يتركّز كتاب “الاستيطان في أحياء القدس (البلدة القديمة وسلوان والشيخ جرّاح)” [أحمد أمارة، صادر عن “مدار” ٢٠٢٢] حول شكل استيطان مستجدّ ومتميّز عن الاستيطان الكلاسيكي يستهدف قلوب الأحياء الفلسطينية المقدسية، ويستعرض الممارسات القانونية والسياسية والإدارية التي تمكّن الجمعيات الاستيطانية والمؤسّسات الرسمية الإسرائيلية من تحقيقها. ويُعطي صورًا شاملة حول العلاقة التفاعلية بين القانون والسياسة والجغرافيا والتاريخ في هذا السياق، مُظهرًا ترابط هذه المجالات وتأثير كل منها على الآخر.
يسلّط الكتاب الضوء على مشهد تهويد القدس من خلال عرض شكل الاستيطان في أحياء الشيخ جرّاح وسلوان والبلدة القديمة، والذي تديره جمعيّات استيطانية مستندة إلى ادعاءات دينية وتاريخية، مثل ادّعاء الملكية اليهودية على بعض الأملاك، بالشراكة مع المؤسسات الرسمية الإسرائيلية. كما يتناول آليات استخدام الجمعيات لأساليب مختلفة لتحقيق أهدافها، بما في ذلك محاولات مصادرة الممتلكات بموجب القوانين الإسرائيلية. يحلّل الكاتب تزايد النفوذ المالي والسياسي للجمعيات الاستيطانية في ظل عوامل مختلفة أبرزها هيمنة اليمين الإسرائيلي ثم الصهيونية الدينية القومية التي تعتبر الداعم الأبرز لتلك الجمعيات خاصّة في العقدين الأخيرين. ويبحث في التلاعب بالقانون العثماني واستخدامه كأداة استيطانية لصالح مصادرة الأراضي الفلسطينية.
يعتبر كتاب أحمد أمارة (وهو محاضر ومحامي وباحث في القانون والجغرافيا والتاريخ القانوني لفلسطين خاصة قوانين الأراضي والأوقاف منذ الفترة العثمانية) امتدادًا لبحثه القانوني في الأراضي الفلسطينية، إذ صدرت للكاتب عدّة مقالات وكتب في هذا الحقل، آخرها كتاب “الأراضي المفرغة: جغرافيا قانونية لحقوق البدو في النقب”.
يتوزّع عمله (الاستيطان في أحياء القدس) على أربعة فصول رئيسية، هي: نظام الأراضي في فلسطين، والاستيطان في قلب القدس القديمة داخل الأسوار، والاستيطان في قلب سلوان، والاستيطان في قلب حيّ الشيخ جرّاح.
اعتمد أمارة مصادر عربية وعبرية وإنكليزية وعثمانية، لمخططات هيكلية وتقارير وقرارات قضائية، وأرشيفات إسرائيلية وأرشيف المكتبة البريطانية وسجلات لجان الأمم المتحدة المعنية بفلسطين، بالإضافة إلى كتب ومقالات لكتّاب وباحثين فلسطينيين وإسرائيليين في المجال القانوني والتاريخي للأراضي في فلسطين، مدعّمًا الكتاب بمواد أرشيفية من صور وخرائط توضيحية للأحياء المبحوثة.
يتبع أمارة منهجية الجغرافيا القانونية النقدية لتحليل هيكلة وإعادة هندسة الحيّز والجغرافيا الفلسطينية في القدس، ضمن الإطار النظري الأوسع للاستعمار الاستيطاني، يسعى تحليله إلى رصد العلاقة الجدلية المتبادلة بين القانون والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والجغرافيا والتاريخ، وتفكيكها، إذ يشكل كل حقل الحقل الآخر ويؤثر عليه.
يستمدّ الكتاب أهمّيته من طرحه منهجية جديدة، لدراسة السياسات والممارسات الإسرائيلية، في القدس خاصةً، وفي الدراسات الفلسطينية عمومًا، واضعًا قضايا الاستيطان داخل الأحياء الفلسطينية في شرق القدس في إطار أكاديمي يبرز خصوصيتها واختلافها عن قضايا استيطان أخرى، الأمر الذي يغيب عن كثير من المشتغلين في القانون، حيث يسعى العمل إلى تبيان أمور شائكة تفسّر طبيعة قرارات المحاكم الإسرائيلية. غالبًا ما تركّز الدراسات على الأحياء الاستيطانية الكبيرة، وهو النموذج المألوف للبحث، الذي يبدأ تخطيطه من “الدولة”، أي من أعلى إلى أسفل، إلا أن عمل أمارة يدرس ظاهرة الاستيطان من أسفل إلى أعلى، ويوضح آلياتها لدى المستوطنين واللوبيات المشكّلة عبر الجمعيات، وطبيعة أنشطتها التي تتمايز عن المشروع الرسمي للسلطات الإسرائيلية.
