زادت الولايات المتحدة الأمريكية، في الأيام الماضية، ضغطها على حكومة بنيامين نتنياهو. اذ تسعى واشنطن إلى تحويل التهديد الذي شكلته عملية «طوفان الأقصى»، إلى فرصة لاعادة إحياء مشروع قديم وهو «مسار حل الدولتين».
الولايات المتحدة التي تُدرك ان ضربة السابع من أكتوبر أفقدت “إسرائيل” رشدها ، تدير هذه الأيام بنفسها شؤون تل أبيب السياسية. وفي حال حاول رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو التهرب من الواقع الذي تريد واشنطن فرضه، حركت الإدارة الأمريكية أدواتها. هذا ما جرى نهاية الأسبوع الماضي، عندما أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، ومعها تابعتها البريطانية، إمكان اعترافهما بدولة فلسطينية. الأولى لوّحت بذلك في تسريب لموقع «إكسيوس»، والثانية بتصريح رسمي على لسان وزير الخارجية البريطاني جايمس كاميرون.
تريد واشنطن إطلاق “مسار حل الدولتين”، لا الوصول إلى دولة فلسطينية. تكتفي بالمسار ولا تسأل عن النتيجة.
هذا المسار هو ما تنوي واشنطن بيعه لولي العهد السعودي محمد بن سلمان للمضي بالتطبيع مع العدو الإسرائيلي، ولدمج تل ابيب في المنطقة. وعلى الرغم، من الحرص الأمريكي على المصلحة الإسرائيلية، الا ان تل أبيب تصر على رفضها مبدأ الدولتين. لذلك زادت واشنطن من مستوى ضغطها على اليمين الإسرائيلي، بعد التلويح بالاعتراف بدولة فلسطينية، فارضة عقوبات على 4 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة. فقد وقّع الرئيس الأييركي جو بايدن (1-2-2024( على أمر تنفيذي لفرض عقوبات على أربعة مستوطنين إسرائيلين، من بين عشرات آلاف المستوطنين الذين يهاجمون الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، فيما وصف نتنياهو الأمر التنفيذي بـ«غير الضروري»، معتبراً أن المستوطنين «مواطنون ملتزمون بالقانون».
ولزيادة ضغطها السياسي على نتنياهو، دفعت واشنطن برئيس المعارضة يائير لابيد، لتقديم مبادرة لنتنياهو بإعلانه استعداده الإنضمام إلى حكومته وتشكيل شبكة أمان له، في حال قرر الابتعاد عن وزير المال بتسلئيل سموتريش ووزير الأمن القومي ايتمار بن غفير.
بن سلمان
ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن مصلحتها كما مصلحة “إسرائيل”، هي في إطلاق مسار يعد الشعب الفلسطيني بإقامة دولة له، بما يُضعف خيار المقاومة، ويشتري المزيد من الوقت لـ”إسرائيل” للقضاء على مقمومات الدولة الفلسطينية. وهذا ليس توقعًا، بل قراءة لما سبق أن جرى بعد اتفاق أوسلو.
في الوقت عينه، يمكن تقديم “مسار حل الدولتين” للدول العربية، لكي تُطبّع علاقاتها بكيان الاحتلال، ما يمنحه المزيد من الأوراق التي تساهم في تصفية القضية الفلسطينية.
ورغم معرفة الجميع بأن هذا المسار ليس سوى بيع للاوهام، فإن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مستعد للشراء. وبحسب تسريبات وسائل الإعلام الأميركية، فإن بن سلمان سيوافق على التطبيع، في حال منحته الإدارة الأمريكية اتفاقية أمنية تتعهد بموجبها الولايات المتحدة بالدفاع عن السعودية، أسوة بما تفعله مع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو). أما بشأن فلسطين، فكل ما يطلبه بن سلمان هو تعهّد إسرائيلي بحل الدولتين، “من دون أن تصرّ الرياض على أن تتخذ إسرائيل خطوات ملموسة لإقامة دولة فلسطينية”، بحسب ما نشرت وكالة “رويترز”.
خلفية المشهد
منذ طوفان الأقصى، تُشاهد أنظمة دول الشمال تحوّل القضية الفلسطينية من مسألة محلية محصورة في بقعة جغرافية ضيقة إلى قضية عالمية، مع إعادة تسليط الضوء على حقوق الفلسطينيين والظلم الذي يتعرضون له من قبل كيان الاحتلال.
