ثمة رجلان من الحياة الفلسطينية، ومن كتّاب فلسطين تحديدًا، وضعا السؤال الفلسطينيّ الذي يهوي على الوجود فيصيبه في مقتل. ثاني الرجلَين كان تلميذًا للأوّل في مدرسة الأليانس (دير ياسين في ذلك الوقت) في دمشق سنة ١٩٥٦، وثاني الرجلَين أيضًا كان أستاذي سنة ٢٠١٩ في دمشق. الرجل الأول هو الشهيد غسان كنفاني، أمّا الرجل الثاني فهو الراحل حسن سامي يوسف.
أمّا سؤالهما فواحد، لكن كل منهما وضعه بطريقته، إذ كان كنفاني قد وضعه في مقالة غير معروفة له تحت عنوان “فضول طفل أم قدر رجل” (بيروت 1967)، فيما وضعه حسن سامي يوسف في روايته الأولى “الفلسطيني” الصادرة عن دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، سنة 1988. والسؤال بصيغتيه المختلفتين يجيء على هذا النحو:
“أأنا فلسطينيٌّ أيضًا”
“لماذا نحن فلسطينيّون”.
وغسان يجيب عن سؤاله الأول بعد طرحه مباشرةً بأن “نعم”، لأنّ السؤال ليس “لماذا”، بل: هو إلحاقٌ للفرد بالجماعة. فالطفل رأى “عار الفرار” ورأى الرصاص ينفد، وعاش اللجوء، وحين وصل صيدا في العصر صار “لاجئًا”. وربما يكون سؤاله في مرحلة الإنكار ممّا تمرّ به النفس الفلسطينيّة، وسرعان ما تجاوز إنكاره إلى الغضب، ثم المساومة، ثم الاكتئاب، وأخيرًا القبول. لكن ذلك حدث سريعًا مع كنفاني، فيما لم يُحسم إطلاقًا في رواية “الفلسطيني”. لأنّ السؤال أعقد، أضخم، وليس ثمة جواب عليه غير أنها “مشيئة الله”. وعيسى، أي بطل رواية “الفلسطيني”، لا يريد جوابًا من قبيل “تلك مشيئة الله فاقبلها”.
كما أنّ عيسى، حتى في الرواية، مثله مثل حسن سامي يوسف: كان تلميذًا لغسان كنفاني في مدرسة الأليانس (دير ياسين) في دمشق سنة 1956. ما يعني أن يكون سؤال الطالب الفلسطينيّ، مماثلًا لسؤال أستاذه الفلسطينيّ “الذي كان يدرّسنا فلسطين”، أمر مفهوم تمامًا.
مراحل الحزن الفلسطينيّ الخمسة
نموذج كيوبلر روس المُسمّى بمراحل الحزن الخمسة: “الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، القبول”، والذي يُقال إنه يمر بالترتيب في أحيانٍ كثيرة، غير متحقّق بالنسبة لعيسى، بطل “الفلسطينيّ”. فالرجل يمرّ بالمراحل جميعها في وقتٍ واحد، وسرعان ما يختلط بعضها ببعض، فينكر ويقبل في آن، ويغضب ويساوم ويكتئب في آن. أي: ينكر فلسطينيّته ولكنه يقبلها، يغضب ويحزن منها ولكنه يريد فعلَ شيءٍ ما حيالها. فما الذي يملكه سوى الجسد؟ يرمي جسده في الحروب الكثيرة التي خاضها الفلسطينيون ضدّ إسرائيل، كان آخرها بالنسبة لعيسى حرب سنة 1982.
وإذا ما كان نموذج كوبلر روس مخصصًا كمراحل للفقدان أو الخسارات الجسيمة، فإنّ المأساة الفلسطينيّة، ممثلةً بالنكبة، أو بضياع فلسطين، هي التي تبدأ منها المراحل. ما يلي ذلك هو الذي يصنع المراحل المتبقيّة كلها.
أما النكبة، كما يرويها عيسى بطل الرواية، فهي على هذا النحو:
“جاءت الطائرات، ذات ليلة، وألقت قنابلها فوق البيوت. كانت الانفجارات تسرق الهواء من رئتي، وكانت يدي اليسرى تمسك بطرف ثوب أمي، بينما يدي اليمنى تمسك بشيءٍ وضعته على رأسي، ربما كان لحافي الصغير أو وسادتي الصغيرة. وكان حشدٌ من الأطفال والنساء يهرع إلى خارج القرية. وكان رعبٌ… هذا هو وطني، فبعد الرعب كان قطار وكان لاجئون. أما اللاجئون فلا شك في أنهم أبناء فلسطين. أما القطار فلا أعرف هويته ولا أعرف في أية أرض كان يتدحرج. في لبنان؟ في سورية؟ في الأردن؟ لا أعرف. ومع القطار يبدأ الحد الفاصل بين الزمنين الفلسطينيين: زمن الوطن، وزمن الشتات”.
