فكرة هذه المقالة، جاءت من سلسلة من اللقاءات مع بعض الأصدقاء، عُقدت في أثناء حرب الإبادة الصهيونية المستمرة على قطاع غزة، عندما دار النقاش بشأن موقف الولايات المتحدة الأمريكية من “إسرائيل”. فثمة من يَعزوها إلى قوة اللوبي اليهودي وضعف الإدارة الأمريكية، وهي “من أكثر الأفكار شيوعًا في السياسة الأمريكية؛ أن اليهود لهم تأثير هائل على السياسة الخارجية الأمريكية، فيرى البعض أن “اليهود الأمريكيين” يسيطرون على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على حساب المصلحة القومية. ويمثل هذا الاتجاه الفكري السيناتور جيمس أبو رزق الذي أطلق على اللوبي الإسرائيلي اسم (أقوى تأثير على السياسة الأمريكية اليوم). أمثال هذا الناقد يوجهون اتهامًا بأن اليهود الأمريكيين لهم تأثير قوي، والحقيقة أن اللوبي الإسرائيلي ليست لديه القدرة على التأثير على القرارات الكبرى للسياسة الخارجية، وتقتصر قدرته على التأثير على بعض السياسات التي تخدم إسرائيل. وكثير من الناس يعرفون ما لجماعات الضغط من تأثير في مجال الأعمال، وعادة ما تستأجر هذه الجماعات شخصًا أو عدة أشخاص يسعون إلى إقناع الحكومة بتأييد مصالحهم، واليهود الأمريكيون يمثلهم هذا النوع من الناس ممن يبذلون مجهودات مباشرة للتأثير على أصحاب القرار، إلا أن هناك جهودًا أخرى أقل شانًا تُبذل للتأثير على رجال السياسة”.([1])
يتساءل إدوارد تيفنان: “ماذا يعني أن تكون إحدى جماعات الضغط على جانب من القوة، داخل نظام سياسي يعتمد أساسًا على تبادل الآراء فيما بين أعضاء المجلس التشريعي، عندما يتعرضون لمناقشة مصالح أمريكا الخاصة، بنفس الدرجة التي يتجادلون فيها حول الوثيقة الاتحادية لـ(الشعب الأمريكي)، التي تنص على أن لكل جماعة حزبية دورًا أساسيًا في النظام الدستوري للولايات المتحدة الأمريكية؟ أليس هذا هو الدور المطلوب من جماعات الضغط أن تقوم به.. وهو التأثير في مجرى السياسة؟ هل جماعة الضغط اليهودية هي الأكثر قوة بالقياس لجماعات الضغط الأخرى؟ كيف استطاعت مجموعة من البشر لا يتجاوز أفرادها 6 مليون أمريكي أن تصل إلى هذا الحد من التأثير السياسي؟”.([2])
لقد نجح اليهود أكثر من أية جماعة أخرى من مهاجري القرن العشرين، في الاندماج في المجتمع الأمريكي. يقول عالم الاجتماع ستيفن م. كوهن، الأستاذ المشارك في علم الاجتماع بكلية كوينز في جامعة نيويورك الحكومية ومركز الدراسات اليهودية الحديثة بجامعة برانديس، في دراسة له بعنوان “الحداثة الأمريكية والانتماء إلى اليهودية”: “إن السرعة العجيبة التي استطاع بها معظم اليهود الأمريكيين بلغ مكانة اجتماعية، توازي مكانة الطبقة الوسطى ــ إن لم نقل العليا ــ خلال السنوات المئة الأخيرة، قد جرى توثيقها بصورة مدققة. وفي تقدير المراقبين أن جميع اليهود ممن هم في سن التعليم الجامعي ملتحقون بالجامعات، وأنهم أخذوا منذ سنة 1920 ــ هذا إذا لم يكن قبل ذلك ــ ينتمون إلى المهن بأعداد تفوق كثيرًا نسبتهم السكانية، وأن الرخاء الذي