المقاومة بين وثيقتين
أصدرت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في 21 يناير\كانون الثاني الماضي وثيقة تاريخية في أهميتها، تشرح لنا رواية الحركة لعملية “طوفان الأقصى” وتفند المزاعم والأكاذيب الصهيونية حول ما جرى في السابع من أكتوبر، كما تقدّم فهم الحركة لنفسها ضمن حركات التحرر الوطني والتضامن الأممي وضمن إطار القانون الدولي.
بعدها بأيام، صدر قرار محكمة العدل الدولية فرآه بعضنا إيجابيًا إذ وجد “بالمظهر الأول” prima facie أن ممارسات دولة الاحتلال “تبدو وكأنها يمكن أن تقع ضمن إطار” التطهير العرقي (مؤجلة البت في ذلك)، بينما وجده البعض الآخر مخيبًا للآمال لما فيه من تسويف وتخفيف للألفاظ ولأنه لم ينص بوضوح على وقف إطلاق النار وإنما دعا “إسرائيل” إلى أن تتخذ من المعايير ما من شأنه منع حدوث إبادة عرقية وأن يكون على “إسرائيل” تسليم المحكمة تقريرًا بما ستتخذه من إجراءات خلال شهر من صدور الحكم. بل وقد تضمن بندًا يقر بأن دولة الاحتلال قد خطت بعض الخطوات للتخفيف من وقع الإبادة العرقية وإن لم تجد المحكمة هذه الخطوات كافية، ونص على أن تطلق المقاومة من في يدها من الأسرى دون قيد أو شرط (ولم يطالب كيان العدو بالشيء نفسه).
وبين الوثيقتين، يرتسم لنا مجال القانون الدولي – والعلاقات الدولية التي يقوم هذا القانون على أساسها – الذي يمكن أن يصبح مجالًا للمقاومة كما يمكن أن يصبح مجالًا لتصفية القضية؛ وترتسم أدواته التي يمكن أن تصبح سلاحًا لنا أو علينا.
تدرك وثيقة “حماس” جيدًا هذه الثنائية وإن مالت لغتها إلى القانون الدولي؛ فعلى سبيل المثال في المادة الرابعة من الفصل الأول تستشهد بالمؤسسات التي وثقت “انتهاك الاحتلال الإسرائيلي وفظائعه”. ثم في المادة التي تليها تتحدث عن القرارات الدولية “لصالح الشعب الفلسطيني” التي تفوق الـ900 ولم تنفذ دولة العدو أيًا منها. ثم بعد أن تعدد الحجج القانونية وكيف لم ترجع حقًا ولم تردع الكيان الصهيوني عن عدوانه، تخلص إلى أن عملية “طوفان الأقصى” كانت “خطوة ضرورية واستجابة طبيعية لمواجهة ما يحاك من مخططات إسرائيلية”.
تدرك الحركة، حتى وهي تعرض مظلوميتها وتصيغها ضمن مصطلحات القانون الدولي، أن مجال التحرر هو مجال الفعل لا المظلومية، وبينما تستند فيما تستند إلى لغة القانون الدولي وحججه، فإنها تعطي الأولوية للفعل المقاوم، والكلمة الأخيرة للمقاومة المسلحة.
الشرعة الدولية وشرعية المقاومة
بداية، لا بد أن نتذكر أن مرجعيتنا ليست القانون الدولي (لا ألزم إلا نفسي، وأتحدّث بصيغة الجمع لأني أظن هذا الكلام يعبّر عن تيار عريض من مناصري المقاومة).لا يعنينا، مثلًا، أن المستوطنين في عرف القانون الدولي مدنيون، أو إن كان استهدافهم أو أخذهم أسرى في عرف هذا القانون جريمة حرب. نحن نعرف، من واقع التجربة في فلسطين والجزائر والكونغو وزمبابوي وجنوب أفريقيا والأمريكيتين وغيرها، الدور الذي يلعبه المستوطنون في الاستعمار الإحلالي والاستيطاني. وأن حركات المقاومة، حتى وإن فرقت، كما فعلت المقاومة في الجزائر وكما أضحت حركة “حماس” تفعل مؤخرًا، بين المحاربين وغير المحاربين، فإنها نادرًا ما تستطيع تحييدهم.
تتحدث الوثيقة عن ذلك؛ وحتى في معرض دعوتها إلى تحقيق دولي تحت مظلة المحكمة الجنائية الدولية فإنها تستحضر هذا السياق التاريخي المقاوِم، فتقول في المادة الخامسة من الفصل الثاني إن “أحداث 7 أكتوبر يجب أن توضع في سياقها الأوسع، وأن تُستحضر حالات النضال التحرّري من الاستعمار والاحتلال الأجنبي أو الفصل العنصري في العالم في التاريخ المعاصر. فكلّها تجارب تظهر أنَّه بمقدار ما كان هناك اضطهاد من قبل المحتل، فإنَّ ذلك كان يستجلب ردًّا ومقاومة أكثر قوَّة من قبل الشعب الخاضع للاحتلال”.