وحطّ القطار بعيسى في ثكنة “ويفل” في بعلبك اللبنانية، أين كانت إقامته مع أسرته؟ في واحد من الإسطبلات. وفلسطين راحت وأعطوا الفلسطينيين بدلًا منها خيشًا ومخيمات واسطبلات. ترى ما الحدث المؤسِّس الذي يمكن أن يكون قد وقع كي يحاول عيسى طوال حياته “أن لا يكون فلسطينيًا”؟
كما يروي، فقد تعرض المخيم لعقوبة من الدرك، إذ جُمِع كل رجال المخيم على مرأى من نسائهم وأطفالهم، في صفين متقابلين، العقوبة كانت كالتالي: كل رجل يبصق في وجه الرجل الذي يقف قبالته حتى لو كان أخاه أو أباه. ثم يحدث العكس. كل رجل يصفع الرجل الذي قبالته ثم يحدث العكس. خليل، ابن الرجل الأعمى أبي خليل، رفض أن يبصق في وجه أبيه، فأخذوه من المخيم ولم يرجعوا به أبدًا. أمّا أحمد، ابن أبي أحمد الجزار، فقد بصق في وجه أبيه بأمرٍ منه، لكنه في الصباح كان قد مات حزنًا، وفقد الأب عقله.
إنّ الاسطبل، كفضاء لطفولة عيسى بطل الرواية، هو مكانٌ أشعره طوال حياته أنه أدنى من الناس، ثم جاءت هذه العقوبة. فما الذي يمكن له أن يقوله أو يفعله أو يتمناه غير: ألّا يكون فلسطينيًا؟ لأنه ليس من الحكمة في شيء أن يولد المرء فلسطينيًا.
“أبي، لا أريد أن أكون فلسطينيًا”.
“لماذا؟”
“لأنني لا أحبّ أن أكون فلسطينيًا”.
“لماذا؟”
“لأنّ الله لا يحبّ الفلسطينيين”.
من ثم:
“أبي. أنا لا أريد أن أكون فلسطينيًا ولا أريد أن أكون بشرًا”.
لكنّ الإنكار نفسه، أو المحاولات في سبيله، هي نفسها ممزوجة بالغضب الذي يجب أن يليها. فعيسى لم يكن بمقدوره ألا يكون فلسطينيًا مهما حاول التنكّر لأصوله.
إلى أين يأخذه الغضب؟ إلى المشاركة كفلسطينيّ في معظم الحروب التي خاضها الفلسطينيون، وذلك من أجل البحث عن نهاية لائقة له كفلسطيني في المقام الأول. إنّ الإنكار نفسه بالنسبة إليه وجهٌ آخر للقبول. وهو ليس إنكارًا تمامًا قدر ما هو محاولة للتنكّر، ولكنها محاولة فاشلة. ورفض عيسى تحقيقها عدة مرات، إذ كان يمكنه أن يأخذ جنسية زوجته المغربية، أو عدة جنسيات أخرى في ظروفٍ مختلفة، لكنه رفض ذلك.
ليس رجلاً منتهي الفاعلية إذن كما كان أبطال كنفاني في “رجال في الشمس”. والنقلة التي حققها غسان كنفاني لأبطاله استغرقت منه ثلاث روايات، بين “رجال في الشمس” ثم “ما تبقى لكم” حتى “أم سعد”. ففي الأولى كان المصير والهوية متماثلين بالنسبة له: أن يموت إنسانٌ في خزان يعني أنه هشّ البناء، أمّا أن يموت في معركة فيعني أنه ممتلئ بالصلابة. أمّا في “ما تبقى لكم” فلا يُحسم الأمر، يذهب حامد (البطل) نحو المواجهة، ولكنها لا تُحسم. لا فرار، ولكن تمزيق لخيوط الماضي. ولذا يسمّي الناقد الراحل يوسف اليوسف هذه الرواية بالمطهر، فيما أطلق على “رجال في الشمس” الجحيم، أمّا “أم سعد” فهي الفردوس. لماذا؟ ثمة جواب واحد: لقد نشأت المقاومة، وتبرعمت الدالية.