ينعمون به يعادل إن لم يفق نظيره عند الأسقفيين الذين يعتبرون أكثر الطوائف الدينية ثراء، ويفوق نظائره عند الفئات العرقية الأمريكية الأخرى. وعلى الرغم من كثرة أعداد يهود المدن الفقراء، فإن المركز الإجمالي المرتفع لمعدل ما حققه اليهود بحسب المقاييس العامة للمكانة الاجتماعية، ليس موضوع جدل. والحقيقة هي أن آخر الأبحاث يذكر أنهم خلال السنوات العشر الأخيرة واصلوا تقدمهم، وحصلوا على أرفع المراكز في المجتمع فصاروا أعضاء في مجلس الشيوخ، ورؤساء شركات، ورؤساء جامعات تنتمي إلى رابطة آيفي (Ivy League) [وتضم عددًا من أقدم الجامعات شرق الولايات المتحدة ــ المحرر] وكليات مهنية”.([3])
ثمة من يَعزوها إلى أن الولايات المتحدة قد دعمت “إسرائيل” بسبب تقارب مصالحهم في المنطقة. يشير أصحاب نظرية التقارب إلى ما توفره “إسرائيل” من “فيض هائل من السيطرة الاستراتيجية، كما أنها أحد أعظم الجوائز المادية في تاريخ العالم”.([4]) فقد استطاع اللوبي الإسرائيلي “إقناع الأمريكيين بأن المصالح الأمريكية والإسرائيلية متماهية من حيث الجوهر”.([5])
فهل مصالح الولايات المتحدة الأمريكية هي نفسها مصالح “إسرائيل”؟ هل يستطيع اليهود الأمريكيون أن يدعموا “إسرائيل”، وأن يعارضوا سياسات معينة لحكومتها في الوقت نفسه؟
واشنطن أسيرة في قفص “الكتاب المقدس”
قبل أن تصبح “إسرائيل” واقعًا كدولة وُجدت كجماعة دينية ـ سياسية ــ اقتصادية أولًا في عدد من العواصم الأوروبية وبعدها في واشنطن. فقد شكل “الكتاب المقدس العمود الفقري للعقل السياسي في نسخته الأمريكية؛ وساهم إلى درجة كبيرة، في صنع الرأي العام الأمريكي، وثقافته، وسياسته، تجاه محددات الصراع، وموقفه من العدو الصهيوني. فقد شرعت أمريكا عقب اكتشاف كولومبس لها، سنة 1492، تطبق النصوص الحرفية للكتاب المقدس، بحملاتها التوسعية في القارة الجديدة، وبدأ تأسيس أمريكا، في التنميط البروتستانتي، هي المعادل لـ(بني إسرائيل)، فتتحول الولايات المتحدة إلى (أورشليم الجديدة)، حيث أخذت الرموز التوراتية تهيمن على الحياة الأمريكية. وفي بداية القرن الثامن عشر سيطر على العقل الأمريكي، فكرة أن المجيء الثاني للمسيح، رهينة بإعادة اليهود إلى فلسطين، تلتها مرحلة استكشاف فلسطين، والسير على خطى (بني إسرائيل) المُتخيلة. وانطلقت جماعات أمريكية، في القرن التاسع عشر، إلى الأراضي المقدسة لإنشاء مستوطنات، في سبيل التعجيل بالمجيء الثاني للمسيح، وفي هذا الوقت، تصاعد نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية مهمتها، بالهيمنة على العالم”.([6])
لقد برزت في النصف الأول من القرن العشرين، جمعيات وقساوسة ومؤسسات ورجالات، من أجل العمل على تجسيد الإيمان بالصهيونية وتحويله إلى نشاط فعلي، عدة منظمات وجمعيات ومؤسسات فيدراليات ولجان… وكلها تقحم فلسطين في أسمائها المسيحية ــ اليهودية، وقد شارك في عضوية هذه المنظمات والهيئات المنبثقة عنها، قيادات دينية بروتستانتية ومسؤولين حكوميين وصحفيين ورجال أعمال.