وتكاد تتوعد بمقاومة أممية أعتى إذ تقول: “وإنَّ استمرار هذا الاحتلال يمثل تهديدًا لأمن العالم واستقراره”.
نافلة القانون
ومن هنا، تعلمنا الوثيقة أن المرجعية ليست في القانون الدولي وألا نضرب عرض الحائط بالقوانين والمؤسسات الدولية. القانون الدولي نافلة لا مانع مطلقًا من أن نستخدمها ما لم تعرقل الفعل، ربما لهذا وقّتت الحركة بيانها بحيث سبق القرار الأولي للمحكمة الدولية بخمسة أيام.
لا مانع هنا من التفكير في أن صواريخ “حماس” لا تتحمل نفس المسؤولية القانونية لأنها صواريخ غير موجهة بدقة (وهو ما أشارت إليه الوثيقة)؛ ولا مانع حتى في الحديث عن احتمال حدوث أخطاء (تتحدث الوثيقة عن ذلك في المادتين الثانية والتاسعة من فصلها الثاني) وأننا لو وزنّا الأمور بميزان القدرة على ضبط الأخطاء فإن “أي مقارنة موضوعية تصب بشكل كاسح لصالح المقاومة”. بل وتوشك الوثيقة، في حديثها هذا عن الأخطاء المحتملة ثم في دعوتها للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق، أن تقول إن الحركة جاهزة للمحاسبة.
القانون الدولي نافلة لا مانع مطلقًا من أن نستخدمها ما لم تعرقل الفعل، ربما لهذا وقّتت الحركة بيانها بحيث سبق القرار الأولي للمحكمة الدولية بخمسة أيام
وإذا كانت مسألة التناسب في القانون الدولي الإنساني تعني تناسب حجم الدمار (بالذات إن طال المدنيين) مع الهدف الاستراتيجي الذي تسعى قوة عسكرية ما إلى تحقيقه، فإن ممارسة “حماس” وخطابها يأخذان مسألة التناسب بعين الاعتبار ولكنهما يضعانها في سياقها الثوري والمقاوم. فما دامت المقاومة هي الطريق والتحرير هو الهدف، وما دام لا مفر من أعمال عنف قد تطال المستوطنين “المدنيين” حتى وإن لم تستهدفهم هم بالأساس، فمسألة التناسب هنا تعني تناسب العنف الثوري، المقاوم والجهادي، مع بنية الاستعمار التي هي منبع العنف، ومع العنف الذي يمارسه جيش العدو، ثم مع هدف التحرير. إنّ ما قدمته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في ميدان المقاومة عبر تاريخها، وبالذات في معركة “سيف القدس” ثم في الحرب الدائرة منذ عملية “طوفان الأقصى”، وما تعبّر عنه في وثيقتها، يبرهن على أن الحركة، بينما تتبنى المقاومة المسلحة وتمجد هذا العنف الثوري المناضل، لا تتبنى العنف المجاني ولكنها ترى أن العنف منبعه الاحتلال وأن العنف الذي تتبناه هو العنف الذي يوظف ضمن برنامج التحرير. العنف الذي تمارسه الثورة مضطر إلى أن يتناسب مع العنف الأصلي الذي يمارسه الاستعمار- وهذه مسألة تكررت في ثورة الجزائر وفي كتابات وشهادات ثوريين مثل تشي غيفارا وفي تاريخ الثورة الفلسطينية نفسها. ولكن التناسب هنا هو تناسب العمل المسلح مع عملية التحرير؛ لا عنف مجاني هنا، ولو كان الأمر كذلك فما كان أسهل أن تنخرط المقاومة يوم السابع من أكتوبر في حملة قتل شعواء تشفي الغليل ولا تخدم العمل المقاوم. إلا أن المقاومة اختارت أن تجتاح المستوطنات لتصل إلى الثكنات العسكرية، ولم يردعها وجود المستوطنات “المدنية” حول النقاط العسكرية من الخوض إليها، كما لم يغرها ذلك بالإمعان في القتل، وهو ما تؤكد عليه الوثيقة إذ تقول:
“لقد استهدفت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر المواقع العسكرية الإسرائيلية، وسعت إلى أسر جنود العدو ومقاتليه (…) ولذلك تركّز الهجوم على فرقة غزة العسكرية الإسرائيلية، وعلى المواقع العسكرية الإسرائيلية في مستوطنات غلاف غزَّة”
“ونحن نؤكّد ما أعلناه مرارًا بأنَّ مقاومتنا منضبطة بضوابط وتعليمات ديننا الإسلامي الحنيف، وأنَّ استهداف جناحها العسكري هو لجنود الاحتلال، ومن يحملون السلاح ضد أبناء شعبنا. وفي ذات الوقت، نعمل على تجنّب المدنيين، رغم عدم امتلاكنا للأسلحة الدقيقة، وإنْ حصل شيءٌ من ذلك فيكون غيرَ مقصود، وإنَّما في ظل ضراوة المعارك التي نخوضها دفاعًا عن النفس وردّ العدوان”
“ربَّما يكون قد حدث بعض الخلل أثناء تنفيذ عملية طوفان الأقصى، بسبب انهيار المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بشكل كامل وسريع، وحدوث بعض الفوضى نتيجة الاختراقات الواسعة في السياج والمنظومة الفاصلة بين قطاع غزة ومناطق عملياتنا”.