حسن سامي يوسف في “الفلسطيني” يجمع كلّ ذلك، لكنه يقفز عن “المطهر”. يكتفي بوضع الجحيم، ثم الفردوس. وما الفردوس؟ الموت ميتة لائقة كفلسطيني. فعيسى يبحث عن نهاية لائقة لعبث حياته: الموت كفلسطينيّ.
لذا يترك كل شيء في دمشق ويغادر إلى بيروت في السادس من حزيران 1982، ويمنحه صديقه الذي يعرفه منذ معركة الكرامة فرصة تليق بمحارب قديم مثله، رغم أنه (أي عيسى) كان بكليةٍ واحدة، وخارجًا من مرضٍ يشبه الموت.
عيسى إذن يقطع تلك الرحلة الطويلة في القطار الذي كان يومَ النكبة، ولكنه يقطعها متجاوزًا مراحل. الإنكار هو نفسه القبول، وليس ثمة مطهر، فثمة قفزة واحدة من الجحيم إلى الفردوس، قرارٌ بترك الجسد يتصرّف كفلسطينيّ.
الجسد الميت قبولًا وفردوسًا: الموت كفلسطينيّ
يعيّن إسماعيل ناشف في دراسته “في اللا/تحوّل في الممارسة والخطاب: إشكاليّة الثقافي الفلسطينيّ” ثلاثة أجساد فلسطينيّة: جسد الأرض الذي ضاع مع نكبة 1948، ثم الجسد الجمعي الذي صار حلبةً أساسية سنة 1967، ثم الانزياح الذي تتوّج في أوسلو وأحدث ضرورة ظهور “الفردي”، مدفوعًا لوحده إلى مركز الصراع.
فما الذي يقوله عيسى، بطل الرواية، والذي كان شاهدًا على فقدان جسد الأرض، عن الجسد الجمعي الذي شهد بداية نهايته أيضًا؟
“في صيف 1967 هزم موشي ديان جيوش العرب في ستة أيام، وفي اليوم السابع استراح”.
تكون إذّاك ثمة فرصة لعيسى كي يسافر إلى فرنسا لكنه يتخلى عنها. لمَ؟ “لأنه تذكر أنه فلسطيني، وأنّ من واجبه ألّا يترك دايان وأمثاله يستريحون لحظةً واحدة”.
هذا الغضب المحموم، دفع عيسى إلى محاولات لا نهائية للاندماج بالجمعي مجددًا، فخاض في كلّ حربٍ فلسطينية، وربما كان على علاقة بما جرى في ميونخ ردًا على اغتيال غسان كنفاني. هذا ما يُقال في الرواية.
لكنّ التنكّر لفلسطينيّته، يفرض نفسه مجددًا عن طريق المهانة والذل، في ظروفٍ كثيرة. ما الذي يبقى له إذن؟ الفرديّ. أن يرمي بجسده الفرديّ نحو موتٍ محقّق، ولكنه موتٌ لائقٌ بفلسطينيّته. وإن لم يكن قد مرّ بـ”المطهر” خلال حياته، فربّما مرّ به لحظة الموت نفسها، وانتقل منه إلى الفردوس.
“الموت اللائق بمحارب قديم مثله”، أي عيسى، يعني أنه استعاد قبوله. ولكنّ القبول لن يتحقق في الحياة، بل في لحظة الموت فقط. والفردوس لن يتحقق كذلك في الحياة، إنما في لحظة الموت فقط.
وهكذا يصير واحدًا من الأجوبة الممكنة على سؤال “لماذا نحن فلسطينيون؟”: “لكي تموت كفلسطيني”. فهل على الفلسطينيّ أن يبحث محمومًا عن موته اللائق كي ينهي عبث حياته؟ ربّما. أو على الأقل: هكذا بالنسبة لعيسى.
هكذا يصير الجسد نفسه مطهرًا وفردوسًا، ولكن يجب أن يكون جسدًا ميتًا كي يتحقق ذلك. الموت هنا أيضًا خلاصٌ من الماضي وفكاكٌ منه، وهو تقريرٌ للمصير. فالجسد الفلسطيني، كما عرف عيسى، جسدٌ معرّضٌ للانتهاك في أية لحظة. عاين ذلك وشهد عليه يومَ النكبة، ثم العقوبة في مخيّم ويفل. هنا يتمّ العبور بالنسبة لعيسى على حساب الجسد نفسه، وليس ثمة عبور إلا بفقدان هذا الجسد، ففقدانه وحده يعني القبول.
