يوم الثامن من أبريل 2024، أصدرت وزارة التجارة التركية بيانًا يقضي بفرض قيود على تصدير 54 منتجًا إلى كيان الاحتلال. للوهلة الأولى، بدا القرار وكأنّه «استفاقة تركية متأخرة» من دعمها الكيان في حربه على غزّة، بعدما امتدّ هذا العون نحو ستة أشهر. فتركيا، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة، ساهمت في صمود الإسرائيليين عبر إرسالها مئات السفن التجارية إلى الموانئ الفلسطينية المحتلّة محمّلة بالمواد الغذائية والوقود والحديد، الذخائر.
البيان الصادر عن وزارة التجارة التركية، أوضح أنّ القيود على الصادرات إلى «إسرائيل» ستظل سارية حتى تُعلن «تل أبيب» وقفًا فوريًا لإطلاق النار في غزّة، وتسمح بتقديم مساعدات كافية ومتواصلة للفلسطينيين.
القرار التجاري يُعدّ الثالث من نوعه الذي يصدر عن حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ بدء «طوفان الأقصى».
الإعلان الأول صدر عن أردوغان نفسه الذي سبق أن أكّد وقف التجارة مع كيان الاحتلال.
الإعلان الثاني يتعلّق باستبعاد وزارة التجارة «إسرائيل» من قائمة الدول المستهدفة بالتصدير. يومها، جرى تسويق هذا القرار على أنه «منع تصدير لإسرائيل»، ليتضح بعد ذلك أنّه يستثني الكيان من اللائحة ولكن لا يُجبر التجّار والمُصدرين الأتراك على وقف تعاملاتهم مع الاحتلال.
وفي كلتي الحالتين، استمرّت أنقرة بتصدير منتجاتها إلى الكيان.
اليوم، يحتفي كثيرون بالقرار التركي الثالث، ويظهّرونه على أنّه خطوة تركية لخنق كيان الاحتلال اقتصاديًا ولممارسة ضغوط عليه، فيما الإسرائيليون أنفسهم اعترفوا أنّ «التجارة لا تزال حتى اليوم قائمة بين الجانبين».
تفاصيل القرار الثالث
وفقًا لبيان وزارة التجارة التركية فإنّ أبرز المنتجات التي جرى تقييد تصديرها هي: وقود الطائرات المستخدم للأغراض العسكرية، المواد الكيمائية، الإسمنت، زيوت المحرّكات، السُتر الفولاذية، منتجات الألمنيوم بما فيها الأسلاك الشائكة، الدهانات، حاويات الفولاذ، الكابلات المصنوعة من الفايبر، الكبريت، الرافعات، خلّاطات الباطون، الزيوت المعدنية، الزجاج وجميع منتجات الصلب والحديد، الأسمدة الكيميائية، الرخام والسيراميك، وغيرها.
البيان التركي يعني أنه فيما كانت طائرات الاحتلال تدمّر قطاع غزة وأحياء في جنوب لبنان، وتقتل أكثر من 30 ألف فلسطيني وتجرح عشرات الآلاف، كانت تركيا تصدّر وقود الطائرات إلى كيان الاحتلال، وأنها لم تجد مشكلة في ذلك سوى بعد أن تراجع منسوب الغارات الإسرائيلية على القطاع.
البيان زعم أنّ أنقرة لم تقم منذ فترة طويلة ببيع «تل أبيب» أي منتج يمكن استخدامه لأغراض عسكرية، على الرغم من أنّ هيئة الإحصاء التركية أصدرت في مارس 2024 بيانات رسمية كشفت خلالها عن استمرار الصادرات العسكرية التركية إلى كيان الاحتلال منذ بداية العام الجاري، وهي تشمل: الذخائر، البارود، وقطع الأسلحة. وصدّرت تركيا خلال شهريّ يناير وفبراير سنة 2024 إلى كيان الاحتلال ذخائر وأسلحة بقيمة 90 ألف دولار أمريكي. كما بلغت قيمة صادرات البارود والمواد المتفجّرة 60 ألف دولار. في حين تضمّنت الصادرات الكيميائية الديزل الحيوي ومواد إطفاء الحريق والمطهرات ومبيدات الحشرات، بقيمة بلغت مليون و300 ألف دولار.