في ثلاثينيات القرن العشرين، ازداد عدد الجمعيات الأمريكية، المؤيدة لإقامة دولة يهودية في فلسطين، وكان هدفها حشد الرأي العام الأمريكي، من أجل تحقيق الأهداف الصهيونية في فلسطين. وأشرف على جميع هذه المنظمات شخصيات معروفة، ضمت رجال دين، ومدرسين، وسياسيين، وكانت، في معظمها، تنسق جهودها مع “المنظمة الأمريكية الصهيونية”.
ومنذ أربعينيات القرن العشرين، وحتى أواسط ستينياته، فقد تأسست مؤسسات أمريكية صهيونية ضمّت منظمات ومجالس ولجان مثل “منظمة النداء اليهودي الموحد”، و”اتحاد الشباب الصهيوني الأمريكي”، و”مجلس الشباب المشترك”، و”لجنة التضامن اليهودي ــ الأمريكي”، و”الكونغرس الأمريكي ــ اليهودي”.([7])
نجح يهود أمريكا في تأسيس حشد لافت للنظر من المنظمات للتأثير في سياسة أمريكا الخارجية، لعل “الآيباك” (AIPAC)، “اللجنة الأمريكية الإسرائيلية”، أقواها وأشهرها، وتمثل المصالح الإسرائيلية لدى الكونجرس الأمريكي منذ إنشائها خمسينيات القرن العشرين.
في 1997، طلبت مجلة “فورتشن” من أعضاء الكونجرس وموظفيهم إدراج اللوبيات الأقوى في واشنطن. احتلت “آيباك” المرتبة الثانية بعد “الرابطة الأمريكية للمتقاعدين” (الآرب / AARP)، غير أنها جاءت قبل لوبيات ذات أوزان ثقيلة مثل “الأفل ــ سيو” (AFL- CIO) و”رابط البندقية”.
ثمة دراسة نشرتها مجلة “ناشيونال جورنال”، في آذار/ مارس 2004، توصلت إلى خلاصة مماثلة إذ حلّت “آيباك” في المرتبة الثانية (بالارتباط مع “الآرب”) على “مُدرَّج عضلات” واشنطن. ([8])
في أسباب التحيز الأمريكي لـ”إسرائيل”
إنه وبالرغم من كثرة الحديث المتذمر في أنحاء متفرقة من العالم، ولا سيما في الكتابات العربية، عن مسألة التأثير اليهودي في صنع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وهل هو موجود أو غير موجود؟ فإن ما كتب عن هذه النقطة يثير الدهشة، حيث اتضح لي أن معظم الكتابات تحوم بحذر لاستكشاف آثار “الصوت الانتخابي اليهودي”، و”المال اليهودي” على السياسات الأمريكية. كما اكتشفت أيضًا أن العمل الدبلوماسي والدعايات السياسية حول “الشرق الأوسط” تتضمن إشارات عابرة عن انعكاسات ما يجري فوق أرضه على سياسة أمريكا الداخلية. وسرعان ما ينتقل منها إلى قضايا أخرى. وتأكد لي أن القليل مما كُتب حول جماعة الضغط اليهودية كان متحيزًا إذا نظرنا إليه من وجهة النظر الإسرائيلية أو وجهة النظر العربية، بل يمكننى القول إنني وجدت بعض الكتّاب ممن ينكر أصلًا وجود مثل هذه الجماعة الضاغطة.
