إنّ الأمور تدافعت بعيداً وواسعاً حتى يومٍ من أيلول عام 1993 أعلن فيه فجأةً عن اتفاق “أوسلو”، يُكمل محمد حسنين هيكل، كان هذا التيه العربي لا يتكلم ولا يكتب حواراً مع العالم والزمن، إنما هو على أحسن الفروض حديث التيه مع نفسه، وكتابته لها دون أن ينشغل كثيراً بمن يسمع ويقرأ، بمن يتابع ويهتم. ولعلنا نتبع على الصحافي المصري: لم ينشغل هذا التيه بالمطلق بمن يعمل بمن يقاوم بمن يستشهد، فقد كان زمناً بعيداً عن الأزمنة. كنا أمام تحوّل لافت، مؤسسة وطنية تقف في وجه الممارسات الإسرائيلية إلى شريك لـ”إسرائيل”. يضيف إدوارد سعيد إن الأمر أثر على تصورنا لتاريخنا وفهمنا إياه، وإنْ اعتبرنا 13 أيلول ذروة هذا التاريخ، فستبدو أقوالنا خطبنا تصرفاتنا في الماضي خطأً فادحًا مضينا في ارتكابه طويلا.
لكن؟ هل كان تيهًا؟ هل كان ذروةً لتاريخ ما؟ كلّا.
لربما كان للبعض، لعرّابيه. لقد كانت عملية شراء أمريكية لزمن طارئ، قصير، عابر، هش للصهاينة، ولعله لا مصداق على تفاهة الصهيونية، سوى أن يسلَّع لها زمنٌ فيباع ويشترى، فيما الأزمان لا تُشترى.
لم يكن تيهاً، فقد كانت الأزمنة تُصنع. زمنٌ للأسر وزمنٌ للاشتباك وزمنٌ للرفض وزمنٌ لتحرير وزمنٌ لحصار وزمنٌ لحفر وزمنٌ للشهادة وزمنٌ على بعد جيل.. هذا الجيل.
كم هو هزيل زمن السقوط هذا أمام أزمنة المقاومة! ولا داعي للجدال. لندع أبعاد الواقع تعبّر: الصورة والصوت والشكل والرائحة. هل كان مخيال منظّري “أوسلو” و”الفلسطينيّ الجديد”، يحتوى على صورة أم تستظل بنعش شهيد؟ صورة الدخان يخترق السماء إبان اشتباك؟ صوت أزيز رصاص رشاش؟ رائحة دم على حد سكين؟ دم يلوّن الأرض؟ أمعاء خاوية؟ صراخ جندي بعد رجة كمين؟ صوت صفارات انذار؟ مستوطنون يهرعون إلى الملاجئ؟
كانت ذروة التاريخ في مكان آخر، وإن كانت أيضاً “أيلولية”، وليأذن لنا شاعرنا اليمني الكبير عبدالله البردوني، فقد ولدت “فلسطين” في أيلول. أولاً عام 2000، لتشكل انتفاضة الأقصى تصوّرَ جيلٍ عربيّ وفلسطينيّ لتاريخه ولفهمه إياه: صورة فارس عودة، صوت صاعق القسّام، صورة العشاء الأخير في كنيسة المهد في بيت لحم. ثم ليحاولوا، في تيههم، إماتتها، إلا أنه كما أخبرنا البردوني هي تظل تموت لكي تحيا، وتموت لكي تحيا أكثر.
أيلول آخر، السادس منه تحديداً عام 2021، مخاض عسير من رحم نفق، ولدت فلسطين، مرة أخرى، لكن هذه المرة كي لا تموت.
لم تكن هنا ذروة التاريخ فحسب، ولم تكن عملية تحرّر من أسر، كانت تحريراً للزمن كله. هي تحرّرنا العربي، نفق طويل ضيق وعر ومظلم حتى “نرى الشمس بلا قضبانِ” مستعمرٍ أجنبيّ أو مستبدٍّ محلّي.
قد أسس لنا محمود العارضة ورفاقه بداية مرحلة جديدة، تستدعي المسؤولية والمبادرة والعمل. وإنْ كانت الكلمات – بتعبير الشهيد غسان كنفاني – تعويضًا صفيقًا وتافهًا لغياب السلاح، فقد ذكّرَنا حملته وأخوة الشهيدين وديع الحوح وتامر الكيلاني أن “الصحافة خلقت للحروب”.
لقد أورثتنا هذه العملية أمانة الاستمرار، وكأن علينا التناوب في الحفر، ولكن هذه المرة في الزمن، وجميعاً.
كان الشهيد جميل العموري السّباق إلى ذلك. جدّد الاشتباك في الميدان، تاركّا لنا وزر الاشتباك والحرب على كل صعيد، وفي مقدمتها الثقافة. ولمن يتساءل عن جدواها، فالشهيدان باسل الأعرج ونزار بنات شاهدان.
تنطلق “الكرمل” في أيلول، ضمن مسؤولية هذه المرحلة، من هذا التاريخ وفيه، لترى نفسها جزءًا من أبعاد هذه الأزمنة، الصورة والصوت والشكل، منتميةً بوضوح إلى أيلول انتفاضة الأقصى وأيلول تحرير غزة وأيلول نفق الحرية من معتقل جلبوع، مؤمنة بأن المعرفة جبهة، نخوضها في صراعنا وتحررنا من براثن الاستعمار الصهيوني، غير آبهة بضوضاء التطبيع والتطويع والاعتراف بالعدو. ذلك السقوط الحر نحو الهاوية.
فاليوم أزماننا لا زمنهم.