رغم القرار… التجارة مُستمرة
تقييد تركيا وصول المنتجات إلى الأراضي المُحتلة في القرار الأخير، لم يتضمّن حظر التعامل التجاري مع الكيان، ما يعني استمرار التحويل المالي بين الجانبين. وسريعًا، ابتكر التجار الأتراك والإسرائيليون «طريقة التفافية» للتواصل، وهي تصدير البضائع إلى سلوفينيا أو قبرص أو اليونان، ومنها إلى كيان الاحتلال.
وبالتالي فإنّ التجارة لم تتوقّف، وتركيا لم ترد معاقبة كيان الاحتلال أو الضغط عليه، إنما الغرض من اتخاذ أردوغان هذا القرار في هذا الوقت تحديدًا يصب في مصلحته الشخصية، ويعود لهذه الأسباب:
- الانتقال من فترة الصمت السياسي السلبي حول ما يجري في غزة، إلى بدء التحرك على الأرض، وذلك من أجل أن تكون تركيا جاهزة للدخول على خط الوساطة بين حركة حماس وكيان الاحتلال، ولعب دور أكبر في الملف إلى جانب / أو بدلاً من قطر. وما يؤكد هذا الأمر هو الإعلان عن لقاء سيجمع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية بالرئيس التركي في اسطنبول يوم السبت 20 نيسان. ويأتي هذا اللقاء يأتي بعد لقاء مماثل بين هنية ووزير الخارجية التركي، هاكان فيدان في قطر يوم الأربعاء 17 أبريل. وكان لافتًا تصريح فيدان بعد اللقاء، وكشفه أنّ «في المحادثات السياسية التي أجريناها مع حماس منذ سنوات، أخبروني أنهم يقبلون الدولة الفلسطينية التي ستقام ضمن حدود عام 1967، وأنه بعد إقامة الدولة الفلسطينية لن تكون هناك حاجة لوجود جناح مسلح لحماس، وإنهم سيواصلون حياتهم كحزب سياسي». أضاف فيدان أنه «تبادلنا وجهات النظر بشأن ضرورة عرض حماس لآرائها وتوقّعاتها علنًا بشأن الحل المؤدي لقيام دولة فلسطينية للحد من هذه التصورات».
- تماشيًا مع موجة الحكومات الغربية الأخيرة تجاه «إسرائيل»، والتي بدأت تبعث برسائل سلبية تجاه رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، نتيجة الخلاف معه حول مرحلة ما بعد الحرب.
- حفظًا لماء وجه حكومة أردوغان واسترجاع شعبيته التي فقدها خلال الأشهر الستة الماضية، وبرزت من خلال الهزيمة التاريخية التي مُني بها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية الأخيرة، إذ خسر معظم المدن الكبرى بما فيها أنقرة وإسطنبول، وتقدّم عليه غريمه حزب الشعب الجمهوري.
ما فعلته تركيا منذ بدء طوفان الأقصى
في الواقع، ظلّت أنقرة طوال ستة أشهر من الحرب الإسرائيلية على غزة، تدين هذه الحرب بشكل نظري وليس عملي. وقد برز ذلك من خلال نقاط عدّة:
– الحكومة التركية لم تستجب للضغوط الشعبية التي طالبت بوقف تصدير المنتجات إلى الكيان. كما أن الحكومة في أنقرة لم تعمد إلى فرض قيود على الصادرات أو الشحنات البحرية التركية إلى موانئ فلسطين المحتلة، وتذرّعت بأنه «لا يمكنها التحكم بشركات القطاع الخاص ولا منع هؤلاء من التصدير إلى الكيان».
