من المهم، بدوًا، وقبل التحليل، التأكيد على التموضع والهدف: نحن لا نعلّق، أو نحلل، كمراقبين من بعيد، نمارس السياسة كهواية ولعبة، وننزع صفة الانحياز عن أنفسنا. بل إن أي عملية تحليل، وإن كان عليها الحذر من الإفراط في العاطفة والتفريط في الموضوعية، تأتي ضمن مشروع ننتمي إليه، وثمة هدف لتحقيق هذا المشروع. وإن كان المشروع هو تحرير فلسطين من ثمّ يكون تحليلنا السياسي للأحداث ضمن هذا التموضع.
نحن هنا لا نأتي بجديد، الانخراط في التحليل السياسي للعالم والإقليم من منطلق فلسطيني هو إرثٌ تاريخي منطلق من تعقيد هذه القضية وتركيبها. الصراع لأجل فلسطين ليس صراعًا محصورًا في جغرافيا؛ في أي سياسات داخلية في كل بلد ثمة معركةٌ وصراعٌ فلسطيني، من انتخابات محلية لمجلس بلدي في مدينة صغيرة غرب كندا إلى الأحداث الإقليمية الكبرى. السؤال العملي لأي أمة حديثة في المسرح الدولي هو كيفية استغلال كل هذه التناقضات والأحداث لمصلحتها؟ وكذلك هو السؤال الثوري الفلسطيني والعربي: كيف لي استغلال الأوضاع الإقليمية والدولية لصالح هدفي وهو تحرير بلدي؟
منذ أول يوم لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، انخرط الفلسطينيون، سواء عبر منظمة التحرير أو بعدها الحركات الإسلامية الصاعدة، في السؤال الإيراني. وللطبيعة الثورية والإسلامية والأممية للإمام الخميني، شكّلت عملية التحالف مع الجمهورية الصاعدة جزءًا من النضال الفلسطيني لم ينقطع يومًا. فمن البديهيات المراكمةُ على تجربة ثوريّة في المنطقة، ومن البديهيات أكثر هو دعم أي حركة استقلالية، إذ إن جوهر القضية الفلسطينية هو الاستقلال عن الهيمنة الغربية، وكل بقعة عربية أو إسلامية، أو حتى عالمية، تنعتق من هذه الهيمنة، هي مصلحةٌ عربية وفلسطينية. إلا أن السؤال الحقيقي هو كيفية إدارة هذه العلاقة مع الجمهورية الإسلامية، وهو ما يصدّر سؤال أهمية فهمها الموضوعي والعلمي للتجربة الثوريّة الإيرانية وخصوصياتها، وكذلك مسارها وتحولاتها على مدى العقود الأربعة الأخيرة.
يمكننا المحاججة أن الضربة الإسرائيلية للقنصلية الإيرانية في دمشق، بما سبقها وتلاها، تعطينا مدخلًا إلى سؤال فهم إيران وتاريخ الثورة. قامت الثورة في نهاية السبعينيات ضمن محاولة صنع اختراق “إسلامي” لطبيعة ومفهوم الدولة الحديثة ومؤسساتها وآلية عملها، وأنتجت نموذجها الهجين، وكل ذلك في محاولة للجمع بين الثوريّة الإسلامية العابرة للحدود وبين واقع الدولة القومية الحديثة العضو في الأمم المتحدة وبعلَم وجهازٍ دبلوماسي. عملية التوفيق هذه أخذت مسارات شد وجذب. ولعلنا نذكر كيف قال علي لاريجاني للخميني، بعد فتوى سلمان رشدي، إنه لا يمكننا إصدار هكذا حكم كمسؤولي دولة، فردّ الخميني أنه أصدرها كعالم دين لا كمسؤول دولة، في محاولة التذبذب بين التموضعين بشكل توفيقي. إلا أنه، وكما نبّه المفكر الإيراني علي شريعتي، ثمة علاقة عكسية بين الثورية ومؤسسات الدولة؛ فكلما تمّت عملية مأسسة الثورة، كما يسميها، تقل الثوريّة، وعليه تتصرّف المؤسسات كمؤسسات حداثية ضمن مسألة الحفاظ على الدولة والأمة.
إلا أنه، وحتى من قبل الضربة الإسرائيلية لدمشق (ولكن لنعتبر الضربة في هذا النص كنقطة انطلاق على سبيل التبسيط)، تكشف لنا وجوه الشهداء الإيرانيين، تحديدًا القائد محمد رضا زاهدي، تعقيدًا آخر للثورة الإيرانية. إنّ عملية مأسسة الثورة حجّمت من ثوريّة المؤسسات، وإن بدرجات متفاوتة، أقلّها، بطبيعة الحال، مؤسسة “حرس الثورة الإسلامية”، وإن بشد وجذب – كما حدث بين وزارة الخارجية في ظل وزارة جواد ظريف ومؤسسة الحرس وغيرها.
