أسباب عديدة تدعو للاشتباه بفكرة التخصص. لا أقصد التخصص المهني وحسب بل التخصص المفاهيمي قبل ذلك: صناعة الأصناف، وأصناف الأصناف، وتمزيق المفهوم العام لجمهرة مفاهيم صغرى كل واحد منها “حقل دراسي” له حدوده وبواباته الأمنية، يحرسها أكاديمي متجهّم أو خبير متوتر لا يحب الغرباء ويعتقد أن الحقل مُلكٌ له ولجماعته.
في عُرف حرس الحدود هؤلاء، أي حركة حرّة بين هذه المجالات تُعدّ خفّة علمية وعطبًا بموضوعية الدارس. وفي كثير من جوانبه، هذا وباء معاصر، والشواهد كثيرة على أن الحداثة (بمذهبها الغربي الطاغي) لها ثأر شخصي مع الفكرة الكبيرة. لن يقولها الحداثيون علنًا بالتأكيد. ولا هُم سيقولونها سرًا. لكنهم يمارسونها على الأرض.
ماذا يقصد هؤلاء عندما يشتُمون “الأدلجة” ليل نهار سوى أن يلعنوا أي رؤية شاملة لهذا العالَم ويستنكروا أي شدٍّ لأشيائه على بعض. هؤلاء يرون العقائد شيئًا من جنس الصخور؛ مَغرمًا يُثقِل الكاهل، فيما قلوبهم معلّقة بالحصى والموائع. حِرفتهم التحليل لا التركيب، ولا أظنهم يرتاحون لتعبيرنا التراثي الشهير عن أهل الحلّ والعقد، فهؤلاء يريدون لك أن تحُلّ دون أن تعقد (لطالما تساءلت كيف نشأ مصطلح المحلل السياسي ولم ينشأ مقابله مصطلح المركِّب السياسي. الكل يريد أن يحلل. قلائل من يجرؤون على التركيب رغم أنه أهم بكثير).
وإذا أخذتَ نزعة كهذه لنهايتها القصوى، ستصل إلى كثير مما وصلنا له اليوم. الفردانية مثلًا: هذا المذهب الحداثي الذي يطيح بأي معنىً شامل لفكرة الإنسان ويضع مكانه عددًا لا ينتهي من الأفراد، كلٌّ بخصوصيته واستثناءاته الفريدة. أو التكنوقراط مثلًا آخر: الخبير المتخصص، المتنزّه عن آفة الموقف الشامل، والمترهبن داخل تخصصه الجامعي، والذي يراد لنا أن نرى فيه خلاصنا السياسي المنشود.
***
جرثومة هذا الوباء تظهر حتى في اللغة. بتاريخ العربية، كان الذكاء دومًا لفظًا مفردًا. اليوم، صار لـ”الذكاءات” نظرية بأكملها والحديث فيها على كل لسان. أو خذ مثلًا لفظ الحياة، والذي قليلًا ما كان يُجمع في تاريخنا المكتوب. أمّا اليوم، فما أكثر الحديث عن “الحَيَوات”. وكأننا أمام ماكينة للفرم المفاهيمي، عمّالها من نوع خاص، مطوّقون بربطات العنق ويتوزعون على آلاف الجامعات ومراكز البحث والدراسة. وعبر آلية تشبه انتشار الحبر في دورقٍ للماء، يتسلل كلامهم صوب دوائر أوسع ليلوّن -بالتدريج- مزاج المرحلة وقاموسها.
في الظاهر، هناك دافع تقني يحرّك هذا المشهد وهو حاجة العاملين في كار الأفكار أن “يأتوا بجديد”. وعندما لا يملك المرء جديدًا بحق فأسهل الحلول هو تمزيق القديم حتى تبدو أشطارُه شيئًا مختلفًا. لكن بعيدًا عن هذا الاعتبار التقني، يبقى الدافع الأساس فكريًا بامتياز: “فرّق تسُد” ليس شعارًا مقصورًا على الشعوب والجغرافيات. تطبيقه في عالم المفاهيم أداة هيمنة لذات القوى المستعمِرة؛ أن تفرّق الأفكار والمصطلحات، وتمعن في التفريق، حتى تَسوْد مستخدميها من داخل رؤوسهم.