هذا الموقف الذي لا يتعطش الدم ولا يستنكف عنه، والذي يمجد العنف\الجهاد لنصرة الحق ولا يستحب القتل للقتل، يتسق مع تجارب ونظريات التحرر من الاستعمار كما وصلت إلينا، ولكنه في عمقه تنفيذ للآية الكريمة التي جاء فيها: “كتب عليكم القتال وهو كره لكم”.
التحرر في إطار القانون
وبينما تعطي حركة “حماس” الأولوية للعمل المسلح، فإنها بدأت كحركة اجتماعية ومسلحة في آن ولعب مكتبها السياسي دورًا مهمًا في تاريخها (حتى وإن قيل ما قيل عن خلافات ما بين هذا الجناح وذاك، فإن توزيع الأدوار ذاك ضروري في وضع حماس، وقد استفادت منه الحركة بدلًا من أن يتحول إلى عنصر تناحر وشلل). فلا غرابة أن نجد هذا المزج في وثيقتها الأخيرة، وأن تقدم نفسها ونضالها ضمن مفردات انتزعتها حركات التحرر الوطني منذ القرن الماضي من الساحة الدولية؛ فتقول في المادة الرابعة من الفصل الرابع:
“إنَّ حركة حماس وفق القانون الدّولي والمواثيق والمعاهدات الدولية هي حركة تحرّر وطني، مشروعة الأهداف والغايات والوسائل، تستمد شرعيتها في مقاومة الاحتلال من حقّ شعبها الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، وفي السعي لتحرّر وتقرير المصير، وإنهاء الاحتلال والعودة إلى وطنه. وكحركة مقاومة وطنية، حرصت حماس على حصر معركتها ومقاومتها مع الاحتلال الإسرائيلي وعلى الأرض الفلسطينية المحتلة، على الرغم من عدم التزام الاحتلال الصهيوني بذلك، حيث مارس جرائمه بحق شعبنا وحركتنا خارج أرض فلسطين، ومارس عمليات اغتيال بشعة بحقّ الفلسطينيين وغيرهم خارج حدود فلسطين المحتلة”.
وتتكرر مصطلحات “حق تقرير المصير” والتأصيل للحق في المقاومة ضمن القانون الدولي والإشارة إلى القرارات الدولية المتعلقة على مدى الوثيقة. وحتى بعد أن تتحدث عن عجز المجتمع الدولي، تعود فتؤكد أن ما حدث في السابع من أكتوبر كان “في إطار التخلّص من الاحتلال، واستعادة الحقوق الوطنية، وإنجاز الاستقلال والحرية كباقي شعوب العالم، وحق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس”.
لا يقاتل شعب من أجل “الشرعية الدولية” أو “قرارات المجتمع الدولي” ولكن لا يضيره أن يستخدمها حجةً لنضاله.
نستحضر مرة أخرى هنا تجربة الجزائر، وكيف كانت المؤسسات الدولية ساحة للثورة. كانت جبهة التحرير تناضل في المحافل الإقليمية والدولية في نفس الوقت الذي كانت تقاتل فيه بالسلاح لتحرير الأرض. لم يكن الجهاد في المجال الدولي بحثًا عن انتصارات رمزية أو معنوية فحسب؛ وإنما يفتح المجال للتواصل مع من يشبهوننا – كان من انتصارات الثورة الجزائرية دبلوماسيًا، على سبيل المثال، وقبل أن تفرض سيطرتها الكاملة على الأرض، صداقتها مع كوبا الثورية مما ترجم على الأرض دعمًا ماديًا استمر بعد انتصار الثورة عندما أرسل كاسترو الدبابات الكوبية لتدافع عن الجزائر في وجه قوى الثورة المضادة التي تحركه الإمبريالية في حرب الرمال. عدا طبعًا عن الدعم المصري الشهير؛ استخدمت ثورة الجزائر “المحافل الدولية” وطوّعت خطاب “القانون الدولي” فأمّن لها ذلك شبكة علاقات دولية، رسمية وغير رسمية، لم يقتصر تأثيرها على الدعم المعنوي، ولا حتى على الدعم المالي، بل فتح لها كذلك مجالًا للحركة، إذ أتاح لها أن تفتح مكاتب دبلوماسية وإعلامية مما أعطى الثورة كذلك مساحة لجمع التبرعات، على سبيل المثال، وأعطى بعض قادتها ورموزها مأوى يهربون إليه من مطاردة فرنسا أو غطاء يتحركون تحته من مكان إلى مكان وسمح للثورة بالعمل الأمني خارج حدود الجزائر.
