[إلى (…)، العائد الأول الذي ما يزال يسير]
في العدد ١٣٦ من مجلة الدراسات الفلسطينية، يُعيد إبراهيم مرعي، الأسير الفلسطيني، الانتباه إلى ضرورة إعادة الاعتبار لحلم تحرير فلسطين، بما يشمل الدعوة إلى إجماع فلسطيني جديد يستعيد الإجماع الأصلي وهو “تحرير فلسطين”. يمكن إيجاز المقالة، على أهميتها، بالعبارات التالية: “لقد كان تحرير فلسطين ولا شيء غيره، هو “الدين السياسي” الذي اعتنقه الفلسطينيون بعد سقوط البلاد في سنة 1948″. يناقش مرعي كل نقاط التحول في مسار القضية الفلسطينية، من خلال منظمات وأحزاب وما طرأ على الفكر والطموح السياسي، وكيف انقلبت الأهداف والحقوق: “يصبح التمسك بـ”تحرير فلسطين” الذي كان ذات يوم “أبو الأهداف الوطنية”، مجرد طرح حزبي عصبوي نزق وضيّق، يوصَم أصحابه بالشطط والشقاء، وفي أحسن الأحوال يوصفون بالحالمين غير الواقعيين وغير العقلانيين!”.
صحيح أنّ الأولويات تغيرت بعد ١٩٦٧ من “استعادة الوطن السليب” إلى “إزالة آثار العدوان”، لكن بين الفينة والأخرى يرجع “حلم التحرير” ليكون “أبو الأهداف” مرة أخرى، ومعظم الأوقات ما يُطلق هذا الحلم من أعماق التيه الفلسطيني ومتاهات الفلسطينيين: غزة.
تمثّل غزة، في الواقع اليومي الفلسطيني، سواء للفلسطينيين الذين يعيشون في فلسطين أو في الشتات، أي لقرابة 15 مليون فلسطيني في العالم، مرجعيّة وشرعيّة لحلم التحرير، ومصدرًا أصيلًا له. لا خلاف هذه الأيام في أنّ المكان، ربما الوحيد، الذي يمكن أن يسترجع فيه حلم التحرير إمكانياته في العقل الفلسطيني، هو غزة. على الرغم من أن القطاع محاصر، إلا أنّ غزة في نظر كثيرين هي البقعة الوحيدة من فلسطين غير المحتلة. ما يعني، بكلمات علم النفس، أنها الطراز الأولي لما ينبغي أن تكون عليه فلسطين كلها. ليس المعنى هنا في أن تكون فلسطين كلها محاصرة، ولا أن يحكم فلسطين كلها تيار واحد. إنما، نعني بالطراز الأولي هنا، جزئية أنّ المدينة غير محتلة، فقط.
الطرز الأولية (تختلف الترجمات بين أنماط ونماذج أيضًا) هي الشكل الذي نمنحه لبعض تجارب وذكريات أسلافنا الأوائل، وفقًا لعالم النفس كارل يونغ، مبتكر الاصطلاح.
لا شك في أنّ الطرز الأولية، في ما يخص الصورة الفلسطينية في ذهن الفلسطينيين، أو أجدادنا الفلسطينيين الذين هُجِّروا منها سنة ١٩٤٨، هي فلسطين التي لم تُحتَل، أي فلسطين التي كانت لها حياة طبيعية، وكان يمكن أن تستمر، وتغدو مثل أي بلد آخر، لو لم يتم الاعتداء عليها من قبل الاحتلال.
بالتالي، وعلى الرغم من أنّ غزة تواجه الاحتلال الإسرائيلي، لكنها مدينة غير محتلة من التراب الفلسطيني. ويمكن اعتبارها، كما سلف، طرازًا فلسطينيًا أوليًا. طرز يونغ هي أنماط من الصور والرموز التي تظهر تحت أشكال مختلفة، ولديها منحدر موروث من جيل إلى جيل. ما يعني أنها قطعة تشكل جزءًا من اللاوعي الجماعي الموروث جزئيًا، إضافة إلى ذلك فهي موجودة في الأحلام. غزة، كمدينة لا وجود فيها (أي على أرضها) وفي حاضرها، للاحتلال الإسرائيلي، فإنها تشكّل الطراز الفلسطيني الأولي الموروث في ذاكرة الفلسطينيين المتعاقبة عبر الأجيال: فلسطين بدون احتلال. يستمد حلم التحرير، في هذه الحالة، شرعيته من غزة، وتكون غزة مرجعيته.