***
إحدى التمييزات التي تطورت وسط هذا الجو هو الفصل الحاد بين السياسة والفعل العسكري؛ بين بندقية المقاتل وحقيبة الدبلوماسي. لا تحتاج إساءة ظنٍّ كثيرة حتى تستشعر أمرًا مريبًا هنا، فالتمييز مصمم بالغالب لرسم علاقة هرمية يتسيد فيها السياسي على العسكري. يكفي أن تتأمل بواحدة من المقولات الشائعة بمنطقتنا والتي احتلت فلسطينيًا فضاءً صوتيًا كبيرًا: “السياسي هو من يقود البندقية وليست البندقية من يقود السياسي”. هندسة العبارة تستحق التقدير: السياسة يمثّلها إنسان، فيما الفعل العسكري تمثله أداة لإطلاق الرصاص. من له أن يعترض على قيادة الإنسان للآلة بدلًا من العكس؟
في وسعنا طبعًا أن نمارس لعبة مقلوبة فنقول بأن المقاتل هو من يحمل الحقيبة الدبلوماسية، وليست الحقيبة من يحمل المقاتل. ليس هدفي هو الدفع الرصين بهرمية بديلة. على الإطلاق. الهدف هو الطعن في فكرة الهرم بأكملها، بغض النظر عن حشوة الهرم ومن يقف داخله فوق من، ومن يجلس تحتَ من.
***
لا يقف الأمر عند عبارة “السياسي يقود البندقية”. أدبياتنا مليئة بهذا الصنف من الجواهر المغشوشة. خذ -مثلًا- عنوانًا محبوبًا آخر في فضاء الحديث عن الإصلاح السياسي وسبل خلاص الأمة: “ضرورة عودة الجيش للثكنات”. من نافل القول أن مكان الجيش هو الثكنات لكن العبارة ليست بهذه البدهية ومقصدها الأهم هو أن يفارق العسكري فعل السياسة وأن يَترك صاحبُ البزة العسكرية قيادةَ الدولة لصاحب الزيّ المدني. ومن شدة شيوعها، قليلًا ما يتأمل المرء كلامًا كهذا، رغم أن أسئلة كثيرة تكاد تصرخ من أسفله ومن خلفه ومن بين حروفه: أي نجاح حققه الرؤساء المدنيون في العالم العربي (وهم لم يعودوا قلّةً أبدًا)؟ وماذا يخبرنا تاريخ دول العالم عن قيادة العسكريين لدفّات البلاد؟ كيف ينظر الأمريكيون –مثلًا- لرئاسة آيزنهاور بزمانه؟ وأي قراءة نخلص إليها عندما نقارن أداء المشير سوار الذهب في السودان مع أداء الدكتور قيس سعيّد في تونس؟ أي منهما كان أكثر “مدنية” ودستورية وصونًا لقيمة موقعه: الدكتور أم المشير؟
***
ما سبق ليس استكشافًا ذهنيًا في مسألة مجردة. ولا أعلم إن كان الكلام المجرد ممكنًا أصلًا بعد السابع من أكتوبر (لمن يعنيهم ذلك التاريخ). وربما تكون هذه واحدة من هِبَات “الطوفان” وألطافه الممتدة: تهديم أبراج العاج وشدّ الفكر المجرد -غصبًا ومن ياقة قميصه- لقلب العالم المحسوس. الكلام السابق عن تفتيت المفاهيم وتذرير الأصناف هو في قلب قضية نعيشها كل يوم: إعادة هندسة كلمة “سياسة” وجعلها نقيضًا للعمل العسكري وعلى الضد منه. كثير من التنكيل الإعلامي بحركات المقاومة يخص “عجزها السياسي” وانتهاجها العنف العبثي بديلًا يائسًا عن “السياسة”. والمفارقة هنا تستحق انتباهًا: أن تحويل مصطلح السياسة لدلالة مدنية بحتة هو وسيلة لعسكرة المصطلح في الحرب ضد العمل المقاوم.
