المستوطنون لن يعودوا إلى البلدات الفلسطينية المُحتلة في الشمال وعلى الحدود مع قطاع غزّة طالما أنّ «دولتهم» لم تُطمئنهم إلى أنّ «خطر المقاومة» قد زال. هؤلاء أُجلوا إمّا بقرار فردي منهم، فانتقل معظمهم للسكن لدى أقارب وأصدقاء لهم في مستوطنات أخرى، وإمّا وزّعتهم حكومتهم على 280 فندقاً ودار ضيافة، وفق صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. هنا تحديدًا تبرز المعضلة الثانية من «أزمة النزوح» الإسرائيلية، التي تنقسم إلى قسمين:
أولًّا: عدم وجود عدد كافٍ من الغرف والمساكن لاستقبال محتلّي البلدات على الحدود مع لبنان وقطاع غزّة، وبقية المستوطنات التي ستكون في مرمى نيران المقاومة في حال توسّعت رقعة الحرب. فبحسب قسم الأبحاث في الكنيست الاسرائيلي، يشغل الأشخاص الذين أُجلوا من المستوطنات ما يُقارب الـ47 ألف غرفة فندق ودار ضيافة، وقد بلغ احتياطي الغرف الفندقية المُتاحة حوالي 5000 غرفة، العدد الأكبر منها يقع في «تل أبيب» و«إيلات» والقدس.
ثانيًا: بدء تذمّر أصحاب الفنادق ودور الضياف من العدد الكبير للمستوطنين والتكاليف المرتفعة التي يتكبدونها ولم تعمد الحكومة الإسرائيلية إلى تغطيتها بعد، وصولاً إلى حدّ تهديدهم بعدم قدرتهم على استقبال المستوطنين النازحين لمدّة أطول.
أطلقت المقاومة الفلسطينية عمليًة عسكرية سينتج عنها تغييرات سلبية في تركيبة المُجتمع الإسرائيلي. فكيف ستواجه الحكومة الإسرائيلية هذه المشكلة؟ وإلى أين تنقل المستوطنين في حال اتّساع رقعة الاشتباكات وارتفاع الحاجة لعمليات الإجلاء، في مقابل عدم وجود غُرف شاغرة وتوجيه تهديد لـ«اللاجئين» أصلاً بطردهم خارج الفنادق؟ لا يوجد جواب لدى الاسرائيليين، وبالكاد أصلًا يحظى الموضوع بتغطية إعلامية في وسائل إعلام العدو. المستوطنون لن يجدوا، غالباً، أماكن كافية داخل فلسطين المحتلة لإيوائهم.
أكبر عملية نزوح في تاريخ العدّو
مع عملية «طوفان الأقصى» وما تبعها من حرٍب إسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية واشتباكات على الحدود الشمالية مع لبنان، بدأت الحكومة الاسرائيلية إخلاء عدٍد من المستوطنات. نشرت هيئة الإذاعة العامة الإسرائيلية أنّه تمّ إجلاء 60% من سكّان مستوطنة «سديروت» وحدها، بالإضافة إلى مستوطنات أخرى مُحاذية لقطاع غزّة ونقلهم إلى الفنادق ودُور الضيافة التي تتلقّى دعمًا ماليًا من الحكومة في وسط فلسطين المحتلّة. أما بالنسبة للحدود الشمالية، فقد وصل عدد المستوطنات التي أُخليت إلى 43 مستوطنة، وأُخرج منها حوالي الـ65 ألف مُستوطن.
ما يجري في كيان العدّو يُعدّ «أكبر عملية نزوح داخلي في تاريخ اسرائيل، حيث فاق عدد الذين تمّ إجلاؤهم الـ125 ألف مستوطن»، وفق صحيفة «نيويورك تايمز». استثنائية الحدث لا تتعلّق فقط بعدد «النازحين» بل، استنادًا إلى الصحيفة الأميركية، بأنّها عملية «مُعقّدة لوجستيًا ومُكلفة للحكومة الإسرائيلية». ويُضاف أيضاً أنّه ستكون لها انعكاسات على تركيبة المُجتمع الصهيوني وبُنية «الكيبوتسات». وقد عبّر عددٌ من المستوطنين عن تخوّفهم من ذلك في حال طالت إقامتهم الفندقية بعيدًا عن تجمّعاتهم السكانية السابقة.
إخلاء المستوطنات: قنبلة اسرائيلية موقوتة
ليس من المبالغة القول إنّ التحدّي الذي تواجهه حكومة العدّو في ما خصّ وضع المستوطنين ونقلهم إلى خارج المستوطنات الحدودية، لا يقلّ أهمية عن الوضع الميداني. عمليات الإجلاء التي عُلّقت مرّات عدّة بسبب نقص أماكن الإقامة، ستكون تكلفتها المادية كبيرة على الحكومة الصهيونية، وتتسبّب بارتفاع التشنجّات بين المستوطنين.
