لا شيء يوضح مسيرة الشهيد وليد دقة ويبرز خصوصيتها أكثر مما كتبه يامن نوباني في العدد 292 من مجلة “شؤون فلسطينية”، في باب “أنثولوجيا”، تحت عنوان “جامعة اسمها وليد دقة”:
“افتتح وليد دقة في 25 آذار 1986 جامعة لا تشبهها أي جامعة في العالم. تتوزع أفرعها اليوم على 28 موقعًا شمال ووسط وجنوب فلسطين المحتلة. وهي 19 سجنًا، وأربعة مراكز تحقيق، وثلاثة مراكز توقيف، ومحكمتان عسكريتان.
تغطي الجامعة كامل فلسطين التاريخية. 27.027 كم. بدون نقاط تفتيش. تعبرها كما لو أنك تملك البلاد كلها. لا أحد يستطيع إيقافك”.
تعامل وليد دقة مع هذه الجامعة (أي نفسه) على أنها ذات باحثة وموضوع للبحث في الآن نفسه، وقد وقف عند هذه الإشكالية في تمهيده لكتابه “صهر الوعي، أو في إعادة تعريف التعذيب”، إلا أنّ ذلك مستحيلٌ، تقريبًا، أن ينطبق عليه. أي كتابة عن وليد دقة لا يمكن أن تحوّله إلى موضوع. إذ يصير، بسحرٍ ما، هو ذات البحث نفسه، وذات الباحث. يتسلّل من بين أعماله ليحضر كذات فاعلة، وتسطو روحه، مقالاته، كتبه، رسوماته، على أيّ بحث. لذا، أقصى ما يمكن أن نفعله في الكتابة عنه هو الانطلاق منه، ومثل هذا فعلت معظم الدراسات؛ فمرة انطلقت من رسوماته، مرة من مخطوطاته، ومرة من كتبه. هكذا ترسم الكتابة مسارها بنفسها، وتصبح كتابة متقطّعة: كتابة الباحث من جهة، ووليد دقة من جهة أخرى، فيها جملة للباحث وجملة لوليد، جملة للباحث ورسم لوليد، جملة للباحث ومقطع سردي لوليد. قسّم رولان بارت من قبل قصة بلزاك ( س/ ز) إلى 516 وحدة دلالية، وكتب عنها في كتابه (س / ز) ستة أضعاف القصة أو أكثر بكثير. مع وليد دقة لا يمكن فعل ذلك أبدًا، إنه يسهم في كتابة البحث عنه، يصوّب ويدقّق ويشرح ويحلّل ويفكّك، وهو الذي يختار للبحث شكله. من “يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002” الذي حرّره وأعدّه عام 2004، ثم “صهر الوعي” عام 2010، ومسرحية “حكاية المنسيين في الزمن الموازي” سجن جلبوع 2011، وصولًا إلى ثلاثيته “حكاية سر الزيت”، “حكاية سر السيف”، “حكاية سر الطيف”، بالإضافة إلى عشرات الترجمات والمقالات: “الزمن الموازي” 2005، “ميلاد: أكتب لطفل لم يولد بعد” 2011، “حرر نفسك بنفسك” 2020، “السيطرة بالزمن” 2021، غير المخطوطات والرسومات والأشعار والأغاني والنصوص السيرية والمسرحية، يقف وليد دقة رجلًا عصيًا على التصنيف، منظّرًا وباحثًا وروائيًا ورسامًا ومسرحيًا ومؤرخًا، ويحضر حتى في ما يُكتَب عنه، ويساهم فيه.
صهر الوعي
لا يشبه القمع والتعذيب في السجون الإسرائيلية حالات القمع والتعذيب التي تصفها أدبيات السجون في العالم. لم يعد الجسد الأسير في عصر ما بعد الحداثة هو المستهدف مباشرة وإنما المستهدف هو الروح والعقل.
