عمل قائد كتائب عزالدين القسّام محمد الضيف على رسم لوحة اشتباك عريضة على طول الجغرافيا عبر بيان طوفان الأقصى في صباح السابع من أكتوبر: بدءًا من مخاطبة المركز، أي مجاهدي المقاومة في غزة، ومن ثم يمتد الشعاع إلى شباب الضفة الغربية ومن ثم أهلنا في القدس، ويتوسع نطاق الدائرة إلى الاخوة في المقاومات الإسلامية في لبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا، ومن ثم توجيه النداء للمجالين العربي والإسلامي. وصولًا إلى الساحة الأبعد جغرافيًا من “أبناء الأمة وأحرار العالم؛ من لم يستطيعوا المشاركة الفعلية في طوفان الأقصى فعليهم المشاركة “بالتضامن والتظاهر والمساندة والخروج للساحات والميادين”. منذ بدء الطوفان، وخلال العشرة أشهر الماضية، من الصعب المجادلة بأن لوحة الضيف لم تكتمل، وإن كان كل نطاق وساحة يتصاعد ويخبو بأحكام ظروفه الخاصة، ومواجهته للسياسات المقابلة من جبهة العدو من أنظمة عربية و”إسرائيل” وأمريكا والغرب بمجمله. وإن كان الضيف لم يخاطب الشتات الفلسطيني مباشرة، فهو، ومن منطلق أساس لمركزية الأمة في خطابه، توجه خطابه لأبناء الأمة في الساحة الجغرافية الأبعد، أي في المهجر وكل العالم.
يهدف هذا النص المختصر، والمستقى من بحث ميداني اثنوغرافي على مدى شهور لنشاطات وناشطي هذه الفعاليات والمظاهرات المتضامنة والمساندة في هولندا في غرب أوروبا، إلى تبيان طبيعة تأثر وتأثير الفلسطينيين في هولندا بطوفان الأقصى، والتحول الذي أحدثه السابع من أكتوبر على حياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين بما أسس لمرحلة وتغير ثوري في السياق التاريخي للقضية الفلسطينية.
نبذة تاريخية: الفلسطينيون في هولندا
تحكي حياة الفلسطينيين قصة نزوح مستمر ومعقد، فأن تكون فلسطينيًا يعني أن تنزح وتتنقل من مكان لآخر. بل إن ما نطلق عليه الهوية الفلسطينية هي محصلة ما تكونه سلسلة رحلات النزوح المتولّدة من التهجيرين القسريين الرئيسين عام 1948 و1967. لذلك، فإن فهم هوية كل مجتمع فلسطيني أو هوية أفراده المنتمين إليه، يتم من خلال استكشاف هذه الرحلات، وما واجهوا ويواجهون فيها من صعوبات. وبشكل عام، إن فحوى أن تكون “فلسطينيًا” هي تلك الخصائص المشتركة التي تتجاوز الزمن والجغرافيا، وتتجلى بطرق مختلفة في كل مرة، في كل رحلة.
يتشكل الشتات الفلسطيني في هولندا من مجتمعات متعددة، تكونت من خلال رحلات نزوح وهجرات مختلفة. وعلى الرغم من أنها جميعها متولّدة من تهجيري 48 و67، إلا أنها جميعًا دخلت في طبقات وأنماط مختلفة من الهجرة للوصول إلى هولندا، تختلف كل منها في وقت الوصول ومكان القدوم (البلد الذي هاجرت منه العائلة قبل الوصول إلى هولندا)، وبالتالي وضعها القانوني. وهذا الأخير هو أمر حاسم سيحدد حياتهم ووجهات نظرهم والطبيعة العامة لتغريبتهم، حيث أن الرحلة التي تنتظرك كفلسطيني هي حدث أقرب للاعتباطية والعشوائية، سيقيّدك بوثائق قانونية مختلفة على طول الطريق. إلى درجة أنه يمكن أن تضم الأسرة الفلسطينية أفرادًا مختلفين برحلات مختلفة، ومن الناحية القانونية لديهم وثائق مختلفة، وبالتالي، حياة مختلفة جوهريًا، وبما يؤثر على الاهتمامات اليومية. بمعنى أن أفراد الأسرة الواحدة من الممكن أن يعيشوا حياة مختلفة تمامًا لظروف لم يختاروها في المقام الأول.
