قوة عسكرية مدججة بالسلاح تقتحم المنزل، عند منتصف الليل. تفتّشه وتعيث فيه خرابًا، ثم تفصل النساء عن الرجال. الجنديات تصطحبن النساء والأطفال إلى غرفة مجاورة. تُجبِر الجنديات سيدات المنزل على خلع ملابسهنّ، كل ملابسهنّ، بحجة البحث عن سلاح!
خمس سيدات فلسطينيات، في مدينة الخليل المحتلة، تعرّضن لهذه الممارسة المهينة، على يد قوة من الاحتلال الإسرائيلي مؤلفة من 50 جنديًا. بعد اقتحام منزل العائلة، أجبرت جنديّات جيش الاحتلال السيدات الخمس على خلع ملابسهنّ، والمشي أمامهنّ عاريات، بوجود الأطفال. وقعت هذه الجريمة تحت التهديد المسلّح، كما تحت التهديد بإطلاق الكلاب العسكرية الهجومية عليهنّ.
هذه الجريمة وقعت قبل أسبوع تقريبًا، ولم تُعرف سوى عندما نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية تقريرًا عنها يوم 4-9-2023.
يُقال في مدينة الخليل إن العائلة تواصلت مع تلفزيون فلسطين التابع للسلطة الفلسطينية لإثارة القضية، لكن المسؤولين في الفضائية الفلسطينية لم يتفاعلوا مع القصة.
بعد نشر القصة في الإعلام العبري والعربي، أدانت الفصائل والعشائر الفلسطينية الجريمة. حتى السلطة الفلسطينية أدانتها على لسان رئيس حكومتها محمد اشتية الذي وصف الاعتداء بـ”الشائن” وأنه يعكس المستوى الذي انحدرت إليه ممارسات “الاحتلال الإجرامية”. رغم خطورة الجريمة، اكتفت السلطة بهذه الإدانة اللفظية، تمامًا كما هي سياستها تجاه كل ما يمارسه الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني المهدّد بخسارة ما بقي من أراضٍ في الضفة الغربية تحديدًا.
ما جرى في الخليل هدفه الإذلال، وممارسة الغطرسة. هدفه كسر الفلسطيني وإرادته، بما يذكّر بتاريخ طويل من السياسات الإسرائيلية في السياق نفسه، كما بالممارسات الأمريكية في سجن “أبو غريب”، والتي تبيّن أنها كانت ممنهجة بهدف تحطيم الأسرى نفسيًا بناءً على دراسات اجتماعية أجريت بحثًا “عمّا يؤذي العربيّ أكثر”.
ما أراد جيش الاحتلال الاسرائيلي قوله: “تقتلون المستوطنين؟ نعرّي نسائكم”. يمكن الاستنتاج بأن المحتلين تعمّدوا ارتكاب ما ارتكبوه في الخليل تحديدًا، المحافظة التي يزعمون أنها الأكثر هدوءاً في الضفة، ليقولوا لأهل الخليل إن “هذا مصيركم إذا حاولتم تكرار تجارب جنين ونابلس وطولكرم”. فهل سيقبل الخلايلة والفلسطينيون بذلك؟
تُعرف الخليل بأنها أكثر المحافظات الفلسطينية التي يملك سكانها السلاح الحربي، خاصةً السلاح الموجود لدى العشائر. وعدد المستوطنين الموجودين في المحافظة، قد يكون الأكبر على مستوى الضفة المحتلة. يتحركون بين السكان بصورة طبيعية. حتى أن ضباطًا من جيش الاحتلال الإسرائيلي يشاركون في مآدب إفطار يقيمها “وجهاء” بعض العشائر في شهر رمضان المبارك. في الانتفاضة الثانية، احتاجت الخليل ٣ سنوات، لتنضم بشكل رسمي إلى الانتفاضة. لكن عندما تحركت الخليل كان الأمر أشبه بمارد وقد استيقظ.
الخليل وسكانها معروفون بنخوتهم وعقليتهم العشائرية. عند استهداف الشهيدة هديل الهشلمون عام ٢٠١٥ برصاص جنود الاحتلال على حاجز “الكونتينر”، وبعد خلع نقابها وانتشار صور ما جرى، ردت الخليل بسلسلة عمليات ثأرًا للشهيدة.
من المؤكد أن الخليل، وسائر الشعب الفلسطيني، لن يصمت بعد ما وقع على السيدات الفلسطينيات منذ أسبوع. فهذه الجريمة تجاوز للخطوط الحمر، ولعِب بالنار. جنود الاحتلال لم يعرّوا النساء الخمسة، بل عرّوا منظومة كاملة: أنظمة التطبيع التي تزعم أن اتفاقاتها مع كيان الاحتلال هدفها حماية حقوق الشعب الفلسطيني؛ السلطة الفلسطينية ورجالها ومسؤولي التنسيق الأمني فيها؛ وصولًا إلى متزعّمي بعض العشائر الذين ينسقّون مع الاحتلال ويحملون السلاح رافضين توجيهه إلى عدوّهم.
ما فعله الاحتلال في الخليل لا بد سيرتد على المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. هو تجاوز للخطوط الحمر ولعب بالنار. بداية الرد كان من عملية الطعن في باب الخليل في القدس المحتلة، وأدت إلى إصابة ٣ مستوطنين بجروح، يوم السادس من أيلول 2023، وقبلها بيوم واحد عملية الأغوار المسلحة.