تبني هذه الدراسات تحليلاتها على التنظيم، والوسائل التي يلجأ إليها اللوبي الصهيوني، لممارسة ضغوطه على عملية صنع القرار الأمريكي، ولكنها تغفل الطريقة التي تتغلغل فيها المواقف الموالية للصهيونية في الثقافة الأمريكية، لتجعل السياسة الأمريكية تتكيَّف مع المتطلبات الصهيونية. ([9]) و”بذا يصبح الدعم الأمريكي ، السخي، والمستمر لإسرائيل أمرًا يتم، رغمًا عن إرادة الولايات المتحدة وضد رغبتها، وتصبح هذه القوة العظمى الباطشة مجرد ضحية للنفوذ اليهودي، وألعوبة في يد الصهيونية، التي لا تُقهر. وهو يُحسِّن صورتها أمام زبائنها العرب”. ([10]) من هنا، “فالنظم العربية تستفيد من أسطورة اللوبي اليهودي، والصهيوني. فهي تبرِّر الهزيمة العربية، إذ تجعلها شيئًا متوقعًا”. ([11])
قد يكون من المفيد فحص تحليل نعوم تشومسكي للعلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”. يؤطر تشومسكي تحليله لـ”العوامل السببية” الكامنة وراء هذه العلاقة الخاصة كخيار أساسي بين “مجموعات الضغط المحلية” و”المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة”، ويحدد وجهين من أوجه القصور في الحجة القائلة بأن “الجالية اليهودية الأمريكية” هي البطل الرئيسي في العلاقة الخاصة بين “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية. فأولًا، يرى تشومسكي أن هذا القول يضيق من مجال مفهوم “دعم إسرائيل”، وثانيًا، يبالغ في تقدير دور مجموعات الضغط السياسي في صنع القرار، حيث يشير تشومسكي إلى أن اللوبي الإسرائيلي “أوسع بكثير” من الجالية اليهودية، فهو يضم الليبراليين، والقادة العماليين، والأصوليين المسيحيين، والمحافظين، والمتحمسين من جميع الأطياف. ([12])
يضم اللوبي أيضًا شخصيات إنجيلية مسيحية مرموقة [إيفانجيليكان] مثل: غاري باور، جيري فالول، رالف ريد، وبات روبرتسون، جنبًا إلى جنب مع ديك آرمي، وتوم ديلي، زعيمي الأغلبية السابقين في الكونجرس؛ يؤمن بأن انبعاث “إسرائيل” من جديد إن هو إلا نبوءة توراتية، يؤيدون برنامجها التوسعي، ويعتقدون بأن ممارسة الضغط على “إسرائيل” متناقض مع مشيئة الرب. يضاف إلى ذلك أن عضوية اللوبي تشتمل على محافظين جدد من غير اليهود مثل جون بولتون، ورئيس تحرير “وول ستريت جورنال” الراحل روبرت بارتلي، وزير التعليم السابق وليام بنت، وسفيرة الولايات المتحدة السابقة في الأمم المتحدة جين كيركباتريك، والمعلق الصحفي المعروف جورج ويل.([13])
برغم أن المجموعات والأفراد الذين يشكلون اللوبي الإسرائيلي، هم في موقع مميز في شكل استثنائي للتأثير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وما يميزه، باختصار، هو فعاليته الاستثنائية.
