في ظلّ الحرب القائمة في المشرق العربي وتصاعد وتيرة الأحداث التي باتت تُنذر باحتمالية توسّع الحرب على قطاع غزة والضفة الغربية إلى حرب إقليمية، تبحث الحكومة الإسرائيلية عن بديلٍ لمرافئها المُعرّضة للخطر. ما دفع الكيان لبحث هذا القرار هو التماسه نتائج حصار حركة أنصار الله في اليمن على حركة الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر الذي بدأ في شهر نوفمبر سنة 2023، وأدّى إلى توقّف العمل في مرفأ «إيلات»، وألحق ضررًا جسيمًا في وصول السفن المُحمّلة بالبضائع إلى الكيان، كما بات معروفًا.
اليوم، ومع ارتفاع احتمالات الحرب في شمال فلسطين المُحتلة بين الكيان والمقاومة الإسلامية في لبنان – حزب الله، وتحولّها إلى حربٍ مفتوحة، بات الخطر يُحدّق بمرفأ «حيفا»، الذي وعدت المقاومة أن يكون تحت مرمى صواريخها في أي حربٍ مفتوحة. من هنا، أتى قرار الكيان في البحث عن ملاذٍ آخر للملاحة البحرية نحو «إسرائيل»، كخطة طوارئ.
في أواخر يوليو سنة 2023، أصدرت وزارة النقل الإسرائيلية بيانًا بعنوان: «بتوجيه من وزير النقل: ميناء أسدود والميناء الجنوبي يجري إعدادهما ليكونا بمثابة موانئ بديلة من الموانئ الشمالية». قامت الوزارة بإصدار هذا البيان بعد زيارة المدير العام للوزارة إلى مرفأ «أسدود»، ما يجعله من أهم المرافئ التي تتطلّع إليها الحكومة لتكون مركز خطة الطوارئ في حال توقّف المرافئ الشمالية عن العمل. لذا يبقى السؤال الأساسي: هل يستطيع ميناء «أسدود» استبدال المرافئ الشمالية فعليًا؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، من المهم وضع خلفية لأهمية المرافئ في مرحلة تشكيل الكيان. فمنذ تأسيسه في أربعينيات القرن الماضي، اعتمد الكيان الاسرائيلي على المرافئ في حركة التجارة، كما كان للمرافئ دورٌ أساسي في استقبال الهجرة الجماعية لليهود القادمين من أوروبا إلى فلسطين. وبسبب الموقع الجغرافي الذي احتّله الكيان في قلب المشرق العربي، تشكّلت بيئة عدائية أحاطت بـ«إسرائيل» من كل جانب منذ بدء الاستعمار الصهيوني لفلسطين، لذا كان للمرافئ أهمية استراتيجية لبقاء الكيان على قيد الحياة؛ إذ إنّ الطرق البرية كانت مقطوعة كليًا، لأن الدول العربية المحيطة اعتبرت «إسرائيل» عدوًّا لها. وبالتالي، باتت المرافئ تلعب دورًا مهمًا في الكيان، مع ازدياد الاعتماد على حركة التجارة الخارجة منه والقادمة إليه. يؤمّن البحر حاليًا نحو 99% من استيراد «إسرائيل»، ما يظهر استمرار الأهمية الاستراتيجية للمرافئ بالنسبة لهذا الكيان.
بالعودة إلى السؤال المطروح أعلاه، يبدو أن مرفأ «أسدود» يواجه مشكلتين أساسيتين لا تُمكّناه من الحلول مكان المرافئ في الشمال.
١- استيراد الحبوب
المشكلة الأولى هي استيراد الحبوب، إذ إنّ مرفأ «أسدود» لا يمكنه استيراد الحبوب بسهولة، وذلك يعود إلى أنّ المرفأ لا يتضمّن إهراءات يمكن نقل الحبوب إليها بشكل فوري، بل هي موجودة خارج الواجهة البحرية ما يفرض استخدام الشاحنات لنقل الحبوب من المرفأ إلى الإهراءات. وهو الأمر الذي أكّده الكاتب الإسرائيلي إيدان بنيامين، في مقالٍ له في موقع «ذي ماركر» تحت عنوان «وزارة النقل تعتمد على ميناء أسدود في حالة الطوارئ وتتجاهل تفريغ المواد الغذائية»، وقال إنّه «من المتوقّع أن تكون المشكلة الأكبر في الاعتماد على مرفأ أسدود كبديل لمرفأ حيفا في تفريغ الحبوب»[1]. وأضاف الكاتب أنّ «هناك شكاوى كثيرة حول مرفأ أسدود في المنطقة، وذلك بسبب حركة الشاحنات الكثيفة الخارجة من المرفأ نحو الإهراءات»، مؤكدًا أنّه «في الأسابيع الأخيرة تضاعفت هذه الشكاوى».
أكثر من ذلك، شدد الكاتب على أنّ «العمل في ميناء أسدود منخفض بشكل غير طبيعي بالمقارنة مع أدائه في الأعوام السابقة… في الأسابيع الأخيرة يحاول المستوردون ووكلاء السفن تجنّب الوصول إلى الميناء المتدهور»، في إشارة إلى «أسدود». بنيامين لفت أيضًا إلى أنّ «العديد من وكلاء الشحن (في مجال الحبوب والحاويات) يُفضّلون الذهاب إلى مرفأ حيفا، حيث يحصلون على خدمة جيدة». وهذا الأمر توضحه الأرقام، ففي الأشهر الستة الأخيرة استقبلت «مرافئ إسرائيل» 2.4 مليون طن من الحبوب، استحوذ على 1.8 مليون منها المرفآن الموجودان في «حيفا»، فيما استقبل مرفأ «أسدود» 600 ألف طن فقط.
