«إنّ عمليات النقل البحري والدولي تسير بشكل طبيعي، خاصة بعد استئناف شركة الشحن العالمية «ميرسيك» استخدام طريق البحر الأحمر لنقل الحاويات». هذا التصريح للأمين العام لشعبة النقل الدولي واللوجستيات بغرفة القاهرة التجارية (EIFFA)، عمرو سمدوني في بداية شهر يناير الحالي كفيل لفضح كذب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودول البحرين، أستراليا، ألمانيا، نيوزيلندا، كوريا الجنوبية، هولندا، وكندا التي قرّرت – مجتمعة – شنّ اعتداء على اليمن بحجّة «تعطيل وإضعاف قدرة الحوثيّين على تعريض البحارة للخطر وتهديد التجارة الدولية»، كما قال وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن.
في كلّ مرة أراد فيها الحلف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الاعتداء على سيادة بلدٍ آخر، شنّ حرب، السيطرة على موارد… اخترع فيها كذبة ليُبرّر أمام مُجتمعه والرأي العام الدولي عملياته العسكرية. في حالة اليمن، اتّهم الغربيون أنصار الله بتعطيل التجارة العالمية ونصّبوا أنفسهم مُدافعين عن أمن البحارة الدولية ليُبرروا شنّهم هجومًا دفاعًا عن «إسرائيل» ودعمًا للحرب التي تشنّها على قطاع غزة والشعب الفلسطيني. علمًا أنّه – وكما كتب الناطق الرسمي باسم أنصار الله، محمد عبد السلام – «لم يكن هناك خطر على الملاحة الدولية في البحر الأحمر والعربي». فحركة أنصار الله أعلنت ومنذ منتصف شهر نوفمبر الماضي استهداف السفن الإسرائيلية أو التي لها علاقة بكيان العدّو وتلك المتوجهة إلى الموانئ في فلسطين المحتلة. خلاف ذلك، بقيت الحركة «طبيعية». والدليل على ذلك ليس فقط كلام عمرو سمدوني، بل أنّ مواقع تتبّع حركة السفن في البحر الأحمر تُظهر حركة الملاحة التي لم تتوقّف حتى أثناء العدوان الغربي على اليمن فجر الجمعة 12 يناير.
لكن هذا العدوان هو ما أثّر على الملاحة الدولية، إذ أعلنت شركات كبرى، آخرها شركة شل النفطية البريطانية، وقف جميع شحناتها عبر البحر الأحمر.
إذاً، اليمن استهدف الملاحة الإسرائيلية حصرًا. أما ما أضر بالملاحة الدولية، فليس سوى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذي اعتدوا على اليمن زاعمين الحرص على هذه الملاحة.
تأثّر الملاحة العالمية
منذ أن أعلنت حركة أنصار الله منع مرور السفن الإسرائيلية أو المتوجهة إلى الأراضي المُحتلة من البحر الأحمر، والتقارير الصحافية الغربية تُركّز على «تأثّر الملاحة العالمية» وتُحذّر من «ارتفاع أسعار السلع وتكلفة الشحن والتأمين على السفن» من دون أن تربط تحذيراتها بمعطى علمي أو بأرقام دقيقة تُثبت دقّة تهويلها.
لنأخذ مثالًا قناة السويس. البحر الأحمر هو الطريق الوحيد الذي تسلكه السفن لتصل إلى قناة السويس. اكتسبت القناة أهمية أكبر بعد العقوبات الغربية على روسيا واستبدال النفط الروسي بالنفط الخام من الشرق. تستحوذ قناة السويس على 12% من التجارة العالمية، وتربط الأسواق الأوروبية بالأسواق الآسيوية.
في تقرير منشور على موقع «أتلانتس كاونسل» الأمريكي، يُذكر أنّه في الأسابيع الماضية «قفزت حركة الشحن حول أفريقيا بعد أن اختارت العديد من الشركات إرسال سُفنها عبر رأس الرجاء الصالح عوض البحر الأحمر». يعني ذلك، بحسب التقرير، تأخّر الشحنات حوالي الأسبوعين لتصل إلى وجهتها النهائية، وتكاليف إضافية على الوقود ورواتب الموظفين.
الردّ على ذلك، يأتي من الأمين العام لشعبة النقل الدولي واللوجستيات بغرفة القاهرة التجارية (EIFFA)، عمرو سمدوني الذي يذكر أنّه بين منتصف نوفمبر والأول من يناير عدد السفن التي غيّرت مسارها فعليًا لعبور طريق رأس الرجاء الصالح هي نحو 76 سفينة، في مقابلة 2128 سفينة أكملت المسار العادي وعبرت قناة السويس، أي أنّ نسبة السفن التي غيّرت مسارها «هي نسبة قليلة». ويُضيف سمدوني أنّ «هجمات الحوثيين لم يكن لها تأثير كبير على الملاحة في قناة السويس».