تتابع المجموعات والأفراد الذين يشكّلون اللوبي، استراتيجيتين شاملتين للتشجيع على الدعم الأمريكي الثابت لـ”إسرائيل”. فهم يمارسون، أولًا، نفوذًا كبيرًا على عملية صناعة السياسة في واشنطن. وتذهب هذه المنظمات، ثانيًا، بعيدًا لضمان أن الخطاب العام حول “إسرائيل” مؤات، ويردّد صدى السند العقلاني الاستراتيجي والأخلاقي. ([14]) وتقوم، بذلك، عناصره المتنوعة بإعادة التأكيد مرارًا وتكرارًا على قيمة “إسرائيل” الاستراتيجية، من خلال تكرار روايات أحادية الجانب حول “إسرائيل” وإنشائها، ومن خلال الدفاع عن ممارسات “إسرائيل” في النقاشات السياسية، والهدف هو إقناع العامة بأن مصالح أمريكا و”إسرائيل” وقيمهما. ([15])
خلال نصف القرن التالي أصبحت “إسرائيل” والولايات المتحدة مرتبطتين على نحو أعمق بـ”علاقة خاصة”، شديدة التعقيد، كان بعض المراقبين يشبهونها بتحالف متين غير رسمي، وآخرون بزواج عرفي غير مستقر. وبالرغم من أن واشنطن جعلت العلاقات رسمية بفتح سفارة في تل أبيب عاصمة “إسرائيل” الإدارية في 1949، فإن شهر العسل بين الحكومتين كان قصيرًا، إدارة ترومان اشتبكت مرارًا وتكرارًا، مع رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون، حول طموحات “إسرائيل” الإقليمية، وكاد وايت إيزنهاور أن يفرض عقوبات على الدولة اليهودية، في أعقاب أزمة السويس. وفي أواخر الخمسينيات، على أية حال، جعلت رغبة مشتركة في احتواء القومية العربية “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية تتقاربان. وتسارعت تلك العملية في أعقاب انتقال جون إف. كينيدى إلى البيت الأبيض 1961. دعم الولايات المتحدة، العسكري والدبلوماسي، للدولة اليهودية أثناء سنوات جونسون ونيكسون أقنع كثيرين في “مين ستريت” و”كابيتول هيل” بأن “إسرائيل” بمثابة أصل استراتيجي ثابت لأمريكا في السبعينيات، بعد برود في عهدي فورد وكارتر، ودفء في عهد ريغان، ثم برود مرة أخرى في أوائل التسعينيات، فإن هذه “العلاقة الخاصة” بين “إسرائيل” والولايات المتحدة، كانت تبدو راسخة في عهد كلينتون، وبخاصة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية.([16])
بغض النظر عن الخلافات الأمريكية ــ الإسرائيلية في عدة محطات، فإن القاعدة التي تحكم السلوك الأمريكي تجاه “إسرائيل”، هي طالما “إسرائيل” في حرب فالولايات المتحدة ستستمر في دعمها لا سيما في الجانب التسليحي والأمني والعسكري والاستخباراتي والدبلوماسي.
حرب الإبادة على قطاع غزة
لا يمكن، في النهاية، أن يعثر المرء على تبرير عقلاني استراتيجي أو أخلاقي دامغ حول لماذا وفرت الولايات المتحدة مساندة لا تني لـ”إسرائيل”، بينما انتقدت بقية العالم بقسوة سلوك جيشها في قطاع غزة. في الواقع، لعب اللوبي دورًا حاسمًا في إبقاء الولايات المتحدة منحازة إلى “إسرائيل” بقوة خلال حرب الإبادة المستمرة، بالرغم من الأثمان الاستراتيجية، وما استوجب ذلك من موقف أخلاقي مريب.
الحقيقة لا يوجد للتأييد المُطلق لـ”إسرائيل” في حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة مثيل في تاريخ السياسة الأمريكية على امتداده. فلماذا كانت الولايات المتحدة مستعدة للتضحية بمقتضيات أمنها من أجل “إسرائيل”؟
ربما افترض أحد أن العلاقة بين البلدين قامت على أساس المصالح الاستراتيجية المشتركة، أو على أساس الالتزام بالقواعد الأخلاقية؛ لكن لا يمكن لأي من التفسيرين أن يبرر هذا المستوى من الدعم المادي والعسكري والدبلوماسي الذي توفره أمريكا لـ”إسرائيل”. ما نود تأكيده هنا أن السلوك الأمريكي تجاه حرب الإبادة على قطاع غزة، إنما هو نتيجة عملية مركبة تدخل فيها عناصر عدة: الدين وعالم رموز “الكتاب المقدس”، والذاكرة التاريخية – أن إنشاء أمريكا، وتاريخها، لم يكن إلا تأسّيًا بفكرة “إسرائيل” التاريخية. وإن لم يكن الأمر على هذا النحو، فكيف نفسِّر مشاركة الولايات المتحدة في حرب الإبادة المستمرة.
