في وقتٍ قرّرت فيه معظم الأنظمة العربية صرف النظر عن حرب الإبادة التي يشنّها العدّو الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزة، وتكتفي ببيانات الإدانة التي لا نفع لها، برزت دولة جنوب أفريقيا، من منطقةٍ بعيدة جدًا جغرافيًا، لتُثبت لحكومات وأنظمة العالم المُرتهنة للعدّو أو الخانعة أمام المارد الأمريكي وحلفائه، أنّ دعم فلسطين ممكن وفعّال… حتّى لو دبلوماسيًا. فقدّمت جنوب أفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد «إسرائيل» اتهمتها فيها بارتكاب جرائم تصل إلى الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. ويُنتظر أن تصدر المحكمة قرارها الأولي بشأن الدعوى غدًا الجمعة.
عملت الأنظمة الخليجية والعربية لمطبّعة، طيلة سنوات، على تطويق حركات المقاومة، وتحديدًا الفلسطينية منها، والتضييق عليها بالوسائل كافة لردعها عن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
هذه الأنظمة تتذرّع بأنّ دعم المقاومة الفلسطينية عسكريًا سيُكبّدها كلفة باهظة. كذبت الأنظمة العربية حين روّجت لـ«المقاومة السلمية» وأغرقت الرأي العام بنظريات عدم جدوى استخدام السلاح في وجه العدّو، «واعدةً» بالقيام بواجبها «دبلوماسيًا» لدعم الفلسطينيين. وعود تبخّرت فور التفوّه بها. فلا فُعّل الضغط الدبلوماسي. ولا استُخدمت الأدوات الاقتصادية والتجارية لليّ ذراع العدّو. ولم تُقدّم الشكاوى القانونية أمام الجهات الدولية. على العكس من ذلك، وقّعت المزيد من الحكومات العربية اتفاقات الذلّ المُسماة «اتفاقيات سلام»، ووقفت مُشاركةً في سفك الدم العربي، مُتفرجة اليوم على دولة جنوب أفريقيا تحمل لواء فلسطين أمام المحافل الدولية.
لماذا قدّمت جنوب أفريقيا الدعوى القضائية؟
بين جنوب أفريقيا وفلسطين تاريخ مُشترك من النضال ضدّ الاستعمار ونظام الفصل العنصري. العلاقة الوثيقة التي تربط جنوب أفريقيا بالشعب الفلسطيني وبدولة فلسطين، تعود إلى سبعينيات القرن الماضي عندما دعمت منظمة التحرير الفلسطينية ثورة جنوب أفريقيا ضدّ نظام الفصل العنصري الذي كان قائماً آنذاك بحق أصحاب البشرة السوداء. وبعد انتصار الثورة وفوز نيلسون مانديلا في انتخابات تاريخية سنة 1994، قال خلال كلمته يومها: «نعلم جيدًا أنّ حريتنا غير مكتملة من دون حرية الفلسطينيين». وربما يكون ذلك أحد الدوافع الرئيسية وراء حراك جنوب أفريقيا منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية في محاولة لوقفها. وعلى مدى السنوات التالية، لم يتوقّف مانديلا وزعماء جنوب أفريقيا عن ذكر فلسطين في خطاباتهم، والمقارنة بين القيود التي فرضتها «إسرائيل» على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية بمعاملة أصحاب البشرة السوداء في جنوب أفريقيا إبان حكم نظام الفصل العنصري. واعتبروا أنّ القضيتين قائمتين على اضطهاد المواطنين في وطنهم.
تحوّلت جنوب أفريقيا، ومنذ انتصار ثورتها، حليفًا لفلسطين ومن أشد الدائنين للجرائم الإسرائيلية. وحتى بعد وفاة مانديلا عام 2013، احتفظ حزبه «المؤتمر الوطني الإفريقي» الحاكم بموقفه القوي المؤيد للفلسطينيين، عاملًا على انتقاد «إسرائيل» بوصفها «دولة فصل عنصري».
أهمية الخطوة لا تكمن في تقديم الدعوى أمام جهة تتحكّم دول الشمال بقرارها، بل في أنّها توثّق للرأي العام العالمي الجرائم الإسرائيلية وتوجّه صفعة للدعاية الصهيونية والغربية. قرار جنوب أفريقيا برهن أنّ دعم فلسطين يُمكن أن يحصل أيضًا بأضعف الإيمان، وهو يحتاج إلى القليل من الشجاعة للوقوف بوجه غطرسة الأميركيين والإسرائيليين، ومواجتهم باستخدام سلاح القوانين الدولية التي صاغوها، ولطالما تغنوّا بـ«عدالتها». الدعوى القضائية لها قيمة معنوية كبيرة للفلسطينيين، خصوصًا أنّ من تقدّم بها، هي دولة تجمعها علاقاتٍ دبلوماسية واقتصادية مع الكيان الإسرائيلي. جنوب أفريقيا، الدولة التي تفصلها آلاف الأميال عن فلسطين، وتعتبر بعيدة عن منطقة الصراع، تجاوزت أنظمة عربية في اتخاذ إجراءاتٍ قانونية بحق حكومة الاحتلال، فيما لم تقدم معظم الحكومات العربية، مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية والأردن ومصر، أي دعم عملي لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، ولو بالمطالبة في الأروقة الدولية بوقف إطلاق النار وتجريم الاحتلال، أو حتى بالتراجع عن اتفاقيات التطبيع الموقعة مع «إسرائيل» أو التهديد بعدم التوقيع على اتفاقات مستقبلًا.
ما الإجراءات الأخرى التي اتّخذتها جنوب أفريقيا؟
وافق برلمان جنوب أفريقيا في نوفمبر سنة 2023 بأغلبية الأصوات على تعليق العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل» وإغلاق سفارة «تل أبيب» في العاصمة بريتوريا، بسبب استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة.
في العاشر من نوفمبر سنة 2023، أعلنت جنوب أفريقيا استدعاء السفير الإسرائيلي في العاصمة بريتوريا، احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعدما استدعت كل دبلوماسييها من «إسرائيل» للتشاور.