إنّ حالة فقدان القدرة على تفسير الواقع والإحساس بالعجز وفقدان الحيلة لا تقتصر على السجون فقط، ولا هي من نصيب الأسرى وحدهم، وإنما هي حالة فلسطينية عامة، حيث تتطابق ظروف المواطن الفلسطيني مع ظروف الأسرى، ليس في شكل القمع فحسب، بل هناك تشابه جوهري يتصل بالهدف الذي يريد سجانهم تحقيقه في كلا الحالتين وهو: إعادة صياغة البشر وفق رؤية إسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيما صهر وعي النخبة المقاومة في السجون.
من هذا المنطلق كتب دقة “صهر الوعي أو في إعادة تعريف التعذيب”، وكانت دراسته لحياة الأسرى كعينة مصغرة عن حياة المواطنين في الأراضي المحتلة يمكنها تبسيط الصورة وإيضاحها لفهم المشهد الفلسطيني برمته، إذ يقارب دقة بين السجنين، الكبير والصغير، أكثر من مرة، يقول: “لا ينتهي الشبه بين السجن الصغير والسجن الكبير فلسطينيًا عند هذا الحد، بل هناك تشابه في القراءة الخاطئة والمعالجات التقليدية العاجزة عن النهوض بالقضية الفلسطينية كما هو النهوض بقضية الأسرى. وإنّ العنصرية بالنسبة له، ممثلة بالفصل العنصري والممارسات الإسرائيلية، هي أداة لتحقيق الهدف الأساسي الذي هو إعادة صهر الوعي الفلسطيني بما يتسق ومشروع الدولة العبرية، وهي عنصرية منظمة تقف وراءها كامل المؤسسة الإسرائيلية بمنطقها وتبريرها القانوني والأخلاقي.
وقد عنت المؤسسة الإسرائيلية في البداية بعملية “صهر الوعي” جعل فكرة المقاومة فكرة مكلفة عبر هدم البيوت والقتل والتدمير الواسع. وغير استهداف البنية التحتية المادية للمقاومة، بدا للاحتلال أنه من الضروري إضافة مكونات جديدة هي عناصر البنى التحتية المعنوية، أي: مجموع القيم الجامعة التي تجسد مقولة الشعب الواحد في الحياة اليومية. وقد تمثلت وتجلت بوضوح أثناء الانتفاضة الأولى بالتعاضد والتكافل الاجتماعي الفلسطيني بين جميع الفئات والطبقات والمناطق.
يميل دقة للاعتقاد أنّ “إسرائيل” منذ عام 2004 أنجزت نظامًا علميًا شاملًا وخطيرًا، يعتمد أحدث النظريات في الهندسة البشرية وعلم نفس الجماعات بغية صهر الوعي الفلسطيني عبر تفكيك قيمه الجامعة.
وأخطر ما في هذا النظام أنه من الصعب الإحاطة به، لا سيما أنه مقسم إلى مشاهد منفردة لا يرى منها المواطن إلا أجزاء محددة، فيما يرى الاحتلال ويحيط بكل المشهد الفلسطيني بأقل ما يمكن من الإمكانات والزمن والتكلفة. إن كان ذلك عبر الكاميرات في المدن، كالقدس، أو مراقبة كل المدن الفلسطينية بطائرات الاستطلاع والأقمار الاصطناعية، أو مراقبة الأثير عبر الهواتف والفاكسات وأجهزة الكمبيوتر. ذلك غير السيطرة على مداخل ومخارج المدن والمحافظات عبر الحواجز.
يحاول دقة تبسيط هذا النظام من خلال إجراء مقارنات بين نموذج السجون، من جهة، وما يجري في الأراضي المحتلة من جهة أخرى. ويعتمد في إطاره النظري لدراسته على ما كتبه ميشيل فوكو في “المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن” حول “المشتمل” (يذكره فوكو في كتابه في الصفحة 210)، وما طوّره زيجمونت بويمن عن الحداثة وتقسيمها إلى حداثة صلبة وحداثة سائلة، وما كتبته ناعومي كلاين بشأن عقيدة الصدمة.
