هل هناك أثقل من هذه الحرب.. أثقل مِن الدم وأطلال المدن وفجائع القصف الذي لا ينتهي؟ شيء واحد ربما؛ أن يرافق هذه الأهوال بحر من الإسفاف، وأن يزدحم المنبر بأصغر الرجال. كلام كثير تضطر لسماعه، لا لأنك تريد سماعه ولكن لأن مكبّرات الصوت حُشدت أمامه، ولأن غثاءه المأجور يؤدي دورًا سياسيًا مطلوبًا. كلام منبَتّ عن مكانه وخارجٌ عن تاريخه ولا يربطه مع الواقع إلا صدفة التزامن. وتعود حينها فتتذكر أقبح ما في هذه الحرب: الاغتراب الذي تعيشه المقاومة -في كل جبهاتها- عن بقية هذه الأمة؛ البقية التي ضيّعت نفسها في أقدس لحظة ممكنة وظهرت غريبةً، لا في الوجه واليد واللسان، بل في الوعي والضمير.
سنة كاملة مرّت، لكنها -في جوهرها- لحظة فيصلية بكل مقياس. أحداث هذه الحرب أعادت لكلمة “تاريخي” شرف اللفظ ومعناه بعد ابتذال طويل. أكبر الإزاحات الحضارية تحصل أمامنا اليوم. منطقتنا -ومِن خلفها العالم- تحبس أنفاسها في معركة سترسم المستقبل لعقود، إن لم يكن حتى لقرون. لكن ماذا يواكب كل هذا على صعيد الأفكار والكتابة؟ لا أتحدث عن مكب النفايات المدعو وسائل التواصل والذي بات وجهًا لجاهلية هذا الزمن. أتحدث عن مفكّرين وكتّاب وباحثين انحبست رؤيتهم بهذا المكبّ ونقلوا ترهاته إلى مساحات العمل الفكري والكتابة الجادة وعمّموا بذلك جرثومته وحولوها مادة نقاش وتفكّر.
مجرد الكتابة في وقت كهذا، حيث الفعل سيد الأشياء ومحرك التاريخ، فيه انزواء عن مركز الحدث. لكنَّ كثيرًا منا لا يكتفون بهجران المركز. هناك نزوح جماعي من كامل مساحة الحدث وتدشين لبيزنطيات وابتذالات لم يَسبق لها أحد. نحن نشهد جدليات ثقافية -في ذروة المجزرة- عن فقهيّات الترحّم وشروطه الشرعية، وإتيكيت الشكر والعرفان، وتوزيع ألقاب الشهادة والاستشهاد، والشعور “الصحيح” تجاه الأحداث. جدليات ومعلقات ونصوص في كيفية التوفيق بين أحاسيسك المرهفة وهرموناتك المضطربة في ساعات كهذه، ومَن ينبغي أن تشجع في مسلسل الإبادة الذي يجري وأنت جالس على قارعة الحدث.
لكن ضع جانبًا أدبيات الإرشاد النفسي الذي احترَفه كثير من كُتّابنا وصار باب رزقهم (يحق لك أن تشعر بكذا لكن احذر أن تشعر بكذا..). هناك الأسوأ: زلزال عسكري ودولي ينجلي أمام أعيننا، وترى -رغم ذلك- كتابات تشبه الوساوس القهرية، أساسها أن تعيد المعاد، لا مرة ومرتين بل ألفًا وألفين. جدالات تحنّطت خلال العشرية الماضية وفقدت أي قدرة على إنتاج فهم أو وعي أو إدراك، تعاد طباعتها وكأنها تعويذات وتمائم، بذات ألفاظها وبُناها وحتى بذات شتائمها وبَذَاءاتها المستهلكة. هذا القحط تراه -أكثر ما تراه- عند الجالسين خارج المعركة. لا أقصد الخارج العسكري وحسب، بل الخارج العقائدي والنضالي والوجداني. هذا الخواء القائم على التكرار ليس عَرَضًا للغياب عن المعركة. هو غالبًا سبب الغياب: هذا الوعي المستقيل من الواقع والغارق في الصوتيات المسجّلة.. كيف له أن ينتج فعلًا أو يبتدع حركة.
وبدلًا من أن تفتح الكتابة نوافذ وتكنس رداءات، يتواطؤ كثيرون في تفخيم الرداءة وتعزيزها. أمثلة كثيرة يمكن ذكرها هنا، أحدها يجدر استحضاره لأنه معبّر ويبيّن المقصود: فجأةً، وخلال هذه الحرب، انتشر مصطلح غريب بين كُتّابٍ كثر. أقول “غريب” ليس لأنه مدهش في إبداعيته، بل لفرط البداهة التي فيه. مصطلح يدعى “الموقف المركّب”: أن تأتي بمقولتين متعاكستين ثم تصور الخروج عنهما (أو الدمج بينهما) اختراقًا فكريًا و”موقفًا مركّبًا”. هذا مثال عن عاهة مستشرية بيننا: تصعيد بديهيات لمرتبة المفاجآت الفكرية الصاعقة. كم مرة أدهشنا سادة هذه الألمعية التحليلية بأن فلانًا “لا هو شيطان ولا هو ملاك” أو أن الغرب “ليس كله شر ولا كله خير” أو أن علاقتنا مع الآخرين لا ينبغي أن تكون تبعية ذليلة ولا صدامًا عدميًا، وإنما -وهنا المفاجأة المزلزلة- شيئًا متوازنًا بالوسط.
