تدور حرب حقيقية في الشرق الأوسط. بعد هجوم على إسرائيل باستخدام أسلحة بدائية، شنّت الأخيرة هجمات صاروخية ضخمة وقصفًا جويًا عنيفًا غطّى جنوب لبنان. ويبدو أن إسرائيل قررت التحول من كونها ضحية إلى أن تصبح جلادًا، إذ اتبعت حملة الإبادة ضد سكان غزة بحملة مماثلة ضد سكان لبنان. وهذا قد يؤدي إلى احتمال تورط دول ومجموعات شيعية أخرى في الصراع، بما فيها سوريا والعراق وجماعة الزيدية في اليمن، والأهم من ذلك، إيران. وفي مرحلة مقبلة، قد تنخرط دول سنية أيضًا في هذا الصراع. من الواضح أن إسرائيل تسعى إلى الحرب – حرب كبيرة، بلا رحمة، وحشية، وملحمية. ومثل هذا الصراع لن يبقى محليًا. التصعيد يلوح في الأفق، واحتمال استخدام الأسلحة النووية غير مستبعد، نظرًا إلى امتلاك إسرائيل لها واحتمال أن تحصل إيران عليها. ورغم أن مثل هذا الاستخدام سيقتصر على الأرجح على أسلحة نووية تكتيكية أو قنابل “قذرة”، لا تؤدي إلى دمار عالمي، إلا أن تداعياتها على المنطقة ستكون كارثية.
يمكن تفسير الحرب اللبنانية بعدة طرق، لكن هناك تفسيران أساسيان:
التفسير الأوّل: أخروي
من الضروري فهم ما تسعى إليه دولة إسرائيل. يمكن اعتبار التطرف الشديد لنتنياهو رد فعل نفسي على هجوم حماس على إسرائيل وأزمة الرهائن. إسرائيل لم تجد ردًا أفضل، وتصاعد الرد إلى حد الإبادة الجماعية. أُدين الذي ارتكبته حماس عالميًا، بينما أُدينت الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل ضد سكان غزة من قبل الجميع باستثناء الغرب الجماعي ومن يدور في فلكه. ومن المرجح أن تنطبق هذه المعايير المزدوجة على لبنان أيضًا. يقوم الغرب بحماية إسرائيل، تمامًا كما يفعل مع الطغمة النازية في أوكرانيا زيلينسكي. لا يوجد سبب للاعتقاد بأن هذا الموقف سيتغير، خصوصًا أن ترامب، رغم احتقاره لزيلينسكي، داعم قوي لإسرائيل.
لكن ما الذي يحاول نتنياهو تحقيقه بالضبط؟ الإجهاد النفسي وحده لا يوضح الأهداف الحقيقية التي لا تزال تتكشف لهذه الحرب. قبل الحرب في غزة، كان الوضع في إسرائيل مستقرًا نسبيًا. كان التهديد الرئيسي ديموغرافيًا: إسرائيل، المحاطة ببحر من العرب، لا تزال جيبًا إثنو-دينيًا صغيرًا، حتى مع ارتفاع معدلات المواليد بين كل من اليهود الأرثوذكس (الحريديم) والعائلات العلمانية. وهذا لا يزال غير ذي أهمية مقارنة بعدد الفلسطينيين في منطقتي الحكم الذاتي، وفي إسرائيل نفسها، وفي الدول العربية المجاورة التي ترتبط عرقيًا ودينيًا بالفلسطينيين. في مثل هذه الحالة، فإن تعزيز موقف إسرائيل في المنطقة، ناهيك عن استعمار الأراضي الفلسطينية بالمستوطنين الإسرائيليين، أمر مستحيل. واستمرار الوضع على ما هو عليه، سيؤدي في النهاية إلى اختفاء إسرائيل كدولة يهودية بسبب المؤشرات الديموغرافية.
بدت فكرة تطبيق المشروع الصهيوني اليميني لإسرائيل الكبرى، من البحر إلى البحر، غير واردة على الإطلاق. فهذه الأراضي ببساطة ليس لديها سكان يسكنونها أو يطورونها ، وتحيط بها كتلة عربية ضخمة.