يقول دقة، في سياق تعريف للمشتمل وعقيدة الصدمة اللتين تشكّلان الإطار النظري للدراسة، إنه إذا كان ما أقامته “إسرائيل” من معازل للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عبارة عن سجون كبيرة، فما تحاول تطبيقه بحق الأسرى داخل السجون الصغيرة هو استكمال لنفس السياسة هناك.
المشتمل هو الصورة الهندسية البنائية لهذا النموذج عن السيطرة والمراقبة التي تقوم بها “إسرائيل”، ليس بغرض الأمن وإنما لإعادة صياغة البشر عبر السيطرة الكلية عليهم أو خلق وهم المراقبة الدائم لدى كل مواطن فلسطيني.
يصف فوكو “مشتمل بنتهام” في كتابه بأنه عبارة عن مبنى دائري الشكل وفي الوسط برج مراقبة، داخل البرج نوافذ واسعة تفتح على الوجه الداخلي للحلقة، ويقسم البناء الجانبي إلى غرف معزولة ولكل غرفة شباكان، واحد من ناحية الداخل مطابق لشبابيك البرج، وآخر يطل على الخارج يتيح للنور أن يقطع الغرفة. عندها فإنّ وضع مراقب واحد في البرج يكفي، وفي كل غرفة يسجن مريض أو مجنون أو عامل أو محكوم.
ما يتيحه مثل هذا النظام هو تفادي الأسرى (أو الجماهير) ككتلة بشرية واحدة عبر تقسيمهم: مرئي ولكنه لا يَرى، موضوع استعلام لكنه لا يشكّل أبدًا موضوعًا في الاتصال، جسم وموضوع متلقي سلبي لكنه أبدًا ليس ذاتًا فاعلة.
أما عن عقيدة الصدمة، فالصدمة ليست بالضرورة حربًا يُبادر إلى شنها ضد بلد، بل قد تتحقق عن طريق انقلاب أو هجوم أو انهيار أو كارثة طبيعية. فالأحداث والكوارث قد تلين مجتمعات بأكملها مثلما يفعل التعذيب الجسدي بالأسرى في غرفة التحقيق.
تريد “إسرائيل” كما كان يصرّح قادتها “جباية ثمن باهظ” يشكّل حالة من الصدمة الشديدة للفلسطينيين. ذلك عن طريق إحداث حالة من الرعب الشديد مفادها أنّ “إسرائيل جنّ جنونها” ولم يعد هناك قانون قادر على ضبطها. ثم تستثمر تلك الصدمة (التي حدثت نتيجة العنف والقتل والتدمير) في صياغة وعي الفلسطيني، بعد ضرب “البنى التحتية المعنوية” للمقاومة. هذه الصدمة التي يحدثها الاحتلال بالقتل والتدمير الشامل ليس هدفها إنهاء عمل الفصائل الفلسطينية، بجعل فكرتها، أي المقاومة، مكلفة فقط. وإنما محو مجموعة المفاهيم والقيم التي تشكل البنية التحتية المعنوية للمقاومة أيضًا، وأولها مقولة الشعب والقيم الوطنية الحامية للنضال والمناضلين، واستبدالها بقيم ما قبل وطنية يسهل التعامل معها. بكلمات أخرى: أرادت “إسرائيل” من وراء الدمار والقتل إحداث صدمة من شأنها أن تفقد المجتمع والنخب الفلسطينية القدرة على التفكير المنطقي والمتوازن، لتحقق استدخال مفاهيم وقيم تفرغ أطرها القائمة من محتواها المقاوم.
من أجل تحقيق ذلك، أضافت “إسرائيل”، إلى الدمار والقتل، تقطيع الأراضي المحتلة إلى معازل، حيث لا يعود بوسع الفلسطيني رؤية المشهد الوطني بكامله، وهو غارق في هموم الجزء الذي يعيش فيه عن الوطن، فكيف بحكم مرور الزمن والتكرار عن التفكير كمجتمع متكامل.
