شبح الانهيار الاقتصادي لا يلوح في الأفق الاسرائيلي. كلّ ما يُحكى عن تراجع في قيمة العملة المحلية ورصد المؤشرات الاقتصادية السلبية، هي عملياً نتائج آنية للحرب التي تشنّها «إسرائيل» على قطاع غزّة. صحيحٌ أنّه من المُرجّح تراجع النموّ الاقتصادي على المدى المتوسط، ولكن يبقى ذلك في دائرة «الحصيلة الطبيعية» للحرب التي يشنّها كيان العدّو وما يصحبها من عدم استقرار أمني على الكيان نفسه. فضلاً عن أنّ الحكومة الإسرائيلية والبنك المركزي سيقومان بتمويل العجز الضروري في الميزانية، وسيتدخّلان في السوق لإبقاء الوضع تحت السيطرة. الأهم، أن الغرب مجتمعًا سيقف إلى جانب “إسرائيل” ماليًا. وقد بدأت المساعدات تصل بإقرار الولايات المتحدة الأمريكية مساعدة عاجلة بقيمة 14.3 مليار دولار.
أبرز المؤشرات الاقتصادية المُسجّلة حتّى الساعة، وفق وكالة «بلومبرغ»، هي:
١- انكماش الاقتصاد الاسرائيلي بـ 11% في الربع الأخير من عام 2023
٢- الشيكل يبلغ أدنى مستوياته منذ سنة 2012
٣- استدعاء أكثر من 350 ألف من الاحتياط، ونسبتهم 8% من مُجمل القوى العاملة، تكلفتهم على الخزينة العامة حوالي 2.5 مليار دولار شهرياً. نحو 15% من القوى العاملة في قطاع التكنولوجيا تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية.
٤- انخفض سوق الأسهم بنسبة 15%
٥- 12% فقط من الصناعات تعمل بكامل طاقتها
٦- توقع تضاعف العجز المالي الحكومي في عامي 2023 و2024 ضُعفَي ما كان متوقعًا
٧- انخفاض الاستهلاك الخاص بمعدل الثلث
٨- حوالي 250 شركة في قطاع التكنولوجيا أعلنت إلغاء أو تأخير اتفاقات استثمارية
٩- تعرّض قطاع البناء لمخاطر نقص العمالة بسبب اعتماده على 80 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية
… لكن، ورغم كلّ هذه التهديدات، مصدر الخوف الحقيقي داخل الأراضي المُحتلة على الاقتصاد يأتي من مكانٍ آخر، من الغياب الكلّي أو النقص في اليد العاملة الضرورية لتشغيل الاقتصاد وتحقيق النموّ.
قامت «دولة إسرائيل» ثمّ تمكّنت من بناء مُجتمع وتحويل نفسها إلى «مركز التكنولوجيا والتطوّر» في المنطقة المحيطة بفلسطين، بفضل المساعدات الأميركية، وتحويلات متمولين يهود، والأموال الألمانية التي دُفعت كتعويضات عن المحرقة اليهودية التي ارتكبتها ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية. الدعامة الأخرى الأساسية التي استخدمها «المؤسسون الأوائل» لكيان العدّو هي القدرة على توفير يد عاملة منخفضة الكلفة، سواء من خلال استغلال العمّال الفلسطينيين الذين سلبهم الاحتلال حرية اختيار سُبل العيش، أو اليد العاملة اليهودية «الرخيصة»، تحديداً أولئك الآتين من أوروبا الشرقية وأفريقيا، وتوظيفها في مجالات البناء والصناعة والزراعة، وكلّ ما اعتُبر يومها «قطاعات ثانوية وصغيرة» (الصناعات التكنولوجية والمتطورة بقيت حكرًا على اليهود الغربيين).