– تمسّكت أنقرة طوال الفترة الماضية بـ«دعاية» انخفاض مستوى الصادرات التركية بعد السابع من أكتوبر، غير أن مراقبة البيانات الرسمية التركية، يظهر أن انخفاض هذه الصادرات بدأ منذ بداية عام 2023 مقارنةً بعام 2024. أكثر من ذلك، تظهر الأرقام أن بعد بدء الهجمات اليمنية في البحر الأحمر على السفن الإسرائيلية وتلك الداعمة للاحتلال، منذ 17 نوفمبر 2023، ارتفعت الصادرات التركية إلى «إسرائيل» في شهر ديسمبر سنة 2023 بنسبة بلغت حوالي 35%.
– منذ 17 أكتوبر الماضي، أي بعد 10 أيام على عملية «طوفان الأقصى»، وفي حين كان أردوغان يتفاخر بدعم المقاومة الفلسطينية، كانت الخضار والفواكه التركية الطازجة تصل إلى كيان الاحتلال على وجه السرعة، وذلك لتعويض النقص في الخضار وخاصة البندورة التي يتم إنتاجها عادةً في مستوطنات غلاف قطاع غزة وشمال فلسطين المحتلة، وقد نشرت وزارة الزراعة الإسرائيلية فيديو يوثّق هذا الأمر.
– في شهر فبراير الماضي، سمحت سلطات الاحتلال باستيراد بيض الدجاج من تركيا، وبعض البلدان الأخرى، وذلك لتعويض المجتمع الإسرائيلي عن نقص هذه السلعة، بعد تأثّر عمل مزارع البيض والطيور في شمال فلسطين المحتلّة والجولان السوري المحتّل، بفعل نيران المقاومة الإسلامية في لبنان. وقد بلغ حجم استيراد البيض من تركيا حوالي 30 مليون بيضة حتى شهر مارس.
– منذ بدء الحرب، بلغ متوسّط السفن التركية التي تُبحر في البحر الأبيض المتوسط إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة حوالي 8 سفن يوميًا. وبعد فضح بعض الصحافيين الأتراك المعارضين للنظام التركي مسار هذه السفن وعددها، عمدت الشركات التركية إلى طُرق التفافية لاستكمال إرسال السفن إلى كيان الاحتلال من خلال إطفاء نظام التموضع العالمي (GPS) الخاص بهذه السفن لعدم تتبُعها على المواقع الالكترونية.
– لا يزال النفط يتدفّق عبر تركيا إلى كيان الاحتلال ولم ينقطع أبدًا، تحديدًا عبر الأنبوب الذي يمتد من أذربيجان إلى مرفأ جيهان التركي ومن هناك إلى الأراضي المحتلة. ولا يشمل قرار “منع التصدير” هذا النفط الحيوي لكيان الاحتلال. وتدّعي حكومة أنقرة بأن لا سلطة لها على مرفأ «جيهان»، على اعتبار أن التدفّق النفطي يخضع للاتفاقية التجارية مع أذربيجان.
