لست هنا لتقييم أي عمل فني من موقع الناقد أو الخبير، لأني لست أهلًا لذلك ولن أكون، وانما ككائن حي يتملكه شعور حقير ما بين الحزن والغضب، وفي كثير من الأحيان ينتابني صمت مطبق وأريد من يقول عني بعض الكلمات لأشكره.
حالي حال أي كائن على هذه الكرة الارضية، ممن يتأثرون بما يجري اليوم في قطاع غزة من إبادة جماعية، أتفاعل مع الأحداث ومع كل ما ينشر عن فلسطين، وما أكثر المحتوى الفلسطيني لأسباب عديدة ليست موضوعنا، الا ان الغزارة في الانتاج أوصلت إلينا، كمتلقين، ما نشكر صانعيها عليها، واوصلت ايضًا ما “نشخر” لأصحابها على ما اقترفت أيديهم.
سأكتفي بنموذجين لفتا انتباهي خلال العدوان الغوغائي المستمر على غزة، وهي اعمال غنائية، واحدة لـ”كوكبة” من نجوم ومطربي العالمي العربي وهي الحلم العربي ” reunion”، وثانية لفنان يتنشر اسمه بين ابناء الجيل الجديد كمغن “سفلي” (UNDERGROUND) وهو بيج سام وتحديدًا أغنيته الجديدة “لو مرة بس”.
حين سمعت الاغنيتين انتابني شعوران متناقضان تمامًا؛ فعندما ظهرت أغنية “الحلم العربي” الجديدة\القديمة لأول مرة، ولآخر مرة، أمامي، بدأت أكيل الشتائم للاستسهال الحاصل والكليشيهات الرديئة من قبل القائمين على الاغنية التي يفترض أنها كانت جزءًا من نوستالجيا الانتفاضة الفلسطينية، والتي سكب بسببها حينها الكثير من الدموع على امتداد العالم العربي، فتساءلت: ما الذي جرى، لماذا لعنت صانعيها اليوم؟
للوهلة الأولى، ظننت أن استثنائية الجرائم المرتكبة من قبل الاحتلال هي التي دفعتني لاعتبار هذه الاغنية، القديمة المجددة، لا يمكن لها أن تعبر عن حالتي كفرد، وخصوصًا أن الجمع العربي مفرق وصوته خافت بشكل مقزز. لكني اكتشفت لاحقًا أن هناك شيئًا من الصواب في ذلك ولكنه كان ناقصًا؛ انني حين شتمت فناني العالم العربي لم اشتمهم لشخصهم، بل لفكرتهم الوحدوية الكاذبة، فلو كان هذا هو الحلم العربي الحقيقي، لما تركت غزة تعاني كل الجرائم المحرمة دوليًا، وحيدة دون نصير إلا ما خلا من دعم لبناني أو يمني، فيما تعج شوارع الغرب بالمناصرين. بالتالي، كان يمكن أن تكون هذه الاغنية أكثر واقعية لو كان اسمها “الحلم الأممي -غير العربي”؛ هنا كنت سأسمعها وأتفهمها جيدًا وكنت بالتأكيد سأذرف دموعًا مجددًا عند سماعها، ولكن بئس كذبكم الذي يمكن تسميته “الكرينج العربي”.
في المقابل، لم أكن أدرك انه وبمجرد أن تظهر أمامي الاغنية التي قدمها مغن بصوته الأجش واسمه الغريب، ستمر ساعات وأنا أعيدها على مسامعي بشكل مبالغ فيه، أو حتى أن أكتب مقالًا بسببها.
بسيطة، بكلمات مباشرة، عبرت عن حزني واستسلامي للدمار والقتل الحاصل في “غزتي قمرتي” كما سماها بيج سام، فهي تبدأ بالكلامات التالية:
“لو مرة بس
تغفي بروحي المتعبة
لو مرة بس
يرتاح اللي بأرضك غفى
لو مرة بس
ترتاحي من بطش العِدا
لو مرة بس
نفداكي بأغلى ممتلك”
لم أحتج لأكثر من ذلك، فهذه الكلمات، ببساطتها، سحبت من أحشائي تنهيدة تعبر عن العبء الذي اختزنته طوال ايام الحرب القائمة على القطاع، وهو بالتحديد الهدف الواجب أن تحققه اي مادة اليوم، اكانت وجدانية ام فنية، تنتج لأجل غزة، فنحن المنهكون عن أهل القطاع، والعاجزون عن البوح بصرخات العبث والظلم الذي نخشى أن يطالنا دون أي رادع، نريد من يعبر عن حزننا هذا، كما نريد من يقول باسمنا أننا تعبنا وحزنا رغم فخرنا بما قدمته غزة من أنموذج فدائي ومقاوم.