رغم ذلك، بادر نتنياهو إلى أعمال عسكرية في غزة ووسعها لتشمل جنوب لبنان. في غزة، شهدنا إزاحة اللثام عن الهدف الحقيقي: الإبادة الجماعية الجسدية للفلسطينيين، مع تسفير موازٍ للناجين خارج حدود إسرائيل. وبقدر ما يبدو الأمر مروّعًا، فإن هذا منطقي بالنسبة لإسرائيل. بما أنها غير قادرة على تعديل ديموغرافيتها بشكل جذري، فإن الخيار الوحيد هو القضاء على السكان الذين يعيقون، بحكم وجودهم وهويتهم العرقية والدينية، تحقيق المشاريع الأخروية. مع ذلك، فإن مثل هذا المسار سيكون متهورًا وغير ممكن إذا لم تتوقع شيئًا غير عادي بعد هذا التوجه الحاسم. هذا الحدث الاستثنائي ليس “بجعة سوداء” بل حدث متوقع – مجيء المسيح. وفقًا للمعتقدات اليهودية ، قبل وصول المسيح (أو بعد وصوله في بعض التفسيرات، وهو ما يفسر موقف بعض اليهود الأرثوذكس المعادين للصهيونية)، يجب على اليهود العودة بشكل جماعي من الشتات إلى أرض الميعاد، وإعلان القدس عاصمة، ثم هدم المسجد الأقصى، ثاني أقدس موقع في الإسلام، لإقامة الهيكل الثالث مكانه. عند هذه النقطة، سيأتي المسيح، وستنحني له جميع أمم العالم، لأن قوته ستكون مطلقة. هذا يمثل إنشاء إمبراطورية يهودية عالمية، يحكم فيها اليهود، كشعب مختار، بقية الأمم بقبضة حديدية.
هذا هو تقريبًا البرنامج الذي يتبناه الصهاينة المتدينون في الدائرة المحيطة بنتنياهو، بما في ذلك إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، وقادتهم الروحيون الحاخام كوك، ومئير كاهانا، والحاخام المعاصر دوف ليئور. في هذا النموذج، تعتبر الإبادة الجماعية للفلسطينيين تأثيرًا جانبيًا غير مهم نظرًا للأهمية الأساسية للحدث القادم. يعتمد نتنياهو على هذه الفئة. بناء إسرائيل الكبرى والحروب الأخروية المصاحبة لها لا معنى لها إلا في سياق الشروط اللازمة لمجيء المسيح. وليس من قبيل المصادفة أن تطلق حماس على غزوتها الإرهابية اسم “طوفان الأقصى”. ومن الجدير بالذكر أيضًا أن بين المسلمين، فإن سيناريو هدم المسجد الأقصى والمعركة النهائية ضد الدجال (المسيح الدجال) على الأرض المقدسة موضوع شائع في أحاديث حول آخر الزمان.
بمعنى آخر، تتكشف معركة يوم القيامة (هرمجدون) حرفيًا في الشرق الأوسط – حرب آخر الزمان. هكذا يرى نتنياهو ومحيطه الأمر، وهذه أيضًا الطريقة التي يفهم بها بعض المسلمين المتدينين ذلك، وإن من طرف معاكس. بالطبع، الإسرائيليون العلمانيون، الذين يؤمنون فقط بالشواكل والراحة الشخصية، يتظاهرون ضد حكومتهم. وعلى نحو مماثل، فإن الأوساط العلمانية في الدول المسلمة – خصوصًا رجال الأعمال والشباب – لا يبالون بأي أحاديث أخروية. ولكن، كما نرى، التاريخ يقوده الآن أولئك الذين لديهم وعي حاد بنهاية الزمان والأحداث المرافقة لها.
التفسير الثاني: جيوسياسي
تسم عصرنا معضلة رئيسية: العالم الأحادي القطب، الخاضع للهيمنة الغربية، يرفض أن ينتهي، ويقاتل من أجل البقاء، في وقت يظهر عالم متعدد الأقطاب تؤكد كل حضارة فيه على سيادتها الكاملة، مما يؤدي إلى صراع ضد الهيمنة الغربية. الجبهة الأولى في هذه الحرب هي أوكرانيا، حيث تشن حكومة كييف النازية التي تم تأسيسها وتسليحها ودعمها من قبل الغرب الجماعي، حربًا ضد روسيا السيّدة، وهي قطب رئيسي في العالم المتعدد الأقطاب ورائدة في النضال ضد الهيمنة. الغرب الذي يقاتل روسيا من خلال وكلاء، يستعد للانخراط مباشرة ضدها.