الموضوع لا يخص الفضاء العربي بالتأكيد، فهذه مسألة مطروقة في كل مكان ولا يكاد كتاب في علم السياسة يخلو من نقاش لها: سعة مصطلح “السياسة” ونوع الحدود التي ينبغي أن ترسم له. هل تنتهي السياسة من حيث يبدأ العنف أم أن كل فعل يمس السلطة وحركة المجتمع هو سياسة بالضرورة، سواء حصل في قاعة رئاسية أو ميدانٍ للرماية؛ في مجلس نيابي أو داخل قمرة دبابة؟
أخطر ما في هذا السؤال أنه يحمل في طياته تضليلًا كبيرًا، وكأن هذا الشيء المدعو “سياسة” حقيقة موضوعية موجودة هناك.. في مكان ما بالطبيعة، وها نحن نحاول اكتناه سرّه، فيما السجال في حقيقته يدور على ما يُراد للسياسة أن تكونه. لا توجد مسألة أكثر تسييسًا من تعريفنا للسياسة نفسها.
***
في ستينيات القرن الماضي، صدر كتاب لافت لعالِم سياسة بريطاني يدعى برنارد كريك تحت عنوان “دفاعًا عن السياسة”. والعنوان بذاته يكفي لإدراك ما يجري: تحويل السياسة لقيمة بذاتها بدلًا من أن تكون فضاءً تتحرك القيم على اختلافها بداخله. ولا يكتفي كريك بفرض حدود خانقة على معنى السياسة لتوافق رؤيته الخاصة وسلّمه القيمي، بل ربما يكون سبّاقًا في اختراع مصطلح “اللا-سياسة”: أصحاب العقائد والرؤى الشاملة لا يمارسون السياسة -بحسب كريك- وإنما يمارسون نقيضها المفاهيمي، ومعركة الانعتاق الإنساني تدور في كثير من جوانبها على انتصار السياسة على اللا-سياسة. لا أشير لهذا العمل إلا بوصفه مثالًا، فإعادة تعريف السياسة خدمة لغاية سياسية ممارسة شائعة منذ زمن طويل ولم تبدأ في السنوات القليلة الماضية. وهذه تتعب الإنسان إذا أطال التأمل فيها: أن يكون تعريف الشيء جزءًا من عمل الشيء نفسِه وفي موضع تحول مستمر. أين لك أن تبدأ بالتفكير هنا فيما ركيزة الموضوع مطوية على أطرافه وكل شيء معطوف على بعضه.