يولي الباحث اهتمامًا لفهم “الأرض” كبنية رئيسية لمشروع الاستعمار الاستيطاني، كونها العامل السابق لتجميع السكّان الصهاينة عليها في تكتّلات اجتماعية؛ هي “الخام” الذي اشتغل عليه الذهن الصهيوني المخطِط، علميًّا، لخلق حيّز مديني يبدأ بإزاحة أصحاب المكان وساكنيه
يقوم الكاتب بعرض سردي وتحليل للنظام القانوني الإسرائيلي ولسياسات الأراضي، شكّلت القاعدة القانونية والتفصيلية للكتاب، مع إضافة شرح واف للنظام العثماني الذي قلّ ما يحوز اهتمام الأبحاث التي تركّز على الاستيطان في القدس. إذ شكّل القانون عنصرًا أساسيًا في تطور الحركة الصهيونية وممارستها في فلسطين، كنظام سياسي غربي، يشكّل القانون، مع البيروقراطية، وفقه، أساسًا لتنفيذ سياسات “الدولة”، وبذلك تطبّق أيديولوجيتها على الأرض. فقد عملت الحركة الصهيونية، منذ وجودها في فلسطين، على التدخل في نصّ صك الانتداب البريطاني وسن قوانين خلال فترته، وهي القوانين التي ستتكفل تسويغ وضع يدهم على أراضي سكان البلاد الأصليين، حسب الكاتب. فأقام القضاء الإسرائيلي مذاهب قانونية مختلفة لصالح الدولة ضد أصحاب الأرض الفلسطينيين، تصعّب عليهم تسجيل أراضيهم. ويتبنى القضاة الأيديولوجية الصهيونية القائمة على “خلاص الأراضي” من أيدي غير اليهود ودعم السلطة القضائية لممارسات الدولة.
يولي الباحث اهتمامًا لفهم “الأرض” كبنية رئيسية لمشروع الاستعمار الاستيطاني، كونها العامل السابق لتجميع السكّان الصهاينة عليها في تكتّلات اجتماعية؛ هي “الخام” الذي اشتغل عليه الذهن الصهيوني المخطِط، علميًّا، لخلق حيّز مديني يبدأ بإزاحة أصحاب المكان وساكنيه، فيزيائيًا وحضريًا، ويكفل مجاله الحيوي نفيهم نحو الأبعد. لكن مع تركيزه على جانب السيطرة والهيمنة من الاستعمار الاستيطاني على الأراضي، واستمرار ذكره لما ينجم عنه من سياسات تمييز، يغيّب الكاتب الشق المحوي/الإبادي، الذي يكمن في جوهر العقيدة الصهيونية، وتهدف سياساته إلى تطبيقه بشكل أساسي.
ظلّ الكاتب متمسّكًا بطرح الديناميكيات الاستعمارية المتجدّدة التي تستهدف القدس كبؤرة مركّزة لتطبيق السياسات الإسرائيلية بشكل محدّد، ومن أهم ما أورده في بحثه هو تقرير “لجنة جلوكمان” 1992، وهي لجنة تحقيق وزارية ينظر تقريرها في كيفية استيلاء الجمعيات الاستيطانية على أملاك وعقارات في البلدة القديمة وسلوان، وتشرح كيف مكّن كل عقار الجمعيات الاستيطانية من توسيع مكانتها ووجودها وسيطرتها، مع التركيز على دور الحكومة وسلطاتها والتصرف بالأموال العامة وإذا ما تمّ هذا كله بحسب المعايير الإسرائيلية. تتكثّف في نتائج تقرير اللجنة الخلاصة التي أراد الكاتب إيصالها حول كشفه التزوير والألاعيب التي مارستها الجهات الإسرائيلية الرسمية مع الجمعيات غير الرسمية، مثل “عطيرت كوهانيم” و”إلعاد”، للاستيلاء على أراضي وعقارات.
يعدّ العمل من أهم ما كتب عن الجمعيات الاستيطانية الفاعلة في القدس، فقد حاول تسليط الضوء على منظومة عملها، مع التركيز على أحياء سلوان والشيخ جراح والبلدة القديمة، وشرح التركيبة المكوّنة للبنية التحتية القانونية والسياسية التي تعتمد عليها هذه الجمعيات، التي تقوم بالبحث عن أحفاد العائلات اليهوديّة التي سكنت في الشيخ جراح أو سلوان قديمًا، وتُقدّم باسمها دعاوى إخلاء ضدّ العائلات الفلسطينية، مما يضع عشرات الفلسطينيين تحت خطر الترحيل في أي لحظة، وربّما في المستقبل القريب جدًا، دون أن تُفلح أية جهود “قانونية” في المحاكم الإسرائيلية في إنقاذهم.
لم ينف الكاتب التغيّرات التي قد يحدثها الضغط الشعبي والجماهيري كالذي فعلته “هبة أيّار” على القرارات القضائية في الشيخ جراح مثلًا، بعد أن فُرض على الفلسطينيين الانخراط في حلقة القانون الصهيوني المفرغة، خاصة مع السياسة الممنهجة لنزع التسييس عن قضايا تهجير البيوت، وتحويل لب القضية السياسي إلى ادعاءات ومصطلحات قانونية جافة ورسمية، أدخلت الفلسطينيين في مصيدة المحاكم الإسرائيلية وجعلتهم يقارعون منظومة قضائية تشكّل أصلًا ذراعًا استعمارية مركزية.
جاءت أهمية البحث الزمنية من تحليل علمي رصين لأحد أهم الأسباب التي نجم عنها انفجار هبّة أيار عام 2021 (معركة “سيف القدس”)، والتي تعود دوافعها إلى أكثر من 100 عام من الاستيطان بأشكال مختلفة في الأحياء الفلسطينية، في القدس وعموم فلسطين. خلق الاستيطان فيها جغرافيا سياسية إنسانية كاملة، استفزت أصحاب الأرض الفلسطينيين وانعكس غضبها في هبات عديدة كان آخرها هبة أيّار ٢٠٢١، التي حدثت قبيل إصدار الكتاب الذي يعدّ مرجعًا مهمًّا في مجال تقاطع القانون مع الجغرافيا والتاريخ تحت نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني القائم في فلسطين.