يرجع الوجود الفلسطيني في هولندا إلى ما قبل حرب ٦٧، حين وصل قرابة الـ 120 فلسطينيًا إلى مدينة فلاردينجن جنوبي هولندا، ضمن بعثة تدريبية إلى مصنع للسمن كان قد افتتح فرعًا له في محافظة نابلس الفلسطينية، ليؤسسوا الموجة الأولى من المهاجرين إلى هذا البلد. وإن كانت الهجرة هذه ضمن العنوان التدريبي والمهني، إلا أن وقوع حرب 67 دفع العديد من هؤلاء وعوائلهم للبقاء والاستقرار في البلد الجديد. وتكمن المفارقة التاريخية، التي ستحدد حياة هؤلاء المستقبلية، وكذلك مستقبل أجيالهم، في وقوع هجرتهم في ظرف زماني بين سلطة الأردن على الضفة ومن ثم سلطة الاحتلال. وعليه، من الناحية القانونية، تمكّن هؤلاء من الحفاظ على الارتباط بالضفة ومن ثم تملك هوية السلطة الفلسطينية. ولذلك، وعلى الرغم من الأقدمية منذ أواخر الستينات في الوصول إلى هولندا، إلا أنهم وعلى طوال السنين التي تلت لم يفقدوا الصلة المباشرة والزيارات السنوية للضفة الغربية حيث مكنهم وضعهم القانوني من ذلك.
وكما تعبّر إحدى بنات أول عمال مصنع السمن أن هذه الظروف مكنتهم ومكنت أبناءهم بأن لا “يتهلدنوا” من ناحية خسارة اللغة العربية أو الهوية الفلسطينية والعربية لأبنائهم. من جانب آخر، حدّت هذه الميزة القانونية من نشاطهم السياسي حتى اليوم، حيث يمارس أكثرهم رقابة ذاتية على نشاطهم السياسي خصوصًا على وسائل التواصل خشية من منعهم وحرمانهم من عبور الجسر وزيارة الضفة الغربية كل عام.
تبعت هذه الموجة الأولى من الهجرة موجات أخرى معقدة خلال الثمانينيات والتسعينيات، حيث تنوعت فيها بلدان القدوم: من لبنان وسوريا والخليج وغيرها. بداية من الغزو الصهيوني للبنان عام 1982، وصولًا لحرب الخليج الثانية ومن ثم اتفاق أوسلو. وبسبب تعقيد نمط الهجرة هذه وظرفه والوثائق القانونية التي يمتلكها هؤلاء الفلسطينيون، أو بالأحرى عدم امتلاك وضع قانوني كفلسطينيين في أوروبا حيث لا اعتراف بفلسطين وتسجيل أغلبهم كـ”بدون جنسية”، أو حتى “مجهول”، تحددت طبيعة حياة هؤلاء وحياة أبنائهم وشكل ارتباطهم بفلسطين وهويتها وأيضًا علاقتهم بالبلد الجديد هولندا وبشكل يرسم اختلافًا بينيًا بين كل موجة هجرة. وإن كانت جميع العوائل الفلسطينية من مختلف أمواج الهجرة تشترك في الحرص على تناقل فلسطينيتهم ثقافيًا ولغويًا عبر الأجيال، إلا أن شكل ونوع هذا الارتباط يختلف من موجة إلى أخرى، وهو أمر يلعب دورًا فيه اختلاف بلد القدوم أكان من لبنان أو سوريا أو غيرها.
الموجة الأخيرة للفلسطينيين في هولندا تولدت من الحرب السورية وبما يشمل أثرها على لبنان، وهي الأكثر انتشارًا، ولها حضور بارز في النشاطات والفعاليات. ويضاف إلى ذلك، تجمع للفلسطينيين القادمين من غزة والذين عملوا بدورهم على تنظيم أنفسهم والحضور في الميادين والشوارع بشكل دؤوب. أما الموجة الأخيرة، وهي المختلفة قانونيًا بشكل كبير، فهي مجموعات فلسطينيي الداخل، والذين عمل ظرف تملكهم للوثيقة القانونية للكيان الإسرائيلي على تشكيل حياتهم في أوروبا بشكل يمثل المقلب الآخر لتجربة اللجوء.