مكانة إسرائيل ليست موضوعًا تقليديًا من موضوعات السياسة الخارجية الأمريكية. فـ”إسرائيل” والشعب اليهودي هما، في نظر أغلبية الجمهوروالمشرّعين في الولايات المتحدة (عقب اكتشاف كولومبس لها ، سنة 1492)، موضوع خاص تمتزج فيه جوانب داخلية عاطفية وثقافية وتاريخية ودينية وسياسية.
ينظر الجمهور الأمريكي ومشرّعوه إلى “إسرائيل” كدولة متماثلة مع قيم المجتمع الأمريكي: التقاليد، والتاريخ، والقيم اليهودية ــ المسيحية، والديمقراطية، والوطنية، والعائلة، والصمود في مواجهة التحديات، والاستعداد للنضال من أجل مبادئ محاربة الإرهاب ومن أجل الأمن.
إن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأمريكي لـ”إسرائيل”، يجد أساسه في “الثقافة الأمريكية، والتي توصف بأنها ثقافة يهوــ مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية، لليهودية والمسيحية، أي التراث اليهودي المسيحي، الأمر الذي تُرجم، في النهاية، إلى معنى سياسي، هو توافق القيم الأمريكية والإسرائيلية”.([17])
لفلسطين لدى الرؤساء الأمريكيين شأن آخر، فهي ليست مجرد “استراتيجيا”، أو اقتصاد، أو “مجال حيوي”؛ وبالتأكيد، فهي ليست بسياسة خارجية، إلا في الإطار البيروقراطي. فطالما أن إنشاء أمريكا، وتاريخها، لم يكن إلا تأسّيًا بفكرة “إسرائيل” التاريخية، فالأمريكيون ورؤساؤهم، على اختلاف مذاهبهم، ومشاربهم، لا يتفقون على شيء، كاتفاقهم على المشروع الصهيوني، الذي يشربه الأمريكيون مع حليب أمهاتهم، ثقافيًا، وتاريخيًا، وتربويًا، وإعلاميًا، ودينيًا، ومثلًا أخلاقيًا أعلى.([18])
ليس هناك من رئيس، أو إدارة، أو مؤسسة أمريكية حاكمة، تستطيع أن تتحدى هذه الثوابت. فلسطين ليست كوريا، أو فيتنام، أو أفغانستان، أو الفلبين. فلسطين هي الرحم الذي ولّد منه الغرب اصطلاحًا ومفهومًا، مقابل العالم العربي الإسلامي حضاريًا وجيوسياسيًا. فلسطين، والقدس تحديدًا، هي الشرارة التي أشعلت نار المواجهة التي أجّجها الغرب على مدى السنوات الألف الماضية.
لا يمكن فهم قضية فلسطين بمعزل عن المواجهة مع الغرب، الذي تجسِّده، اليوم، أمريكا، وقُفّتها البريطانية. بدون فلسطين، والقدس على وجه التحديد، لن يكون هناك غرب وشرق. فباسم احتلال فلسطين، صنع البريطانيون أمريكا، وصاغوا فكرة أمريكا، وباسم هذه الاستعارة، خَلَقوا سكان قارتين كاملتين، وأبادوا ملايين البشر، في البقعة التي تُسمى، اليوم، الولايات المتحدة الأمريكية، كما فعلوا ذلك في أستراليا، ونيوزيلندا، ومئات الجزر، التي استعمروها. ([19])
يبدو القول بوجود دور قوي وفعال للعامل الديني في السياسة الأمريكية، في أوائل القرن الحادي والعشرين، ضربًا من الخيال! “غير أن ذلك يسقط من الاعتبار، الحقيقة الماثلة في أن قادة المجتمع الأمريكي السياسيين والروحانيين على السواء، عنوا بأن يتخذوا مواقفهم منذ نشأة جمهوريتهم وحتى الآن، على قمة متاحة من الأرض الأخلاقية العالية، مستمدين باستمرار السند والمبرر لكل تصرف أمريكي في شؤون أمريكا والعالم من الدين والأخلاقيات العليا، ومسبغين على أنفسهم وبلدهم عباءة الاضطلاع بعبء رسالة حملت العناية الإلهية ذاتها، الأمة الأمريكية بها لصالح البشر جميعًا”.([20])
[1]() تشارلز كجلى ويوجين ويتكوف، السياسة الخارجية الأمريكية ومصادرها الداخلية (رؤى وشواهد)، ط1، ترجمة: عبد الوهاب علوب، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2004، ص (108- 109).