في الجانب المالي، الـ«لا خوف» الإسرائيلي على سقوط الاقتصاد يأتي من واقع أن الكيان هو ابن الرأسمالية والامبريالية العالمية التي ستقوم بكلّ ما يلزم لمنع سقوطه. الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى سارعت إلى توفير مختلف أنواع الدعم، مُعلنةً جهوزيتها لزيادة المساعدات المالية والعسكرية لكيان الاحتلال ليتمكّن من «الصمود». حتى كلّ ما يُحكى عن «هروب رؤوس الأموال» من الأراضي المُحتلة، والإحجام عن التمويل والاستثمار، ونقل بعض الشركات مراكزها إلى الخارج، لن يؤدّي إلى انهيار الاقتصاد الإسرائيلي، كون كلّ هذه الاستثمارات ناتجة بالأصل عن قرار سياسي بدعم الكيان، وهو ما لم يتغيّر. تكفي للدلالة على ذلك مسارعة أحد صناديق الاستثمار الأميركية إلى جمع التبرعات لصالح الشركات الناشئة الإسرائيلية لدعمها مالياً في هذه الفترة. وبحسب ما قال مؤسّس إحدى شركات رأس المال الاستثمارية الاسرائيلية لصحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية فإنّ «الصفقات في قطاع التكنولوجيا لا تزال تُعقد».
أما غياب اليد العاملة، أكان تلك الإسرائيلية أم الفلسطينية العاملة في الأراضي المُحتلة، فسيُشكّل تحدّياً حقيقياً أمام كيان العدّو. فحتى مع توافر الأموال اللازمة، ومع اختيار الشركات العالمية ضخّ المزيد من الاستثمارات في «إسرائيل»، بغياب اليد العاملة الضرورية، من هم العاملون الذين سيتولون تنفيذ هذه الأعمال؟
استدعت قوات الاحتلال حوالي الـ 360 ألف جندي احتياطي للمشاركة في عمليات الإبادة ضدّ غزّة. ويُقدّر بأنّه ما بين 10 إلى 15 بالمئة من القوى العاملة في مجال التكنولوجيا الفائقة، استُدعيت للخدمة في صفوف قوات الاحتياط، وفق ما نقلت صحيفة «جيروزاليم بوست» الصهيونية عن الرئيس التنفيذي لهيئة الابتكار الإسرائيلية، درور بن.
تُصنّف «إسرائيل» العاملين في قطاع التكنولوجيا والأسواق المالية والشركات الناشئة بخانة العمالة الماهرة، لذلك يُعدّ هذا «النقص المُفاجئ» محفوفاً بالمخاطر ويُرتّب تحدّيات كبيرة للشركات العاملة في القطاع والاقتصاد ككلّ. عددٌ من رؤساء الشركات التحقوا بقوات الاحتلال. الموظفون الرئيسيون غادر قسم كبير منهم أيضاً. أما من تبقّى للعمل «في هذه الظروف الصعبة، فستزيد أعباء العمل عليه وترتفع مستويات التوتر، ما قد يؤثّر على الكفاءة العامة للإنتاج… إنّ القرارات التي ستّتخذها الشركات لمواجهة النقص غير المسبوق في القوى العاملة سيكون لها آثار دائمة على استقرار هذه الشركات وقدرتها على الصمود»، كما يَرِد في مقال «جيروزاليم بوست».
يُنقل عن الاقتصاديين الاسرائيليين أنّ التداعيات على الاقتصاد بعد هذه الحرب ستكون أسوأ من نتائج حرب العام 2006. فوفق مقابلة أجرتها صحيفة «فايننشال تايمز» مع كبير الاقتصاديين في شركة
«بساغوت» للاستثمار الاسرائيلية، جاي بيت أور إنّهم «أمام عملية طويلة ستؤدّي إلى خسائر فادحة. يُلغي الناس حجوزات العطلات والحفلات والمناسبات. الناس يُقيمون في منازلهم لا يستطيع الكثير منهم العمل، لا سيما بعد تحوّل المدارس إلى نظام التعليم عبر الانترنت». المُستوطنات على الحدود مع لبنان وفي غلاف غزّة تحوّلت إلى مُدن أشباح. الضرر لم يستثنِ أياً من القطاعات.