ومنذ عملية السابع من أكتوبر سنة 2023، تُعاين الحكومات الغربية والعربية الداعمة للعدّو تداعيات قمع الفلسطيني وسرقة أرضه وطرده من بيته واغتيال شعبه.
أتت عملية «طوفان الأقصى» لتُبدّل قواعد اللعبة وتضع المنطقة بشكل مباشر، والعالم بشكل غير مباشر، على صفيح ساخن، أمنيًا واجتماعيًا واقتصاديَا. الأنظمة التي وفّرت دعمًا أعمى لكيان الاحتلال في الأسابيع الأولى للحرب، باتت اليوم تبحث عن حلّ لإنزاله عن الشجرة، فاستُحضر مشروع «حلّ الدولتين» الذي انقلبت عليه «إسرائيل» ودفنته منذ أيام «اتفاق أوسلو» في العام 1993.
عُقد آخر مؤتمر «جدّي» للبحث في القضية الفلسطينية سنة 2007 في الولايات المتحدة الأمريكية، وعُرف يومها بـ«مؤتمر أنابوليس». بعد 17 عامًا، قرّرت دوائر القرار في واشنطن إعادة إحياء مصطلحات ومفاهيم قديمة، مرفوضة إسرائيليًا. عاد المسؤولون الأمريكيون إلى نغمة «ضرورة العودة إلى المسار السلمي والتفاوض حول حلّ الدولتين»، مُسوّقين أنّه “الخيار الوحيد الذي سيُعيد الأمن إلى منطقة الشرق الأوسط، ويُمكّن من مواجهة حركة حماس ومُحاصرة إيران”، على حدّ تعبير وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، أنتوني بلينكن.
تُعيد واشنطن إحياء مفهوم انقلب عليه نفس الشخص الذي تتوقّع منه الموافقة عليه، وهو رئيس وزراء العدّو، بنيامين نتنياهو. الأخير، ومنذ العام 2009، عمل على تدمير كلّ البنى التحتية التي يمكن أن تؤدي إلى بناء دولة فلسطينية، ولو على مساحة صغيرة من أرض فلسطين. فوسّع حركة الاستيطان في مناطق الضفة الغربية، وأطلق بناء مستوطنات جديدة، قام بمصادرة أراضٍ لتقطيع أوصال الضفة، وحاول إحداث تغيير ديموغرافي في بعض المناطق عبر إفراغها من الفلسطينيين مثل مسافر يطا في الخليل، والخان الأحمر في القدس المحتلة.
إجراءات حكومات نتنياهو سرّعت وتيرة قضم الضفة الغربية المحتلة، حتى صار 60 في المئة من أراضيها في خدمة المستوطنين وجيش الاحتلال.
نتنياهو «فخور» بما قام به، إذ صرّح في 21 يناير 2024: «تصميمي هو الذي منع على مدى السنين إقامة الدولة الفلسطينية التي كانت ستُشكّل خطرًا وجوديًا على إسرائيل. وطالما أنا رئيس الحكومة فإنني سأبقى مُصرًّا على هذا الموقف بحزم».
ربط نتنياهو بين تنفيذ حلّ الدولتين وتشكيل تهديد وجودي لـ«دولة إسرائيل»، كافٍ لنسف أي اقتراح في هذا الخصوص. صحيح أنّ رئيس وزراء العدّو أعلن قبوله لاقتراح «الدولتين» في العام 2009، في كلمة ألقاها في جامعة “بار إيلان»، ولكن ذلك كان فقط بهدف إرضاء الرئيس الأمريكي المنتخب حديثًا (آنذاك) باراك أوباما. عمليًا ما جرى، أنّ نتنياهو بعد أشهر تهرّب من التزاماته وبدأ مُخطّطه الفعلي لتدمير أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية.
لم تلقَ الإجراءات الإسرائيلية الاهتمام الكافي، بسبب تزامنها مع الثورات والانتفاضات في العالم العربي، فشُغِل الرأي العام العالمي عن قضية فلسطين. وفي الوقت نفسه، مثّلت أنظمة التطبيع العربية عاملًا مُساهمًا في إنجاح السياسة الإسرائيلة الرامية إلى تحييد القضية الفلسطينية عن خارطة المشهد السياسي، وتوسيع «حدود» المستوطنات. كان نتنياهو يتباهى بأنّ هذه الدول المُطبعة مستعدة للسير في عملية السلام مع «تل أبيب» حتى من دون الحاجة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وهو ما ثبت لاحقًا مع انطلاق مسار «اتفاقيات أبراهام»، التي وقّعتها كل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع «إسرائيل» في العام 2018.