الزمن الأصل: قبل القطار
شهد عيسى، مثله مثل كل جيل النكبة، ومثل حسن سامي يوسف: ضياعَ فلسطين. وأحسّ أنه مرفوضٌ من العالم كلّه، وشهد أنّ “الأمم المتحدة وافقت على تشريد الفلسطينيين، ووافقت، بالمقابل، على تعويضهم عن الوطن والأرض والعلم والهوية ببعض الطحين وزيت السمك”. وحين “كان قطار” أو كما يضعها كنفاني: “وعندما وصلنا صيدا في العصر، أصبحنا لاجئين”، ثمة زمنٌ جديد.
ومَن شهد النكبة وعاشها، خاض حروبًا كثيرة كي يفهم زمنه الجديد المفروض عليه، زمن اللجوء، زمن المهانة، زمن الإسطبل، زمن ويفل، ومن ثم زمن مخيم اليرموك، ومن ثم زمن مدن العوالم وعواصمه الكثيرة التي ترفضه، فيرفضه زمنها أيضًا. الساعة الفلسطينيّة في الزمن الجديد معطّلة، وهو ما يكون في الرواية فعلًا إذ يقول عيسى إنّ ساعته معطلة. لقد توقّف العالم عن الدوران، كلّ شيءٍ تغيّر. بالنسبة إلى طفلٍ كان واحدًا من الشهود الشاهدين على النكبة، وعاش في إسطبل، فالموت وحده يطهّر النفس من مهانتها. الموت وحده يجيء ردًا على النكبة نفسها، من ثم على عقوبة مخيم ويفل. ليس الموت الطبيعيّ العادي حتمًا، بل الموت كفلسطينيّ. وعبث الحياة الفلسطينية، عبث حياة عيسى الفلسطيني، ليس إلّا ردّ فعلٍ على الفاجعة، على المأساة. كما أنّ هذا العبث ناتج عن حياةٍ لا معقولة نتجت بدورها عن النكبة. فعيسى كان طفلًا بلا حذاء، يسير حافي القدمين فوق الجليد إلى المدرسة. إلى حين وصلت ضمن المساعدات فردتا حذاء قد تكونان من طفلٍ أمريكيّ، لكنهما ليستا من حذاءٍ واحد، إذ ثمة فردة صفراء وأخرى سوداء. فهل يسخر الطفل من طفلٍ آخر؟ لم يكن عيسى يعرف ذلك، ولكنه ظلّ ممتنًا له، وحين كبر تمنى أن يعرف ما الذي حصل في حياة الطفل الأمريكيّ ذاك وإلامَ صار.
وعيسى كان إنسانًا، طفلًا، قبل قطار النكبة، ثم صار لاجئًا بعده، صارت له تعريفات وكروت مؤن وفردتا حذاء واحدة صفراء وأخرى سوداء. أليس مبررًا إذن أنه لا يريد أن يكون فلسطينيًا، بل لا يريد أن يكون بشرًا؟
وكان بالنسبة لعيسى، ولحسن سامي يوسف وكنفاني وكل جيل النكبة، زمنٌ ثابت، زمن الأصل: قبل قطار النكبة. ولكنه صار زمنًا مستحيلًا، لا يُعرف إلا بالذاكرة. قطعوا جريانه، وأعدموه في الساعات. كيف يُستعاد هذا الزمن إذن، كيف يقبض عيسى الفلسطينيّ على النسخة الثابتة منه؟ بالنسبة إليه كان ذلك عن طريق الموت. ألا تفرض هذه القطيعة الزمنية بين الفلسطينيّ والعالم نوعًا من الرفض واللاطمأنينة؟ ليس من ذلك بد.
يبدو عيسى، في الرواية، مدركًا كلّ ذلك. إذ يقول:
“وأنا لا أتساءل عن الزمان الذي سأموت فيه، ولا عن الطريقة التي سأموت بها. هذه أشياء لا تهمني. بل أكاد أجزم بأني أعرف كيف سأموت، وأعرف أنّ الرصاصة التي سوف تقتلني قد تمّ صنعها. ولكني أتساءل عن مكان موتي. أين سأموت؟ ويشغل هذا السؤال بالي كثيرًا وأخلص إلى نتيجة مفادها أنّ الفلسطيني، ربما كان الوحيد في العالم الذي لا يستطيع أن يختار مكان موته مثلما لا يستطيع أن يختار مكان إقامته”.