أما من جهة العمّال الفلسطينيين الذين يعملون مع الإسرائيليين، فقد ذكر تقرير منظمة العمل الدولية الصادر في مايو / أيار سنة 2023 حول «وضع العمال في الأراضي العربية المحتلة» أنّ إجمالي 192,700 فلسطيني يعملون في «إسرائيل»، ويعمل حوالي 60% من العمال الفلسطينيين في قطاع البناء، أما الآخرين فيتوزعون بشكل أساسي على قطاعَي الزراعة والرعاية الاستشفائية. بعد أن أُقفلت المنافذ أمام الغزاويين، بدأ التضييق على العمّال من الضفة الغربية مع تسريح عدد منهم. ونظرًا لأنّ أعدادهم كبيرة، فغيابهم سيُصيب القطاعات الإسرائيلية بضرر.
أزمة النقص في اليد العاملة ظهرت بشكل جلي بعد تاريخ 7 أكتوبر / تشرين الأول، ولكنّها بدأت تلوح قبل ذلك بكثير. سنة 2022، أعلنت وزيرة الداخلية سابقاً أييلت شاكيد، من العاصمة المغربية الرباط، عن مشروع لاستقدام عُمّال البناء المغاربة إلى «إسرائيل»، بالإضافة إلى مُقدّمي الرعاية للمسنين. وبرزت الحاجة إلى عُمّال في قطاع التكنولوجيا المتطورة، يومها قال رئيس الوزراء نفتالي بينيت إنّه «يوجد الكثير من الاستثمار، والكثير من كل شيء، ولكننا بحاجة إلى المزيد من العمّال». عاد الحديث عن نقص العمال إلى الواجهة في حزيران الماضي، مع بدء كيان الاحتلال استقطاب آلاف العمال الهنود والصينيين للعمل في البناء. وقد وقّعت الهند و«إسرائيل» خلال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين إلى نيودلهي في مايو / أيار من العام الحالي اتفاقا لتسهيل عمل 42 ألف عامل هندي في الأراضي المُحتلة، منهم 34 ألفا للعمل في البناء. ثمّ انتقل وفد إسرائيلي إلى الصين لإجراء مقابلات مع 5000 مرشح لوظائف في قطاع البناء. ستفرض الحرب إيقاعها، وتُجَمّد كلّ اتفاقيات العمل الآن، حتى تنجلي الأمور عسكرياً.
النقص في سوق العمل الذي كانت تطمح «إسرائيل» لمعالجته قبل الحرب باستقدام اليد العاملة منخفضة الكلفة من دول أخرى، دخل مرحلة وقف التنفيذ حالياً. لن تُغامر الدول وتُرسل مواطنيها إلى «إسرائيل» وقد أصبحت أرضاً غير آمنة. أصلاً، الأعداد التي كانت تنوي السلطات الاسرائيلية استقدامها لن تعود كافية لتغطية الفراغات في القطاعات، وتحديداً البناء والزراعة والتكنولوجيا، لا سيّما أنّ الآلاف من العمّال الأجانب غادروا الأراضي المُحتلة بعد عملية «طوفان الأقصى».
في النتيجة، انخراط «إسرائيل» في الحرب على غزة، واستنفارها على أكثر من جبهة حدودية، والتهديدات التي تُحيط بها من لبنان وسوريا والعراق واليمن، ستؤدّي إلى تناقص أعداد العاملين، الذين ينقسمون بين من التحق منهم بقوات الاحتلال، ومن يختبئ في منزله، والفلسطينيين الممنوعين من العمل. الخوف على الاقتصاد الصهيوني ليس من شحّ الأموال اللازمة، فهذه مؤمنة، أو من مؤشرات رقمية هي عمليا مبنية على توقعات يُمكن أن تتبدّل أو تُعدّل، ولكن الخطر يكمن في أنّ المستوطنات اليوم هي «مُدن أشباح»، وسيمضي وقت طويل قبل أن تعود الحركة فيها إلى سابق عهدها… وفي جنوب فلسطين وشمالها، ربما لن تعود!