّت عن أسراها، وخاضت حرباً طويلة. ما جرى عرّفنا على عدو جديد غيّره صباح السابع من أكتوبر. لكن بعد عام على الحرب التي غيّرت وجه المنطقة، فإن “إسرائيل”، وبرغم من كل الدعم الأمريكي لها، وصلت إلى نقطة تحتّم عليها إيقاف الحرب لأنها دخلت في مرحلة الاستنزاف الاقتصادي والمجتمعي والعسكري.
“إسرائيل” وصلت إلى القمة بعد اغتيال نصرالله، وبعد تلك النقطة فهي بدأت مرحلة الانحدار، بينما، في المقابل، فإن حزب الله متّجه للصعود، لذلك من المحتمل أن يضغط جيش العدو بشكل أكبر على الحكومة لوقف الحرب في لبنان وخفض وتيرتها في غزة، خوفًا من حرب استنزاف ستعمّق الأزمات في الداخل الإسرائيلي.