يطرح هذا الأمر إشكالية كبيرة، فالحبوب مصدر غذاء أساسي، ويعتمد الكيان المحتل على استيراد 90% من حاجته من هذا المورد الغذائي. هذا الرقم بحدّ ذاته هو مشكلة استراتيجية للكيان، لكن لهذا الأمر بحث آخر. بالتالي، يستحيل في الوقت الحالي أن يستقبل مرفأ «أسدود» كل الحبوب التي يجب على «إسرائيل» استيرادها، ما يُشكّل احتمال أن تمسّ الحرب بالأمن الغذائي الإسرائيلي. بمعنى أوضح، إذا ما كان الكيان يعتمد على استبدال مرافئ الشمال بمرفأ «أسدود»، فإنه يواجه مخاطر عدم القدرة على تلبية حاجات المستعمرين من الحبوب.
٢- آخر مرافئ «الدولة»
المشكلة الثانية هي أنّ «أسدود» هو المرفأ الوحيد المملوك من قِبل «الدولة الإسرائيلية». في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، شهد الاقتصاد الإسرائيلي أزمة ديون وتضخمًا حاديّن، وأدّى ردّ الفعل تجاههما إلى تغيير عميق في النظام الاقتصادي في الكيان. وكانت هذه نقطة تحوّل «إسرائيل» نحو النيوليبرالية. هذا التحوّل دفع الحكومة إلى التخلّي عن سياسة التدخّل المباشر، مقابل تبنّي سياسة إلغاء القيود التنظيمية وتحرير الاقتصاد والخصخصة [3]. نتيجة ذلك، وفي عملية استغرقت عقودًا، أصبحت كل مرافئ «إسرائيل» مملوكة للقطاع الخاص، وكان آخرها مرفأ «حيفا» سنة 2022، باستثناء «أسدود» الذي صمد تحت إدارة الحكومة في «تل أبيب». لكن في الوقت عينه، وفي مسار موازٍ، التحوّل النيوليبرالي أدّى إلى خفض الاستثمارات الحكومية.
ومن الطبيعي أن يكون آخر مرفأ مملوك لـ«الدولة» قد عانى من انخفاض حجم الاستثمارات فيه. يظهر هذا الأمر جليًّا في عدد العمّال المنخفض في المرفأ، والذي أثّر على عمله. في هذا السياق، يحاول الإسرائيليون إلقاء اللوم في هذا الأمر على إنتاجية العمّال، غير أنّ بنيامين نقل في هذا الخصوص عن مراقب حكومي قوله إنّ المشكلة الأساسية هنا هي «بسبب نظام الحوافز في المرفأ الذي يجعل الموظفين يتوقفون عن العمل في منتصف ورديتهم أو عدم العمل ليلًا». وإذا كانت المشكلة في الإنتاجية، فهذا الأمر قد يؤثّر على ربح المرفأ، ولا يكون سببًا بوجود طابور طويل عند مدخل المرفأ بلغ ذروته عند 80 سفينة في شهر أيار من العام 2021، وعدد مماثل في شهر أيار سنة 2022[4[. هكذا نوع من التعطيل في العمل سببه عدم وجود عمّال كافيين، وهو أحد عوارض قلّة الاستثمار في المرفأ.
من ناحية أخرى، تظهر قلّة الاستثمار في الوضع السيئ للإهراءات الموجودة إلى جانب المرفأ، وهي في حالة سيئة بسبب عدم الخضوع للصيانة، وفي كثير من الأحيان يتمّ إيقاف تفريغ البضائع عبر الناقلات بسبب خلل في الإهراءات [5].
خاتمة
قد يكون مرفأ «أسدود» قادرًا على استيعاب البضائع القادمة إليه بدلًا من باقي مرافئ الشمال، من ناحية القدرة الاستيعابية والتشغيلية. لكن مشاكله اللوجستية كبيرة، خصوصًا فيما يخصّ استيراد الحبوب. وكونه المرفأ الأخير التابع لـ«الدولة» التي اتّخذت نهجًا نيوليبراليًا تقشفيًا منذ الثمانينيات، لا يمكن القول إنّ هذا المرفأ جاهز ليكون بديلًا عن المرافئ الشمالية. لكن هذا كلّه يفترض أمرًا مهمًا، وهو أنّ صواريخ المقاومة في غزة ولبنان واليمن والعراق وإيران غير قادرة على تعطيل مرفأ «أسدود» كما هي قادرة على تعطيل المرافئ الشمالية، وهي التي تقول إنها قادرة على إصابة أي نقطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة من الشمال إلى الجنوب.
مراجع
[1] وزارة النقل تعتمد على ميناء أسدود في حالة الطوارئ وتتجاهل تفريغ المواد الغذائية – إيدان بنيامين (تموز 2024(، the marker
https://www.themarker.com/dynamo/2024-07-30/ty-article/00000190-ff95-da63-a9d0-fffdc4d10000
[2] نفس المرجع السابق
[3] التحول النيوليبرالي في إسرائيل ونموذجها الأمني القومي- آري كرامبف (2018)
https://bibliotekanauki.pl/articles/594398
[4] تقرير مراقب الدولة في ميناء اسدود، العمل يتوقف عند حصول العمال على مكافأتهم اليومية- إيدان بنيامين (كانون الثاني 2024( ، the marker
https://www.themarker.com/dynamo/2024-01-08/ty-article/0000018c-e88b-db55-a39e-ff9fe4370000
[5] نفس المرجع السابق