في الأسر، لم تعد السيطرة في سجون الاحتلال سيطرة مباشرة عبر الوجود المادي للسجانين. لقد استبدل البرج المركزي (في مشتمل بنتهام) بالكاميرات الموجودة في كل زوايا السجن، واستبدلت أقفال الأبواب اليدوية بنظام فتح وإغلاق إلكتروني، حيث يكفي اليوم وجود حارس واحد في غرفة المراقبة، للسيطرة على قسم مؤلف من 120 أسيرًا، ويصبح السجان يتعامل مع موضوع يراه على الشاشة، لا مع ذات، مما يولد لديه قسوة أكبر.
إنّ جملة التناقضات التي يخلفها هذا الواقع في السجون، إلى جانب السيطرة الكاملة والكلية على أكبر عدد ممكن من الأسرى وفي أقصر مدة زمنية وبالتزامن، جعل لتطبيق خطة صهر الوعي إمكانية عملية. فالسجن الحديث ليس سيطرة وحجزًا للجسد فقط، وإنما هو سيطرة على زمن الأسير، الخاضع للسجان الذي يقسم وحداته.
من هذه الإشكاليات وما تحدثه في نفس الأسير، والخلخلة التي تنتج عنها، يناقش دقة بعد ذلك إمكانية تحقيق خطة “صهر الوعي” وتطبيقها على الأسرى، ويذكر عشرات الممارسات الإسرائيلية، سواء عند إضراب 2004 أو غيرها، وكيفية تقسيم الأسرى في السجون وفقًا للمناطق والبلديات، حيث يحاول الاحتلال أن يجعل الانتماء المناطقي والأهلي يطغى على الانتماء الوطني.
يقول دقة في النهاية: إنه لمن المؤسف أنّ لجان حقوق الإنسان وجمعيات الدفاع عن الأسرى بصورة عامة، والفلسطينية بصورة خاصة، ما زالت لم تقدم أي تفسير علمي جاد لهذه الممارسات الإسرائيلية التي تقرأها كإجراءات وأحداث منفصلة لا يضبطها ضابط قانوني أو منطق سياسي. إنّ السجون الإسرائيلية اليوم هي بمثابة مؤسسات ضخمة لسحق جيل فلسطيني بكامله، بل هي أضخم مؤسسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيلٍ من المناضلين.
زمن وليد دقة
قد يكون عبد الرحيم الشيخ أكثر مَن كتب عن وليد دقة، سواء في “معاني فلسطين في حكاية سر الزيت” عام 2018، أو “وليد دقَّة: دِقْ قَوِّي الدَّقّ وَعِّيْ كلّ البشر” عام 2020 عن صناعة دقة لعود داخل السجن من أجل الأسير فداء الشاعر، ثم مصادرته من قبل قوات الاحتلال في السجن، وأثر الحكاية هذه في مسرحية دقة “حكايات المنسيين في الزمن الموازي”، أو في دراسة الشيخ “الزمن الموازي في فكر وليد دقة” عام 2021، أو دراسته الأخرى “المكان الموازي، رسم الزمن في فكر وليد دقة” عام 2023، أو “الشهداء يعودون إلى رام الله” 2023 عن كتاب وليد دقة بنفس الاسم قبل أن يُنشَر.
مشروع عبد الرحيم الشيخ يتلخّص في تحقيق ما طمح وليد دقة إليه: “أن يتمكّن من رسم الزمن”.
في دراسته “الزمن الموازي في فكر وليد دقة”، يهدف الشيخ إلى تبيّن مفهوم الزمن الموازي كمصطلح فلسفي يصف الحياة داخل السجن قبالة الزمن الاجتماعي خارجه، كما صكّه دقة. تستند دراسة الشيخ إلى ثلاثة أشكال كتابية لدقة عرّف بها مفهومه عن الزمن الموازي، وهي “رسالة الزمن الموازي” 2005، والمسرحية الغنائية “حكايات المنسيين في الزمن الموازي” 2011، ومسرحية “الزمن الموازي” 2014.