فما لم يقبل به نتنياهو، وما تبيّن أنّه «غير ضروري» لإسكات الأنظمة العربية والخليجية، وما لم يمرّ في زمن حكومات إسرائيلية عُدّت «أقل تطرّفًا»، كايهود باراك في العام 2000 وزمن ايهود أولمرت في العام 2007، هل من الممكن أن يمرّ في العام 2024؟ في زمن يسيطر فيه اليمين الإسرائيلي المتمثل بوزير الأمن القومي الإسرائيلي ايتمار بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريش على مشهد الحُكم؟ وما الذي بقي من الضفة الغربية لإقامة دولة فلسطينية؟
الأمر يبدو أقرب إلى ضرب من ضروب الخيال، ولكن حتّى الآن تبدو واشنطن مُصمّمة على المُضي بمسار يؤدّي إلى إطلاق التفاوض على “حل الدولتين”. وفي هذا المجال، نشرت شبكة “سي إن إن” الأمريكية أنّ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أجرت مؤخرًا مناقشات حول إقامة دولة فلسطينية محتملة منزوعة السلاح. فبايدن “يعتقد بأنّ إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح فكرة مثيرة للاهتمام”.
من ناحيته، أكّد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمام مجموعة الضغط اليهودية – الأمريكية، «جاي ستريت” (J Street) “معارضة الأعمال التي تُقوّض آفاق حلّ الدولتين بما يشمل مثلًا توسيع المستوطنات أو اتخاذ خطوات في اتّجاه ضمّ الضفة الغربية أو إحداث تغيير في الوضع التاريخي القائم للمواقع المُقدسة وعمليات الهدم والإخلاء والتحريض على العنف”.
لا يبدو أنّ مسؤولي الكيان سيرضخون لهذه الضغوط. فقد نقلت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أنّ مسؤولين إسرائيليين دعوا بايدن سرّا إلى الامتناع عن الحديث علنًا عن مسار حلّ الدولتين. وأضافت الصحيفة أن “مسؤولًا أمريكيًا قال إنّ الرسالة الإسرائيلية هذه تُمثّل وجهة نظر نتنياهو وأعضاء آخرين في حكومة الحرب، بمن فيهم بيني غانتس ويائير لابيد”. ويقول مسؤول إسرائيلي آخر، وفق “تايمز أوف إسرائيل”، إنّ حل الدولتين بعد ما جرى في 7 أكتوبر “هو مكافأة لحماس”.
ردة فعل وزراء إسرائيليين
مع تزايد الضغوط الأمريكية لإجبار «إسرائيل» على الالتزام بمسار حلّ الدولتين، كثُرت تصريحات الوزراء الرافضة لذلك.
إيتمار بن غفير أعلن أنه “مُعارض دائم لحل الدولتين”.
وزير الطاقة يسرائيل كاتس قال إنّ “إقامة دولة فلسطينية هو مكافأة للإرهاب وخطر على دولة إسرائيل”.
وزير الثقافة والرياضة ميكي زوهار علّق قائلاً: “لن نُسلّم أيدينا أبدًا لإقامة دولة فلسطينية وهذا هو التزامنا تجاه أبطالنا الذين سقطوا في هذه المعركة”.
وزير المالية بتسلئيل سموتريش اعتبر أنّ “الدفع باتجاه إقامة دولة فلسطينية هو دفع للمذبحة المقبلة وخطر وجودي على إسرائيل. على البيت الأبيض أن يتحرّر من أوهام المفاهيم التي أدّت إلى الكارثة في إسرائيل”.
القيادي في حزب الليكود، نير بركات، صعّد بالقول: «من يُفكّر بمنح جائزة الدولة للفلسطينيين بعد 7 أكتوبر، سيجد أن لا حكومة له»، في تهديد داخلي لقمع أي أصوات إسرائيلية مُمكن أن تنضم إلى المشروع الأمريكي.