وأراد عيسى أن يختار مكان موته فكان له ذلك. أراد أن يربط الزمنَ الفلسطينيّ الأصل بمكانٍ يشبهه، فذهب إلى بيروت سنة 1982، من أجل فرصة للموت تليق بمحارب قديم مثله. وكانت تلك فرصته الوحيدة، فقبض عليها بأظافره وأسنانه وكلّ ما فيه.
فلسطين كموقف نهائي: إيضاح الوجود
أكثر ما يمكن تطبيق فلسفة الألماني كارل ياسبرز عليه هو المأساة الفلسطينية.
“فمن يمكن لعيسى أن يكون؟ وماذا يمكن لعيسى أن يكون سوى اختصار للمأساة الفلسطينية؟”
وما دام عيسى الفلسطينيين جميعًا، فإنه يعود لكي يموت بينهم.
فلنناقش المسألة كلها في إطار أفكار أشهر الفلاسفة الألمان الوجوديين إذن، أي ياسبرز، لا سيما في اصطلاح أو كلمات اشتهر بها، يطلق عليها عبد الرحمن بدوي في كتابه “دراسات في الفلسفة الوجودية”: “المواقف النهائية”، فيما يطلق عليها آخرون “الموقف الحدّي”.
هذا المفهوم، وهو “المواقف النهائية” قدمه ياسبرز لأول مرة في كتابه “وجهات النظر العالمية” عام 1919، وملخّصه:
يجد الإنسان نفسه منذ البداية فيما يسميه ياسبرز “المواقف النهائية” أو “الحدية”، ويقصد بها “تلك المواقف المفروضة على الموجود ولا يملك منها فكاكًا، فالميلاد في يوم كذا في بلد كذا من أبوين هما فلان وفلانة، هذا أمر لا فكاك منه، ولا يستطيع شيء أن يغيره… وفي مقابل هذه المواقف النهائية تقف الحرية، ومن هنا ينشأ ديالكتيك مستمر بين الموقف النهائي من ناحية، والحرية من ناحية”.
وعيسى وُلد لأبوين فلسطينيين في فلسطين، ذلك هو موقفه النهائي: أن يكون فلسطينيًا. ثم وقعت النكبة، وكان قطار، وكان إسطبل، وكانت مهانة ويفل.
بعد ذلك ثمة عملية يطلق عليها ياسبرز اسم “إيضاح الوجود”، وهي “عملية التحرر من آثار الضرورة التي تفرضها المواقف النهائية”، وذلك بخرق “المواقف النهائية، فيعلو عليها (أي الموجود) وهذا هو العلو على الذات”.
فكيف حاول عيسى أن يفعل ذلك؟ ألّا يكون فلسطينيًا، ولا بشرًا. والسؤال الذي يبتغي منه إيضاح وجوده كان: “لماذا نحن فلسطينيون؟”. فلماذا سؤالٌ عن الأسباب، والجواب عنها يعني الإيضاح، وعيسى في حاجة إلى أن يتّضح له وجوده.
لكنّ وجوده بعيد عنه، إنه ليس شيئًا يمكن إيضاحه لأنه شيءٌ غير طبيعيّ، بل مأساويّ. وإيضاح الوجود كما قصده ياسبرز يتطلب حالةً مستقرة، حالة لا يكون فيها الزمن معطلًا.
في هذه الحالة وحدها تصبح “ضرورة / حرية” المناقشة مقبولة ومفهومة، أمّا أمام عيسى فثمة حلٌ وحيد: أن تكون الضرورة هي نفسها الحريّة. وليس من سبيل إلى ذلك غير الموت كفلسطينيّ. الموت ضرورة من أجل إيضاح الوجود، وهو كذلك حريّة. هو القبول، والفردوس، مقابل الحياة التي هي: الإنكار والجحيم.
هكذا يتّضح الوجود أمام عيسى، وهكذا يضعه حسن سامي يوسف:
“لقد حاولتُ ألّا أكون فلسطينيًا فلم أنجح. حاولتُ ذلك أكثر من مرة منذ أن كنتُ طفلًا وحتى الآن، ودائمًا كنتُ لا أنجح. هذه هي حقيقتي وأنا لا أخفيها. ولهذا قرّرتُ العودة إلى أهلي لكي أموت بينهم”.