بوسعي أن أعدّ أكثر من عشر كُتّاب -دون مبالغة- ممن تبنّوا هذا المصطلح وضمّوه لصندوق عدّتهم المفاهيمي خلال الأشهر الماضية في سياق الكتابة عن طوفان الأقصى. والمصطلح بليغ في كشفه عن موسم الهجرة من التاريخ: أناسٌ ينتحون خارج ساحة الحدث صوب هوامش الترف النظري، وينشغلون في “تركيب المواقف”. هاجسهم أن يجدوا حلًا هندسيًا لفهمٍ سابقٍ كان عندهم مع واقع جديد لا يستوي معه. تكتشف في لحظات كهذه -مرة أخرى- أي بطولة قصوى في غزة ولبنان؛ أولئك الذين ضحوا بدمائهم وأرواحهم وكل ما لديهم، في مقابل من لا يجرؤ حتى على التضحية بفكرة؛ بصورة ذهنية تدور في رأسه مدار الأوهام ولا يُكلّف تجاوزها إلا شيئًا من تواضع.
يبقى وجه أخير لهذه الاستقالة الجماعية من التاريخ: تلك التي تجد أبطالَها خلف متاريس الأكاديميا ومراكز البحث. مِن هناك ومنذ بداية الحرب، سال شلال دافق من التعليق السياسي والإنتاج المعرفي. ليس المقام مناسبًا لإعادة الكلام المعروف عن عاهات الأكاديميا: انعدام الجديد والتلطّي خلف جدار الحشو الاصطلاحي. دعك من هذا. الكل يدرك هذه القصة. لكن هناك ما هو أهم وأجدر بالانتباه، وهو العداء المضمر (والمغلّف بعناية) تجاه الطوفان وتجاه من خاضوا هذه المعركة. ورغم أن سادة هذا العداء يرفعون دم الناس وحسابات الربح والخسارة حجّة لأنفسهم، إلا أن الواقع في مكان آخر. جوهر مشكلتهم أن الطوفان -ورجال الطوفان- لا يشبهون ما وطّنوا أنفسهم عليه. “كَتَالوغ” الفعل التحرري الذي بحوزتهم ليس فيه مدخل “طوفان”، وملامح البطولة في خيالهم لا يوائمها رجل مثل يحيى السنوار. وبدلًا من التواضع اللازم لإدراك محدودية الكتالوغ والاعتراف بفساده، يتحول العداء صوب العمل التحرري نفسه. والحقيقة الأهم خلف كل هذا أن ما جرى في السابع من أكتوبر كان أكبر من خيال الأكاديميا العربية، وأن حماس لم تقتحم جدار غزة وحسب في ذلك الصباح، بل اجتاحت أسوار الحرم الأكاديمي ونكّلت بمن فيه.
يكفي مثالًا على هذا التوتر تجاه طوفان الأقصى ما تراكم لدينا من نصوص تحليلية صدرت خلال هذه الحرب ويصلح أن تُلقّب في مجموعها: “أدبيات نفي الانتصار”. الصبيانية هنا أكثر إزعاجًا من التموضع السياسي المعادي للمقاومة وأهلها. يدرك هؤلاء أن من يخوض معركة بهذا الحجم يحتاج خطابًا يشحن التضحية بقيمة ومعنى، وأن قادة المقاومة لا يقدّمون أوراقًا علمية لغايات الترقية وهم يخاطبون جمهورهم في عز المعركة ويعِدُون بالنصر. لكن باحثنا الأريب يتعامى عن كل هذا ليتفرغ بعدها لأرخص مهمة يمكن تخيلها: تقديم تحليل نقدي حول عدم صلاحية لفظ “النصر” على من يموتون في مواجهة إسرائيل. وقبل أن تكون هذه استقالة من التاريخ، فهي استقالة من الحس وأبجدية السياق، وهجرانٌ من الإنسان لقضيته وناسه وحتى لجِلده.
ربما تكون واحدة من إنجازات هذا الطوفان أنه كشف مناجم القوة الفكرية في منطقتنا: عن خواء كثيرٍ منها رغم ما يحيطها من دعاية وترويج، وعن الغنى الهائل لبعضها الآخر رغم الطمس المتعمد الذي يحجبها. لقد ثبت أن صفوة قوانا الفكرية هم أولئك المنخرطون في العمل المقاوم. أولئك الذين تُنفق وزارات الحرب الغربية مليارات لتحاربهم وتلغي وجودهم الفيزيائي، وليس أولئك ممن تنفق السفارات ومكاتب التعاون الأوروبي آلافاً لتمولهم وتصنع منهم نجومًا وسادة فكر. هؤلاء المقاومون وقادة الفعل العسكري هم موضع الثقل الفكري في هذه المنطقة، وقد أثبتوا أنهم الأقدر على تخليق الجديد وفتح آفاق من خارج المعهود. أولئك الرابضون اليوم في الأنفاق، القابعون في قلب التاريخ والعازمون على تحويل مساره، عنوةً، وبأنفسهم.