[2]() إدوارد تيفنان، السياسة الخارجية الأمريكية ومصادرها الداخلية (رؤى وشواهد)، ط1، ترجمة: حسن عبد ربه المصرى، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2003، ص 16.
[3]() لي أوبْرَين، المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطها في دعم إسرائيل، ط1، ترجمة: جماعة من الأساتذة بأشراف ومراجعة د. محمود زايد، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1986، ص (9- 10).
[4]() محمد شهيد عَلَم، الاستثنائية الإسرائيلية: منطق الصهيونية الهدام، ترجمة: مصطفي هندي، ط1،
مؤسسة دراسات تكوين للنشر والتوزيع، السعودية ـ الدمام، 2021، ص 357.
[5]() جون جي. ميرشهايمر وستفن إم. وولت، أمريكا المختطفة: اللوبى الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية، ط1، ترجمةفاضل جتكر، مكتبة العبيكان، الرياض، 2006، ص 12.
[6]() أحمد الدبش، فلسطين في العقل الأمريكي (1492 ــ 1948)، ط1، صفحات للدراسات والنشر،
دمشق، 2021.
[7]() لمزيد من التفاصيل حول الجمعيات الأمريكية، المؤيدة لإقامة دولة يهودية في فلسطين يُراجع:
- لي أوبْرَين، المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطها في دعم إسرائيل، ط1، ترجمة: جماعة من الأساتذة بأشراف ومراجعة د. محمود زايد، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1986.
- د. عبد الوهاب محمد المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد السادس، ط1، القاهرة، دار الشروق، 1999.
- أحمد الدبش، فلسطين في العقل الأمريكي (1492 ــ 1948)، ط1، صفحات للدراسات والنشر، دمشق، 2021.
- جانيس ج. تيري، السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط: دور جماعات الضغط والمجموعات ذات الاهتمامات الخاصة، ط1، ترجمة: حسان البستاني، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2006.
[8]() جون جي. ميرشهايمر وستفن إم. وولت، مرجع سبق ذكره، ص 59.
[9]() ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ الغربى، ترجمه أحمد عبدالعزيز، سلسلة “عالم المعرفة”، الكويت، 1985، ص (18- 19).
[10]() عبد الوهاب المسيري، اليد الخفية: دراسات في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، دار الشروق، القاهرة، 1998، ص 279.
[11]() المسيري، مرجع سبق ذكره، ص 279.
[12]()عَلَم، مرجع سبق ذكره، ص 358.
[13]() جون جي. ميرسهايمر وستفن إم. وولت، مرجع سبق ذكره، ص 60.
[14]() جون جي. ميرسهايمر وستفن إم. وولت، مرجع سبق ذكره، ص 227.
[15]() المرجع نفسه، ص 253.
[16]() دوجلاس ليتل، الاستشراق الأمريكى: الولايات المتحدة والشرق الأوسط منذ 1945، ترجمة: طلعت
الشايب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009، ص (162- 163).
[17]() رضا هلال، المسيح اليهودي ونهاية العالم، ط3، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2004، ص 11.
[18]() منير العكش، أميركا والإبادات الجنسية، ،ط1، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2012،
ص (100- 101).
[19]() المرجع نفسه، ص 104.
[20]() شفيق مقار، المسيحية والتوراة، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1992، ص 323.