مع “طوفان الأقصى”، برز حلم التحرير، تحرير فلسطين، وقفز مجددًا إلى الأذهان، لا بالصورة التي تمناها إبراهيم مرعي، أي “أبو الأهداف”، لكنه برز كهدف أساسي ومشروع بالنسبة لكثيرين. شيء أساسيّ آخر أعاد التأكيد على صحته، هو كلمات فرانز فانون التي تقول إنّ الجماهير تدرك “بحدسها أنّ تحررها يجب أن يتم بالقوة، ولا يمكن أن يتم إلا بالقوة”.
يشبه ما حدث، في السياق نفسه، فقرة كتبها الشهيد غسان كنفاني في قصته “ورقة من غزة”، من مجموعة “أرض البرتقال الحزين”:
“كل شيء كان في غزة هذه ينتفض حزنًا على ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، حزنًا لا يقف عند حدود البكاء، إنه التحدي، بل وأكثر من ذلك، إنه شيء يشبه استرداد الساق المبتورة”.
استرداد الساق المبتورة، حظي بمقارنات عديدة بما حدث في فيتنام أو كوبا، الأمر الذي يعني أنّ مبادئ حرب الغوار التي كتب عنها تشي غيفارا قد عادت، مرة جديدة، أيضًا. كتب د. سيف دعنا يقارب بين حملة تيت الفيتنامية و”طوفان الأقصى”، مشيراً إلى أنّ محمد الضيف، أبو خالد، قرر أن يكسر الرقم القياسي التاريخي والإنجاز العسكري الأهم للقائد الفيتنامي فونجوين جياب. من حملة تيت عام ١٩٦٨ التي بدأت بعد إنجاز درب هوشي منه، وهو شبكة هائلة مكونة من أكثر من ١٢ ألف كيلومتر من الأنفاق والطرق والمخازن والمستشفيات وغير ذلك كثير، نقل خلاله الفيتناميون عام ١٩٦٨ أكثر من ثمانين ألف مقاوم. بدأت حملة تيت في الثانية صباحًا، بالهجوم على مقر السفارة الأمريكية في سايغون، ومع شروق الشمس كان المقاومون قد ضربوا مئتي هدف في أكثر من مئة بلدة ومدينة خلال أقل من ساعتين. صحيح أن بعض المعارك استمرت أكثر من شهرين، لكن الكل يعرف أن الحرب انتهت حقًا مع شروق شمس ذلك اليوم الذي بعده بسنتين سيقول نيسكون: “أمريكا عملاق عاجز يرثى لحاله”، وهو تصريح قريب جدًا من تصريحات بعض قادة الاحتلال الإسرائيلي وحكومته.
المحاولة الوحيدة للاقتراب من “الواقعية السحرية”، لم تكن في عمل أدبي، إنما في قوات المقاومة الجوية التي طارت من غزة إلى خارجها من أجل القتال
سماع مثل هذا التصريح، في جيلنا تحديدًا (والكلمة مفتوحة على التأويل، لكنّ المقصود بها جيل أوسلو وما بعد أوسلو، في الحالة التاريخية الفلسطينية)، يكاد يكون جملة تقف لوحدها في وجه الكتاب الكامل “الإنسان يبحث عن المعنى”. فحلم التحرير، الغائب عنا منذ جئنا إلى الحياة، والغائب كذلك عن النثر الذي نقرؤه (أكان ذلك في الرواية أو القصة أو المسرح أو غير ذلك)، يُستعاد في الحياة، وفي الحياة وحدها، تحديدًا.