استمرار رسوّ متوسط 8 سُفن في اليوم في الموانئ المحتلة آتية من تركيا، في ظلّ المجزرة والحرب، يُعدّ طوق نجاة ترميه أنقرة للعدّو
منع مرور السفن إلى موانئ الأراضي المُحتلة سيُعرّض مصالح عدد من التجار وشركات الشحن العالمية لهزّة ويؤثّر على أرباحها، وبالتأكيد أنّه سيترك ندوبه داخل كيان الاحتلال. ما يجري يُصنّف في خانة «السيناريوهات عالية المخاطر»، وتترافق حُكمًا مع تغيّر في الأسعار وزيادة في كلفة التأمين، تمامًا كما أصاب العالم خلال جائحة كورونا. فقد أظهرت بيانات بورصة شانغهاي للشحن أنّ سعر الشحن للصادرات من ميناء شانغهاي إلى الموانئ الأساسية الأوروبية، بلغ في بداية يناير 2871 دولارًا لكل حاوية بزيادة 210% عن بداية ديسمبر عام 2023.
ولكن لم تخلق هجمات أنصار الله «حالة طوارئ» في الملاحة العالمية ولا وضعًا كارثيًا على مستوى العالم. فبحسب موقع «مارين ترافيك» المُتخصص بالنقل المائي، انخفض عدد سفن الحاويات المارة بالبحر الأحمر بنسبة 25% في ديسمبر 2023 مقارنة بالفترة نفسها من العام 2022، «بينما لم يحدث تغيّر كبير في عدد سفن الغاز الطبيعي والبترول المُسال وسفن الشحن الجاف». فضلًا عن أنّه ارتفع عدد السفن المارّة في البحر الأحمر من 646 سفينة في الأول من ديسمبر إلى 681 في 16 ديسمبر، قبل أن تنخفض إلى 521 سفينة في 31 ديسمبر.
لكن، بعد بدء العدوان الأمركيي – البريطاني (المدعوم من حلفائهمما) على اليمن، بدأت شركات شحن الغاز المسال بالالتفاف حول رأس الرجاء الصالح للابتعاد عن منطقة البحر الأحمر التي حوّلتها البحرية الأمريكية إلى منطقة عمليات حربية.
التأثير على «إسرائيل»
الهدف الأساسي لمنع مرور السفن الإسرائيلية أو المتوجهة إلى الأراضي المحتلة هو فكّ الحصار عن غزة ووقف المجزرة بحق الشعب الفلسطيني. حصار من نوع آخر تفرضه أنصار الله على العدو الإسرائيلي. فهل يُحقّق غايته؟
- ارتفع سعر شحن الحاويات من الصين إلى «ميناء أشدود» بنسبة تتراوح بين 9% و14% في الأسبوعين الأخيرين من شهر أكتوبر، وفق صحيفة «غلوبس» الإسرائيلية.
- تراجع نشاط «مرفأ إيلات» بنسبة 85%. وأعلنت إذاعة جيش الاحتلال، نقلًا عن مدير ميناء إيلات، أنّه مُنع وصول سفن تحمل 14 ألف مركبة إلى «إسرائيل».
- أعلنت شركة «إيفرجرين مارين» التايوانية التوقّف مؤقتًا عن قبول طلبات لشحن البضائع الإسرائيلية.
- قرّرت شركة «OOCL» للشحن التوقّف عن قبول البضائع من وإلى «إسرائيل».
- انخفض عدد الحاويات التي ترسو في موانئ الأراضي المحتلة بنسبة 11% و16% في نوفمبر وديسمبر 2023 مقارنةً بالفترة نفسها للعام السابق.
شركات علّقت التجارة مع كيان الاحتلال، وأخرى غيّرت مسارها. هجمات أنصار الله أربكت تلك الشركات العالمية المُسيطرة على عالم التجارة والنقل، التي تمثّل إجمالًا مصالح حكوماتها. وتربطها مع كيان الاحتلال علاقة أبعد من مُجرّد «نقل بحري». هنا تكمن أهمية ما يقوم اليمن، لجهة كونه يُوجّه صفعة علنية للاحتلال والدول الاستعمارية وتجمّع الشركات المهيمنة على التجارة العالمية. إلا أنّ العدّو ليس في أزمة حقيقية بعد. يكفيه وجود حلفاء إلى جانبه جاهزين لنجدته وتأمين منفذ له… كالنظام في تركيا. فبين 7 أكتوبر الماضي وحتى 31 ديسمبر سنة 2023، أبحرت 701 سفينة من موانئ تركيا إلى «إسرائيل»، 480 منها مصدرها تركيا مباشرةً. يُحاجج وزير النقل التركي، عبد القادر أورال أوغلو في حديث مع «الجزيرة نت» بوجود «انخفاض بنسبة 30% في عدد السفن المتجهة إلى موانئ إسرائيل مقارنة بالعام السابق»، لينفي تُهمة أنّ تركيا فتحت مجالها البحري أمام العدّو لتُنقذه من ورطة البحر الأحمر. لكن هذا التراجع سببه الانكماش الاقتصادي الطبيعي في الكيان الذي يخوض حرباً. واستمرار رسوّ متوسط 8 سُفن في اليوم في الموانئ المحتلة آتية من تركيا، في ظلّ المجزرة والحرب، يُعدّ طوق نجاة ترميه أنقرة للعدّو.