بداية العثرات كانت من عدم إيجاد عدٍد كاٍف من الموظفين لتشغيلهم في الفنادق وخدمة المستوطنين النازحين، لا سيما مع استدعاء أكثر من 350 ألف اسرائيلي من الاحتياط. ونقلت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية عن مدير الموارد البشرية في أحد الفنادق قوله إنّ «التمكّن من توظيف أشخاص يتمتعون بخبرة أو تدريب فريق العمل لخدمة النازحين مثّل تحدّيًا حقيقيًا وهائلًا لنا».
الأمر الثاني هو الإنفاق الحكومي الكبير لتغطية تكلفة نقل المستوطنين، ويأتي فيما يمرّ الكيان بصعوبات اقتصادية، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، ووجود تحدّيات مالية. وتُقدّر «جيروزاليم بوست» أنّ التكلفة اليومية لعملية الإجلاء هذه تبلغ 70 ألف دولار أميركي. وإذا ما صدقت تقديرات المسؤولين الإسرائيليين بأن تمتد حالة الإجلاء حتى نهاية العام، فهذا يعني دفع ما يفوق الـ7 ملايين دولار، بالحدّ الأدنى.
أما النقطة الثالثة، والأخطر على هذا الصعيد، فهي تلويح أصحاب الفنادق ودور الضيافة بتوقّفهم عن استقبال المستوطنين. «إذا لم نتلّق الأموال على الفور، فقد نضطر أن نطلب من الأشخاص المغادرة لأنّنا على شفا الإفلاس»، قال أحد أصحاب الفنادق لصحيفة «جيروزاليم بوست». هؤلاء أيضًا يخشون عدم تأمين وزارة السياحة الاسرائيلية وبقية الهيئات المعنية الموارد اللازمة لاستقبال اللاجئين. نقمة أصحاب الفنادق، تُضاف إلى مخاوف المستوطنين من عدم تلقّيهم مساعدات حكومية كافية لتأمين تكاليف إقامتهم خارج المستوطنات.
مخاوف المستوطنين… مُحقّة
يستمتع المستوطنون الصهاينة بـ«نزوح فاخر»: فندق، إطلالة على الشاطئ، مدارس ومراكز طبية مؤقتة، مراكز علاج فني، صالات تدليك مجانية، جلسات علاج نفسي… ولكن في الذاكرة الإسرائيلية حادثة حصلت سنة 2005 يُفترض أن تُشكّل لهم درسًا لكيفية تعامل الحكومة الإسرائيلية مع وضع مماثل.
في ذلك العام، أخلت سلطات الاحتلال 9000 مستوطن من 22 مستوطنة في «غوش قطيف» في قطاع غزّة، ومن 4 مستوطنات في شمال الضفّة الغربية، لا يزالون حتى اليوم يعيشون في ظروف يعتبرونها صعبة، مع عدم حصولهم على كامل التعويضات الحكومية التي وُعدوا بها، وفقدانهم لوظائفهم.
سنة 2010، أصدرت لجنة التحقيق الحكومية والتي بحثت في أسلوب التعامل مع الذين أُجلوا من «غوش قطيف» والضفة الغربية تقريرها، فألقت باللوم على «الحكومة الإسرائيلية التي فشلت في الاعتناء بهؤلاء الأشخاص الذين لا يزالون يعيشون في مساكن مؤقتة».
حصل ذلك قبل 18 عامًا، يوم كان عدد المستوطنين «مقبولًا» وحكومة العدّو قادرة على احتواء ما جرى، والأهم أنّها لم تتخّذ القرار وهي مُباغتة.
بعد 18 عامًا، لن يكون التعامل مع حالات إخلاء المستوطنات نُزهة للعدّو. لا يوجد مكان لإيوائهم «مؤقّتًا»، كما أنّ إعادة دمجهم في مستوطنات وسط فلسطين المحتلة سيُشكّل تحدّيًا كبيرًا. وطالما أنّه ليس هناك مكان آمن في الأراضي المحتلة، وتحديدًا المستوطنات الحدودية، فلا أحد سيعود إليها. قال أحد المستوطنين النازحين في حديث مع «نيويورك تايمز»: «أرى مقاتلي حزب الله على السياج، وإلى أن نُزيل هذا التهديد، لا يُمكن لأحد أن يعدني بأنّني لن أستيقظ في صباح أحد الأيام لأرى ما حصل يوم 7 أكتوبر / تشرين الأول يتكرّر».