رغم الاختلافات القانونية والزمانية والمكانية بين موجات الهجرة، والتي تتحول في حالات عدة إلى حواجز على فهم بعضهم البعض من ناحية تنوع ظروف كل تجربة، إلا أن المحصلة النهائية لأحداث ما بعد السابع من أكتوبر قد أفضت إلى تحول ونقلة نوعية في الوعي السياسي والانتماء للهوية الفلسطينية بشكل لم يستثن أيًا من هذه الموجات وتحديدًا شريحة الشباب والشابات فيها.
منظور المقاومة في غزة: ما بين “سيف القدس” و”الطوفان”
في الثاني عشر من أكتوبر من عام 2023، وفي كلمته المصورة، صرح الناطق باسم كتائب القسّام أبو عبيدة بالتالي: “لقد ابتدأت فكرة هذه المعركة المباركة، من حيث انتهت معركة سيف القدس عام ألفين وواحد وعشرين، تلك المعركة التي وحدت الساحات وحشدت الأمة، حول أهمية الدفاع عن مقدساتنا ومستقبل شعبنا في أرض فلسطين”. كانت معركة “سيف القدس” بذرة أولية لإعادة انخراط الشتات الفلسطيني في الخارج في النضال التحرري. وهذا ما تشير إليه نتائج المقابلات مع المشاركين في هذه الدراسة، على تنوع انتمائهم لموجات الهجرة وبلد القدوم والجنس. إذ يصف المشاركون حرب 2021 كلحظة مفصلية في تحول حياتهم الشخصية في أوروبا وجذوة اشتعال هويتهم السياسية الفلسطينية والارتباط بها. وعليه، زيادة انخراطهم السياسي على الأرض وفي وسائل التواصل، والمبادرة إلى إشهار هذا الانتماء في المجال العام. يضاف إلى هذه الحرب ما تبعها من استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة عام 2022، وهي شهادة أعادت تذخير وحشد انتماء فلسطينيات في النضال السياسي الفلسطيني، يضاف العديد من العمليات النضالية في الضفة الغربية عملت على إبقاء حرارة القضية وصلة الشتات بما يحدث في الوطن الأم.
وعليه، لم يكن أثر “طوفان الأقصى” منبثقًا من عدم، بقدر ما أن معركة “سيف القدس” شكلت أرضية سابقة للفاعلين الفلسطينيين من الشباب والشابات في هولندا، والذين تحوّلت حياتهم من ارتباط نحيل بقضيتهم الوطنية وغرق في بناء الحياة الشخصية في المهجر، إلى المبادرة الفاعلة في الحشد والتنظيم للفعاليات والمظاهرات مع بدء الحرب، وهو ما أثّر حتمًا على طبيعة وحجم مشاركة الفلسطينيين في هولندا في لوحة “طوفان الأقصى” عبر “التضامن والتظاهر والمساندة” مع انتفاء القدرة على “المشاركة الفعلية”.
اشتعال الهوية وأيديلوجيا سياسية جديدة
من الممكن تلخيص أثر “الطوفان” على الفلسطينيين في هولندا عبر عدة نقاط:
- اشتعال الهوية السياسية الفلسطينية
- الإحساس بالاعتراف وجرأة تملك المجال العام
- تحوّل في الأيديولوجيا السياسية وفلسفة الصراع
في الإطار العام، تخوض فئة الشباب التي تعيش في الشتات صراعًا مريرًا حول الهوية. فهم يعيشون في الحدود بين بنى ثقافية وهويات مختلفة، وهو ما يجعلهم يعيشون في خانة في المنتصف دونما حسم للانتماء. فأنت في هولندا العربي ومهاجر وفي الوطن العربي أنت الهولندي. تؤدي هذه الحالة إلى نوع من “الوعي بالمكان”، وهي تلك الصلة النحيلة والثقافية بفلسطينيتك، وأن هنالك مكان ما يدعى فلسطين. إلا أن ما يؤدي إلى “اشتعال” أو “تفعيلها” لتعبر عن نفسها كممارسة سياسية، أي كهوية سياسية، هي جولات النضال المستمرة في فلسطين نفسها ووقعها على فلسطيني الخارج كنداء للانخراط في الصراع.