كتب الناقد الفلسطيني يوسف اليوسف من قبل إنّ من الغرائب حقاً، بل مما يثير في الرأس ألف سؤال وسؤال، أنّ النثر المقاوم (أي النثر الذي يتمحور حول الموضوعة الفلسطينية، سواء أكتبه الفلسطينيون أم غير الفلسطينيين) لم يستطع أن يرتقي إلى مستوى التراجيديا. ذلك على الرغم من مرور جيل بكامله (الجيل عند ابن خلدون أربعون سنة، وعند أفلاطون عشرون / كتب اليوسف هذا الكلام عام ١٩٨٤) على الحدث الذي ينبغي له أن يدشن الوجدان الفلسطيني وأن ينبث في جملة محتوياته. المحاولة الوحيدة التي بذلت في هذا المضمار هي المحاولة التي بذلها شاب قتل في منتصف العمر تقريبًا، ولم تلق من يتابعها ويؤثلها في تراث شعب، وكان هذا الشاب غسان كنفاني. ينتهي كلام اليوسف هنا.
إلى جانب كيركجور، نحن في حاجة إلى شيء آخر، فيلسوف له القدرة على الحلم، ممزوجًا بالواقع القهري. فيلسوف يعيد حلم التحرير ليكون “الدين السياسي” وأبو الأهداف
عند البحث عن موضوعة “تحرير فلسطين” أو حلم التحرير، سواء في الأدب العربي أو الفلسطيني، تكاد لا تجد شيئًا، أو لا تجد شيئًا فعلًا. ليست التراجيديا هي الغائبة في الأدب الفلسطيني، إذ أنها حاضرة في أصغر تفصيل من تفاصيل الحياة الفلسطينية، سواء في الداخل أو الشتات، لكنّ الحلم هو الغائب. والأدب، أو الكتابة، كعملية تقوم على التخييل والمخيلة والخيال والحلم، يمكن أن تتحقق فيها كل الأشياء. مع ذلك، إنّ المحاولة الوحيدة للاقتراب من “الواقعية السحرية”، لم تكن في عمل أدبي، إنما في قوات المقاومة الجوية التي طارت من غزة إلى خارجها من أجل القتال.
ثمة فصل واحد في كتاب “الواقع الفلسطيني في الرواية” لكريم مهدي المسعودي، اسمه “العودة”، ويقف على العودة في أعمال كنفاني وجبرا. إلا أنها ليست العودة الحلم. إذ وقف غسان، مثلًا، بنموذجه الفلسطيني في منتصف الطريق، دون أن يحقق العودة إلى الوطن، الحلم. وربما فسر هذا إهداء غسان رواية “ما تبقى لكم”: “إلى خالد… العائد الأول الذي ما يزال يسير”. ربما، لو لم يقتلوا غسان في منتصف العمر، لأكمل خالد سيره.
أما عند جبرا، وتحديدًا في نموذجه “وديع عساف” في رواية السفينة، يصر على العودة إلى أرضه، لكنها عودة رومانسية تتجاهل وقائع القهر الفلسطيني وتبدو كأنها تقول إن الفلسطيني يمتلك الحق في العودة في اللحظة التي يختارها، أو عندما يؤمن رأس المال؟ لذا لم يخطئ د. حليم بركات حين صنف “السفينة” تحت ما يسميه “رواية اللامواجهة”.
إذن، فإنّ حلم التحرير، بالنسبة لجيلنا، هو حلم موروث، وهو استعادة للطراز الأولي الذي تحدثنا عنه، لكنه غير موجود في الأدب، وقليلًا ما يعود الواقع ليبرزه.
كان يوسف اليوسف يتمنى ظهور فيلسوف فلسطيني واحد يتمثل روح المسيح المألوم، روح فلسطين المصلوبة، يتمنى كيركجور فلسطيني يشتق التراجيدي من قلب التاريخي. طبعًا لم تكن رؤية اليوسف انهزامية، إنما لها أسبابها ومنها إنتاج النص المأسوي لتسويغ النضال المأسوي.
لكن، إلى جانب كيركجور، نحن في حاجة إلى شيء آخر، فيلسوف له القدرة على الحلم، ممزوجًا بالواقع القهري. فيلسوف يعيد حلم التحرير ليكون “الدين السياسي” وأبو الأهداف. فلسفة من هذا النوع أثبتت أنها موجودة، لا في الأدب والكتب، إنما في قلب فلسطين، في الطراز الأصلي منها: غزة.