ربما يعود تعلقي بهذه الاغنية الى أن صانعها غير معني بالكلام المنمق والمثالي والوحدوي العربي الذي سمعنا عنه في قصائد قدمائنا، وهو غير معني، أيضًا، بالانتقاد الذي سيطاله من تشابه لحن أغنيته لثوان معدودة مع اغنية مروان خوري، ولكنه بالتأكيد اراد أن يعبر عن نفسه… فعبر عنا جميعًا. فما نشهده، من عبث لا منطق فيه، سيدفعنا للتعبير عن الحزن والحرب والقتل والاجرام بطريقة مباشرة صادقة من دون الغوص في التجميل، فيكفي أن يكون هذا المطرب قد أحس بأن هذه هي الصورة المثلى لأغنيته فأصدرها كتعبير عن سخطه على الأحداث لا أكثر. وحسنناً فعل.
ولكن، بمعزل عن ابداع هذا الفنان أو ذاك، يمكنني القول بأن ما حصل معي بعد تلك الاغنية قد يكون بمثابة درس معيب، وخصوصًا بعد سنوات عمري التي قضيتها في هذه الدنيا وأنا المتحذلق في نظر نفسي، ولكن عند انقضاء العقد الثالث، لم أكن لأتوقع أن أتعلم واحدة من بديهيات الملاحظات العامة في الحياة والتي تتمثل في عدم الحكم على الأشياء من ظاهرها، وهو فعلًا أمر معيب لي، ولكن صدقوني هذا الدرس لا شيء مقارنة بما يجب أن يكون قد تعلمه القائمون على صناعة “التفاهة العربية” المتمثلة في إعادة الحلم العربي، وخصوصًا أنه وبالامس القريب فقط، وتحديدًا في معركة “سيف القدس” التي جرت في العام 2021، كانت الأغنية الأكثر انتشارًا والتي عبرت عن الحالة العامة، لفنانين مغمورين مقارنة بـ”نجوم الشباك”، وهما دبور وشب جديد: “إن أن قد آن أوانه”، والتي اجد صعوبة في تذكر تلك المعركة من دونها، وهي المصنفة من أغاني “الراب”، تحدثت بشكل مباشر وصريح مع المستمع بلغة الشارع بما فيها من شتائم لكل من باع وخان فلسطين، وتمجد بالمقاومين؛ بسيطة جدًا لدرجة أنها شكلت حالة انتشار، لأنها، ببساطة، عبرت عنا.
في حالة الاعمال الفنية، نتعلق بها عندما تحاكي أفكارنا، وفي حالة الحرب التي نشهدها اليوم، من شبه المستحيل أن تكون “هيئة الترفيه” هي القادرة على فهم الحلم العربي أو الوجع العربي على الجرح الفلسطيني. بالتالي، فإن الدرس المستخلص الذي كان يجب أن يدركه القائمون على “الأوبريت العربي” يتمثل في ضرورة ترك الشعوب تنتج حاجتها، تمامًا كما فعل أهل غزة حين أنتجوا حاجتهم المتمثلة في المقاومة من أجل الحياة حتى لو دفعوا ثمن ذلك غاليًا وغاليًا جداً. وهنا لا أجد أفضل من ختم هذا المقال بالجملة الاكثر انتشارًا اليوم من اغنية بيج سام، والتي اعبر فيها عن شكري له لما قاله باسمي فيها:
“يا غزة انا بروحي معاكي
ولو بلاكي الدنيا جنة
ما نوجع بحرك يا روح الروح
نوجعنا احنا
نسقط ان سقطت
ولن تسقط لا ولن نسقط
ما دمنا باقون صبًا كنهر الغيظ”.