***
منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي وانفتاحِ جبهة متعددة الساحات في هذه المواجهة الكبرى، استعاد التفكير في مسألة “السياسة” حدّته من جديد. على النقيض الأقصى من حركات المقاومة ورؤيتها النضالية، تستحق السلطة الفلسطينية في رام الله شيئًا من تأمّل: تأمّل في الشكل المحتوم للفاعلية التنظيمية عندما تؤطَّر السياسة على الضد من العمل العسكري وتُختزل في خيال التجار وقاموسهم: تفاوض، ومساومة، ودعاية. وهناك ظلمٌ كبير يلحق برئيس السلطة المذكورة عندما يُصوَّر وكأنه يخون منصبه ويمارس رداءة خاصة في حدود موقعه. ضمن التعريف المذكور للسياسة، هل بوسع محمود عباس أن يكون شيئًا غير ما هو عليه؟ هل يمكن لمن يرتضي فهمًا منزوع القوة لمعنى السياسة أن يخرج من أفق هذا الرجل؟ يستحق اتفاق أوسلو تحديدًا اهتمامًا في هذا السياق. فكثير ممن يهاجمون هذا الاتفاق المدمّر يُبدون تأييدًا لحل “سياسي” تفاوضي غير عسكري، لكن الغضب يملؤهم للنحو الذي قاد فيه ياسر عرفات مسار التفاوض هذا. وما أن تفكر في طرح كهذا حتى تجد نفسك بمواجهة السؤال الأول مجددًا: هل كان يمكن لوسيلة كهذه أن تبلغ مكانًا غير الذي بلغته؟
إن المسلَّمة الخفية هنا تعجّ ببراءة الأطفال: أن السياسة البارعة قادرة أن تغلب فارق القوة وترمم فارق التسليح.. أن المفاوض الفلسطيني -بشيء من النباهة ورضى الوالدين- قادرٌ أن يستغفل الحركة الصهيونية في قاعة للتفاوض وينتزع منها ما فشل في انتزاعه بالنار. أفكار كهذه تذكرك بمواضيع الإنشاء المدرسية عندما كان يُطلب منا أن نكتب حوارًا بين السيف والقلم، مع تأكيدٍ على أهمية أن يظهر القلم –في نهاية الحوار- بمظهر المنتصر.
***
على النقيض الأقصى لِما تمثله الجماعة الحاكمة في رام الله، تنبني حركات المقاومة -في الشكل الذي بلغته اليوم- على ازدواج معروف لجناحين: سياسي وعسكري. ورغم السرية التي ينطوي عليها تفاعل الطرفين، إلا أن الأكيد -والمدهش في الوقت ذاته- أننا لم نشهد احتكاكًا عنيفًا بين الجانبين، ولا رأينا هذه التنظيمات وهي تعيد إنتاج سيرة الدولة العربية الحديثة، لا على صعيد الصراعات الداخلية الطاحنة بين أجنحتها، ولا على صعيد التشظي والانقلابات والصدام المسلح. توتراتها الداخلية تُحسم اليوم بغير دم وبلا تصدع كاسر في بنيتها. ومن بين أسباب كثيرة يمكن سردها هنا، فإن فهم هذه الحركات لمعنى الفعل السياسي وتماهيه الوظيفي في الفعل العسكري لا يمكن إلا أن يلعب دورًا مركزيًا في تماسك نواتها الداخلية.
***
ليست السياسة اختراعًا جديدًا. لا على صعيد المفهوم ولا حتى على صعيد الكلمة. عند الفارابي والغزالي وابن رشد وابن سينا، تجد نقاشًا مستفيضًا في هذا المصطلح. من يقرأ لهؤلاء يدرك سريعًا أن “سياستهم” ليست أبدًا “سياستنا”. كان المعنى أوسع بأشواط وكثير من دلالته القديمة تتعلق بالتربية والتخلّق وحسن التدبير وبراعة التصرف. يكفي أن تتفرج على باحثين معاصرين وهم يتخبطون في فهم المقصود من كلمة “سياسة” في مقدمة ابن خلدون حتى تدرك سعة المفهوم في وقت ابن خلدون وتمرده على اختزالاتنا الحديثة. ليست العودة للأشياء في معانيها الأولى وصفةً عمياء للنجاح، ولسنا بحاجة لأكاديمي محترف حتى يذكرنا بأن العالم تغير من أيام ابن خلدون. لكنّ واقع صراعنا اليوم مع هذا العدو يعيد لمعنى السياسة الأول أهمية خاصة وجدوى مضاعفة: المعنى الذي يَصعُب التقاطه ويحمل غموضًا من فرط اتساعه وشموله واختراقه للميادين والمجالات.. المعنى الذي يدرك أن فارق القوة الهائل مع عدونا اليوم يستلزم خرقًا لكل حدّ وتمرّدًا على كل تخصيص ووحدةً -مفاهيميةً- للساحات.