حزب أردوغان شريك في الإبادة
عديدة هي الأمور التي لجأ إليها حزب العدالة والتنمية لدعم كيان الاحتلال في حربه على غزة، منها على سبيل المثال ما جرى في شهر نوفمبر سنة 2023. يومها، أسقط نواب الحزب الحاكم، بالتعاون مع حزب الحركة القومية، مشروع قرار تقدّم به نواب حزب السعادة، مدعومين من قبل أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، لتحديد محتوى وكمية البضائع المرسلة من تركيا إلى «إسرائيل» والبحث في تأثيراتها على الوضع في غزة. واعتبر النائب عن «السعادة»، مصطفى كايا، في تصريح إعلامي أنّه «لسوء الحظ، في الوقت الذي يقوم فيه شعبنا بمقاطعة الشركات التي تدعم إسرائيل، فإنّ الفشل في إعادة النظر في العلاقات التجارية معها، وزيادة حجم الشحنات إليها منذ بداية الصراع، يظهر أن تركيا لم تتّخذ بعد التدابير اللازمة والخطوات الضرورية، التي تُبيّن بوضوح وجود تناقض وتضارب في خطابها السياسي وخطواتها العملية». وقد أكّد كايا وقتها أنّ أكثر من «300 سفينة ومئات طائرات الشحن تنطلق من الموانئ والمطارات التركية وتحمل النفط الخام والوقود والمواد الغذائية والحديد والصلب والأسمنت والمنسوجات ومنتجات مماثلة إلى إسرائيل»، مشيرًا إلى أنّه «وفق بيانات جمعية مُصدّري الصلب التركي، فإنّ الفولاذ الذي تستورده إسرائيل من تركيا يُشكّل 65% من احتياج السوق الإسرائيلية».
أما النائب عن حزب الشعب الجمهوري المعارض، يونس إمري، فقال إنه «وفقًا لأرقام جمعية مُصدّري الصلب، يبلغ إجمالي صادرات تركيا من الصلب 21 مليار دولار، وتم تصدير 1.4 مليار دولار من الصلب إلى إسرائيل في عام واحد». وأوضح النائب أنّ «الصلب هو المادة الأساسية لصناعة الأسلحة؛ القهوة أو الكولا لا تقتل الأطفال، لكن هذه الأسلحة المصنوعة من الفولاذ (المصدّرة من تركيا) قتلت آلاف الأطفال».
أردوغان وأوهام الدور في غزة!
لا يخجل الرئيس التركي من تكرار تصريحات منفصلة عن الواقع، تُظهره «مخلّص» الفلسطينيين و«الأب الروحي» لحركة المقاومة الإسلامية. وآخر هذه التصريحات كانت يوم 17 أبريل، حين قال في كلمة له باجتماع الكتلة البرلمانية لحزبه الحاكم، «ما كنت سأقول هذا ولكنني سأقوله، لا أحد أيّا كان يستطيع أن ينتقد موقفنا في مسألة فلسطين… حياتنا قضيناها في قضية فلسطين، ولسنا كمن يُبرّر الاستيطان، أو لم يسمع بقضية فلسطين قبل 7 أكتوبر». وأضاف الرئيس التركي أنه «في الوقت الذي لم يتحدّث فيه العالم، خرجنا وقلنا إن حركة حماس ليس منظمة إرهابية»، معتبرًا أن «حماس حركة نضال ضد الاحتلال تمامًا كما كانت حركات التحرر في الأناضول سابقًا». وأردف بالقول: «نعلم أنه سيكون هناك ثمن لما نقوله، ولكننا لن نخضع لهذه الحملات… حتى لو بقيت وحدي كرجب طيب أردوغان في هذا الطريق، سأواصل الدفاع عن قضية فلسطين، وسأبقى صوتًا لإخواننا في فلسطين». وختم بالتشديد على أن «إسرائيل دولة إرهاب ترتكب التطهير العرقي والإبادة الجماعية في قطاع غزة والضفة الغربية»…
هذه التصريحات لم يترجمها أردوغان عملياً بقرار يحظر فيه التعامل التجاري مع كيان الاحتلال، ويمنع تصدير النفط إليه. هي مجرّد كلمات تشبه تلك التي أطلقها قبل أشهر، عندما قال – في خطاب إمبراطوري منفصل عن الواقع – إن جيشه مستعد لإنقاذ سكان قطاع غزة، فيما كان كل الهدف البحث عن دور له في القطاع، كحارس لأمن “إسرائيل”، أو في أحسن الأحوال، كقوات فصل بين المقاومة والاحتلال. هذه الأوهام هي ما يدفع بأردوغان إلى الترويج لنظامه كضامن لنزع سلاح المقاومة، بحسب ما ظهر من كلام وزير خارجيته.