في هذا السياق، يشكل الشرق الأوسط مسرحًا آخر للحرب نفسها: الأحادية القطبية مقابل التعددية القطبية. بالنسبة إلى نتنياهو والصهاينة الأخرويين، فإن إسرائيل ومصير الشعب اليهودي محوران مركزيان مرتبطان بظهور المسيح المخلّص. لكن بالنسبة إلى العولميين الغربيين، إسرائيل مجرد أداة في الصراع للحفاظ على هيمنتهم العالمية. يُنظر إلى العالم الإسلامي، الذي يرفض القيم الليبرالية، كحضارة معادية، يتم جر الغرب تدريجيًا إلى حرب معها. في هذا الصراع، يُعتبر المسلمون الشيعة الطليعة الفكرية للحضارة الإسلامية، لذا فإن القوة الغربية تستهدفهم بشكل أساسي. من خلال إسرائيل، يأمل الغرب في توجيه ضربة ضد قطب آخر من العالم المتعدد الأقطاب – الإسلام. وتعمل واشنطن الآن على عجل على تعزيز تحالفها مع أتباعها السنة، خصوصًا الإمارات العربية المتحدة. قد لا تؤمن واشنطن بالمسيح الدجّال (رغم أنه لا أحد يدري)، لكن استخدام الصهيونية العسكرية ومشروع إسرائيل الكبرى لفتح جبهة ضد الحضارة الإسلامية هو هدف واضح للعولميين.
بعدها سيأتي دور تايوان، وصراع مع قطب آخر من العالم المتعدد الأقطاب – الصين. مرة أخرى، سيعتمد الغرب الجماعي على وكلاء إقليميين – تايوان، اليابان، وكوريا الجنوبية – وسيحاول جذب الهند إلى هذا التحالف. مع ذلك، فإن الهند هي أيضًا قطب من أقطاب التعددية. ومن أجل كبح حركة دلهي نحو مناهضة الاستعمار المعادي للغرب وزيادة وتحقيق المزيد من السيادة ، دعم الغرب مؤخرًا ثورة ملونة ضد الحكومة الموالية للهند في بنغلادش بقيادة الشيخة حسينة. من الواضح أن هناك جبهات أخرى من هذه الحرب نفسها يجري إعدادها – في إفريقيا، وأميركا اللاتينية، ومناطق مختلفة من العالم الإسلامي. سيتحدّد مصير النظام العالمي المستقبلي على جميع هذه الجبهات: هل يحافظ الغرب على هيمنته، أم أن العالم المتعدد الأقطاب سيصبح حقيقة واقعة، مع تراجع الغرب ليكون مجرد واحدة من عدة حضارات – مع الاحتفاظ برأي مسموع، ولكن مُجرّدًا من مكانته كقوة مهيمنة أو قائدة؟
لكن في الوقت الحالي، نحن في المرحلة الثانية – على حافة حرب كبيرة في الشرق الأوسط.
قبل أن نقرر كيفية التعامل مع هذه الجبهة الثانية في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الأوسع في العالم، يجب أن نفهم بوضوح أهداف اللاعبين الرئيسيين في هذا الصراع، وأن نتجنب الأوهام الكاذبة حول الدوافع العقلانية والدينية الغامضة للفاعلين الرئيسيين. اليوم، نحتاج إلى الواقعية الجيوسياسية – تقييم هادئ ومتوازن لجميع العوامل الأساسية في هذا الوضع المعقد الذي نجد أنفسنا فيه نحن والبشرية جمعاء. يجب وضع العواطف جانبًا لصالح تقييم بارد للأحداث الجارية، بما في ذلك الأبعاد التي لم نعتد على أخذها في الاعتبار خلال العصرين السوفياتي والليبرالي في روسيا. سابقًا، كانت كل الأمور تُفسر من خلال الأيديولوجية والاقتصاد والطاقة والمعركة من أجل الموارد. في حين أن هذه العوامل لا تزال موجودة، إلا أنها لم تعد الأكثر أهمية. والأهم من ذلك بكثير هي الاعتبارات ذات الطبيعة الأخروية والحضارية والجيوسياسية العالمية. لقد أمضينا وقتًا طويلًا في التركيز على المعرفة المادية، وإهمال عالم الأفكار، فيما الأفكار هي التي تحرك العالم.