النقطة هنا، أنه وإن أطّرت الدولة من ثوريّة المؤسسات، إلا أنها لم تؤطر ثوريّة الشخوص، فأنت كإيراني ومنتمٍ لنهج الخميني يمكنك التمسك بإيمانك الثوري والعمل بشكل عابر للحدود، وتحافظ على تماسكك الأيديولوجي، خصوصًا ضد الغرب والصهيونية. كانت إدارة دونالد ترمب أول من ضاق ذرعًا بهذه الشخصيات الثورية التي تعمل بحرية، وتستخدم، أيضًا ، الغطاء الدبلوماسي، حين اغتيال الجنرال قاسم سليماني، الذي تنقّل وسافر إلى العراق بتعريفه الدبلوماسي الرسمي، ولكن في مهمة مشروع ثوري، واغتيل رغم ذلك. وأيضًا ما قام به الصهاينة في دمشق هو اغتيال القائد زاهدي، ومن معه من الشهداء، في القنصلية الإيرانية، حيث من المفترض وجود حصانة للطبيعة الدولية والدبلوماسية للمكان.
ما حدث أمر مزدوج؛ فالشهيد زاهدي ومن معه لم يكونوا في دمشق في إطار يمكن حصر تعريفه بـ”الأمن القومي الإيراني” والانتماء لدولة حديثة. بل إن (سواء في تاريخه في دعم المقاومة في لبنان، أو كما بيّنت لنا “كتائب القسّام” في بيان نعيه) جوهر قدومه وعمله ومن ثم استهداف الصهاينة له هو المشاركة والدعم في معركة “طوفان الأقصى”، أي معركتنا نحن. هنا حيث يمسي الانتماء بيننا وبين هؤلاء الشهداء واحدًا باسم النضال ضد الصهيونية والبعد الثوري الإسلامي. أمّا الأمر الآخر، فهو استهداف شخصيات رسمية إيرانية في مبنى قنصلي يعتبر أرضًا سيادية إيرانية. وهذا بالتحديد ما يخترق الخط الأحمر بالنسبة للإيرانيين، وهو احترامهم كدولة، وعدم محاولة الفذلكة الأمريكية والصهيونية بين ثوريّة الأشخاص وانتمائهم الدبلوماسي. وعليه، فتح الباب للرد الإيراني في إطار الشرعية الدولية، وأيضًا المنطلقات الثورية، وهذا التقاطع هو ما حوّل رد البارحة إلى رد كبير وصارم مفاجئ للجميع.
إنّ فهم هذا الإزدواج مهم جدًا في منطلقنا وتموضعنا كفلسطينيين وعرب، فعبره، وعبر دماء وتضحيات العسكريين الإيرانيين، تمسي هنالك “وحدة نضالية” في المعركة كما شرحها غسان كنفاني منذ عقود، ولا تمسي العملية الإيرانية فجر ١٤ نيسان، محض تناقض دولي نراقبه من بعد ونضحك من بعيد. بل إن فرحة الفلسطينيين وتكبيراتهم وتصفيرهم عند رؤية الصواريخ الإيرانية والأثر الاستراتيجي الضخم للعملية، هي فرحةٌ بذاتها؛ فرحة بأن جهودهم وتضحياتهم هزت أركان الإقليم، فرحة للمعركة الواحدة. فنحن من بدأنا بحكمة فتح صيرورة التاريخ هذه وتسارعها الكبير في السابع من أكتوبر، في أشرف معارك الكون كما وصفها القائد يحيى السنوار في رسالته لتعزية القائد إسماعيل هنية قبل يومين.
من هنا، بوسعنا أن نصنف أكثر خطاب مستفز منذ الليلة المجيدة، ذلك القائل بأننا بلا حيلة وما يحدث هو أن هنالك قوى كبيرة تتصارع ونحن مجرّد مشاهدين، نهتف لهذا أو لذاك. والمشكلة ليست في كون هذا الخطاب خطابًا انهزاميًا وقحًا، بل في أنه خاطئ، وبشكل كبير جدًا. نحن لسنا فقط فاعلين إقليميين بل دوليين، ولم تكن كل هذه الإرهاصات الكبرى لولا فعلنا نحن، بل إنه من المبهر والمدعاة للفخر والاعتزاز والفرحة أننا، كشعب فلسطيني وعربي في العراء وبدون أنظمة رسمية ودول وجيوش، بل وبرغم تكالبهم علينا، تمكنّا أن نكوّن قوى عسكرية واجتماعية صغيرة لعبت أوراقها وحرّكت أحجار الشطرنج بشكل لا يتناسب مع حجمنا، إنما بعبقرية قلّ نظيرها. كل ذلك في إطار هدفنا الأساس: تكثيف التناقضات في وحول المستعمرة الصهيونية ضمن المخاض التاريخي لتفكيكها، وهو ما نتقدّم فيه بعون الله بخطى ثابتة.