يقول: إنّ تجربة دقة الفكرية تمنح أفقًا آخر للنظر في استعمار زمن الفلسطيني والتنظير حوله، إذ إنه يدشّن أطروحات لافتة حول الزمن الفلسطيني في الأسر، في السجن الصغير والسجن الكبير، لم يُسبَق إليها. فهو يجعل الثقافة ممارسة سياسية بامتياز، وكتاباته التي مَفهَم من خلالها الزمن تنقسم إلى محورين أساسيين: سياسي وأنطولوجي، يشكّلان زمنًا ثالثًا أطلق عليه “الزمن الموازي” الخاص بالحركة الأسيرة، قبالة الزمن الاجتماعي العام الخاص بالحركة الوطنية. ودراسات الشيخ عصيّة على الاختزال والتلخيص، وهي تعتمد أيضًا، إلى حد، نوعًا من الكتابة المتقطّعة بينها وبين نصوص وليد دقة أو رسوماته، أو حياته، وتظل متصلة بسياقها الكلّي، عصيّة على أي اجتزاء أو تقطيع.
في مداخلته في مؤتمر “الأنظمة السجنية العالمية: العنف والمقاومة وتكنولوجيا الاعتقال” عام 2021، تحدّث وليد دقة عن “السيطرة بالزمن” (وهو عنوان مقالته). قال إنّ مقالته هذه تضيء على الزمن بوصفه أداة تحكم وسيطرة بيد الاحتلال، وتقرأ تشكّل الذات الفلسطينية، وبصورة أكبر ربما الهوية الفلسطينية، في تعدد الأمكنة التي يخترقها شعاع الزمن أو إزميله.
تحاول المقالة، كما يقول دقة، التقدّم خطوة أخرى نحو تأسيس مفهوم “السيطرة بالزمن” الذي طرحه في كتابات سابقة مثل “صهر الوعي”، “الزمن الموازي”، و”الاحتلال الشمولي”.
نجح الاحتلال الإسرائيلي بفرض خمسة سجون/تجمعات فلسطينية على الأقل، هي وفقاً لدقة: الداخل والقدس والضفة وغزة والشتات. لكل واحدة منها واقع مكاني وزماني مختلف، وواقع قانوني وسياسي مغاير. مرور عقود على هذا الحال، الذي تعمقت فيه المعيقات المكانية والزمانية ورُسِّمَت بنظام سياسي وقانوني، وتحولت هذه المنظومة المنفصلة التي كان من المفترض أن تكون مؤقتة إلى شبه دائمة، الأمر الذي من شأنه أن يصنع هويات متقابلة.
يسأل دقة: كيف يمكن الحيلولة دون تفكك الهوية الفلسطينية التي تنشأ وتنمو الآن في سياقات زمانية ومكانية متقابلة؟ كيف يمكن أن نحول دون أن يصبح “خلدون” “دوف” كما حذّرنا غسان كنفاني في “عائد إلى حيفا”؟
كتب دقة عام 2010: “نحن لمن لا يعرف في الزمن الموازي قابعون به قبل انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي ومعسكره الاشتراكي. نحن قبل انهيار سور برلين وحرب الخليج الأولى والثانية والثالثة. قبل مدريد وأوسلو وقبل اندلاع الانتفاضة الأولى والثانية، عمرنا في الزمن الموازي من عمر هذه الثورة وقبل انطلاقة بعض فصائلها. قبل الفضائيات العربية وانتشار ثقافة الهمبورجر في عواصمنا. بل نحن قبل اختراع الجهاز النقال وانتشار أنظمة الاتصالات الحديثة والإنترنت. نحن جزء من تاريخ، والتاريخ كما هو معروف حالة وفعل ماضٍ انتهى، إلا نحن ماضٍ مستمر لا ينتهي. نخاطبكم منه حاضرًا حتى لا يصبح مستقبلكم”.