أي أن عملية تحوّل العلاقة مع فلسطين من علاقة شخصية مرتبطة بتاريخ الأجداد والجذور الماضية في فلسطين إلى علاقة سياسية ووطنية فاعلة وراهنة، عملية عمادها الحدث السياسي والثوري في فلسطين نفسها. بتعبير آخر، إن أثر هبات النضال على أرض فلسطين، وتضحيات المقاومين والفدائيين فيها، تعمل هي عملية تاريخية لها أثر وجدوى مباشرة على الحفاظ على صلة الشتات بالوطن وبالعودة له.
المختلف ما بعد 7 أكتوبر و”طوفان الأقصى”، أن فحوى ومدى وفاعلية هذا الاشتعال في الهوية والممارسة السياسية مختلف عما سبقه، والأهم أنه يشكل قطيعة معه. فأولاً، ورغم كل العمل والسردية التي تلت أوسلو من محاولة إعادة تقديم الفلسطيني ضمن عنوان السلام والمسالم، بقيت الهوية الفلسطينية حبيسة بين العنصرية وصورة الإرهاب في الغرب، وبين الجهل بها.
تعبّر أمل، التي تعيش عقدها الثالث في هولندا، أنه من قبل 7 أكتوبر كانت مسألة تقديم وإبراز هويتها الفلسطينية مسألة شائكة، والتحايل حولها ضرورة للنجاح المهني، خصوصًا في دولة ضليعة في دعم “إسرائيل” كهولندا. من جانب آخر، وإن ذكرت أنها من فلسطين يبقى ذلك المكان مجهولًا ويخلط بأنه باكستان بالنسبة للهولنديين. أما اليوم، فوفقًا لأمل فإنه، ولأول مرة، تشعر بالاعتراف والثقة والجرأة في الحديث عن فلسطينيتها في المجال العام. بل إن ما يضاف على ذلك، أن لفلسطين اليوم سطوة في المجال العام في هولندا بشكل غير مسبوق. والمهم الإشارة هنا إلى أن هذا التغيير ليس مجرّد انعكاس لتغير في تصور الرأي العام العالمي، بل الأهم هو تغير في نفسية الفلسطينيين أنفسهم وطبيعة وجودهم في هذا المجال العام بجرأة وقوة واعتزاز أكثر من أي وقت مضى.
يترافق هذا التغير مع تغير في الفكر والأيديولوجيا السياسية، ففي حين تم تصدير القضية الفلسطينية ما بعد أوسلو عبر نطاق خطاب كونية حقوق الإنسان والعدالة الدولية، وخلاله نسج العديد من الفلسطينيين في الخارج رابطهم الوطني عبر هذا النطاق الأيديلوجي. فاليوم، يعكس تحليل خطاب والمقابلات المباشرة للناشطين الفلسطينيين في هولندا قطيعة مع الرابطة السابقة، واستعادة واضحة لخطاب مناهضة الاستعمار والمقاومة والوقوف مع الكفاح المسلّح. بل إن أحد أقوى القواسم المشتركة للفلسطينيين، من مختلف أمواج الهجرة، هو الموقف الواضح من السلطة الفلسطينية ومحمود عباس، والخط السياسي الفلسطيني ما بعد أوسلو.
انخرط فلسطينو ما بعد السابع من أكتوبر في هولندا في السياسة والواقع النضالي على الأرض في فلسطين بشكل يصل فيه خطاب ومنطوق حركات المقاومة ورموزها أكثر من أي وقت مضى. وإن عصا التهديد بالوسم بالإرهاب وسردية “صورتنا أمام العالم” لم تعد ناجعة. إلا أنه، ورغم ذلك، يبقى الشتات بعيدًا عن التحول للدور المأمول في الموقف والتنظيم للعمل السياسي، ويبقى للاختلافات والتخندقات السياسية المتصارعة في الإقليم والوطن العربي أثر رغم انكماش الهوة. وكذلك، تؤثر اختلاف تجارب النزوح والهجرة على فهم كل مجتمع للآخر وخلفيته وكيف يرى العالم كل من رحلته وتجربته. لكن الحتمي أن “الطوفان” وفي عشرة شهور عمل على نقلة ثورية لم تكن تتصور لسنوات، وأعاد الشتات الفلسطيني على سكته وطريقه للعودة وليصنع الشعب الفلسطيني لنا أول ظاهرة تاريخية لشعب نقض شتاته وكسر مشروع إبادته عبر مستعمريه الأوروبيين بتحقيق المسيرة كاملة: تهجير فشتات فعودة، بتضحياته وسلاحه.