يخلص عبد الرحيم الشيخ إلى نتيجة: تمكّن دقة من تجاوز قيود الأسر في الزمن الموازي الآسن، نحو العيش في الزمن الاجتماعي المتحرك، وذلك عبر فاعلية الكتابة التي تحشد الرأي العام لصالح قضية الأسرى الفلسطينيين.
كُتُب الأسرار: إنجيل الحياة الفلسطينية
«أكتب حتى أتحرّر من السجن
على أمل أن أحرّره مني».
قدّم وليد دقة كتابه “حكاية سر الزيت” بهذه الكلمات. وهي رواية كتبها في سجن جلبوع عام 2017، وهي الجزء الأول من ثلاثية تلاها “حكاية سر السيف” عام 2021، ثم “حكاية سر الطيف: الشهداء يعودون إلى رام الله” عام 2022.
يقول الياس خوري: في سرَّي الزيت والسيف نعثر على سر كاتب هذين النص، فهو كاتب يصنع من الخرافية (كلمة يقترحها خوري كصنف لنوع خاص من القص يمزج الخيال بالحقيقة ويستنبط الخرافة والأسطورة من الحاضر) توريةً لآلامه وأحلامه.
في النص الأول نكتشف أنّ سر الزيت هو الإخفاء، وفي النص الثاني يدهشنا سر السيف بقدرته على كشف المخفي وإظهاره.
قرأ خوري الكتابين على هذا النحو، أي من لعبة الأضداد، ومن البنية الضدية في كلمة سر.
كُتُب “الأسرار”، أي ثلاثية وليد دقة، مستمدّة من إنجيل الحياة الفلسطينية بمفرداتها الكبرى: “الأسرى، اللاجئون، الشهداء”. لكنها مفردات بين يدَي أطفال هذه المرة، تنفتح على عوالم تخييلية عجائبية: حيوانات وأشجار ونباتات ناطقة تشارك في الحدث وهي بطلته، كل ما في الطبيعة الفلسطينية مشارك. البشر والحيوانات والأشجار عدوها واحد، أي “إسرئيل”، وما يقع على الفلسطينيين من ممارسات الاحتلال يقع أيضًا على الكائنات الأخرى. فالأرنب انفصل عن أهله بسبب جدار الفصل، والشجرة سوف تُقطع وتؤخذ إلى مستوطنة. أيضًا ثمة أشرار، إذ لا يصوّر دقة العالم الفلسطيني بطوباوية. إنّ الخيالي والعجائبي هنا هو ابن الواقع، لذا نصدّق كل كلمة فيه.
يقترح دقة مفردات جديدة لمفردات الإنجيل التي استقاها. أمام “الأسرى” (سر الزيت) يختم كتابه “بالمستقبل”، وأمام «اللاجئين» (سر السيف) يختم كتابه على هذا النحو:
«في ذكرى النكبة، وفي ساعة متأخرة من مساء 15/5 شوهدت في سماء القرى المدن الفلسطينية المهجرة مئات البالونات والطائرات الورقية المضيئة، وقد نشرت بعض المواقع الإلكترونية بأن مئات الأطفال نجحوا بتجاوز الحدود ووصلوا قراهم ومدنهم، وقد أُطلق على هذا الحراك: «نسل الذاكرة لن ينسى»”.
أمام “أسرار” وليد دقة ليس ثمة علم سرد ولا وظائف للحكاية الشعبية ولا غير ذلك. إنّ العلاقة بين الكتابة والقراءة تشبه منطلق دقة من الكتابة نفسها “أكتب حتى أتحرّر من السجن”، القراءة هنا أيضًا للتحرّر من السجن. يقول وليد دقة:
“في السجن لا نكتب نصوصًا إنما نعيشها، في السجن أنت الناص والنص والمنصوص، في السجن بصرك هراوة تسحبك من قلبك، وسمعك سياط يجلد عقلك وحواسك من مجمل أدوات تعذيب حتى حين تريد أن تحيي فيك حسك الجماهيري لتكتب أو ربما تؤكد لنفسك أنك على قيد الحياة”.