إنّ حربنا – وهذه تدركها المقاومة أكثر مما ندركها نحن – ليست من أجل استعادة روح القانون الدولي ولكن من أجل التحرر من الإمبريالية وكل أدواتها
بل وعندما كان العمل المسلح في الجزائر يتلقى الضربات ويخفت، كان هذا الوجود الدبلوماسي يساهم في إعادة تنظيم الصفوف؛ وقد وعى قادة الثورة ذلك وأنشأوا راديو “الجزائر الحرة” ليكون أداة من أدوات الوصل، لا فقط بين المقاومة وسائر الشعب ولكن بين الأجنحة العسكرية والسياسية الدبلوماسية (طبعًا انفجرت هذه العلاقة بعد التحرير خلافًا وصدامًا ما بين الجناحين انتهى بانقلاب هواري بومدين: لا نجمل التاريخ ونجعله على طول الخط ورديًا وإنما نتعلم منه).
وفي المقابل، فإن تجاربنا التاريخية تعلمنا أن النضال الدبلوماسي لم يكن دائمًا رديفًا وسندًا للكفاح المسلح. في حالة الثورة الفلسطينية، كان ذهاب ياسر عرفات في هذا الخط نذيرًا بالتسوية، ثم من بعد أوسلو حولت السلطة الوطنية الفلسطينية المسألة إلى لعبة صفرية على المرء أن يختار فيها ما بين ساحة القتال وساحة العمل الدبلوماسي لتقضي على النضال في الساحتين؛ فكرست بذلك منطقًا أعوج: إما أن نقاوم بالسلاح وإما أن نقاوم سلميًا – بدلًا من أن يكون الخيار أن نقاوم ويكون اختيار وسيلة المقاومة تبعًا للظروف، ثم نزعت المحتوى الشعبي للمقاومة السلمية واختزلت المقاومة السلمية في تقديم الالتماسات الدولية – وحتى هذه لم تقم بها، لأسباب نعرفها جيدًا، على وجهها الصحيح.
شُبهة “المدنيين“
وحتى في ما يتعلق بمسألة استهداف “المدنيين”؛ فإن الوثيقة تقول بأن الحركة قد التزمت “منذ انطلاقتها سنة 1987 ، بتجنّب استهداف المدنيين، وبعد أنْ قام الصهيوني المجرم (باروخ جولدشتاين) بتنفيذ مجزرة في المصلين في المسجد الإبراهيمي في الخليل سنة 1994، أعلنت حماس مبادرة تقضي بأنْ يتم تجنيب المدنيين ويلات القتال، من قبل كل الأطراف، لكنَّ الاحتلال الصهيوني رفض حتّى مجرّد الرّد على تلك المبادرة. وقد كرَّرت حماس ذلك مرارًا، لكنَّ الاحتلال الإسرائيلي واصل تجاهله، وتابع قتل المدنيين بكل صلافة وتجاهل”.
تقول الوثيقة ذلك بعد أن تكون قد ذكرتنا ألّا مدني في الكيان، وبعد أن أحالت على ثورات وحركات مقاومة شبيهة كانت تضطر إلى مواجهة مجتمعات استيطانية غاصبة؛ والصياغة هنا ذكية لأنها لم تدن هذه العمليات بشكل كامل أو تتبرأ منها وإنما أعلنت قبولها أن يكون القانون الدولي لا مرجعية أخلاقية وجهادية لها (تؤكد حتى على أنها حين تجنب المدنيين الصراع فإن هذا يمليه عليها دينها قبل أن يمليه القانون الدولي) ولكنها تقبل أن يكون القانون الدولي كلمةً سواء تسري علينا وعليهم: لا تقتلوا منا المدنيين ولا نقتل منكم – وإن كنا نرى مدنييكم جزءًا من الاحتلال.
القانون الدولي، إن صار كلمة سواء، بينما يحرم أسر “حماس” لـ”المدنيين” ومفاوضتها عليهم، يعني أيضًا ألا يأسروا منا المدنيين ولا نأسر منهم، أن يعاملوا، أو عامِلوا، أسرانا بما يليق بأسرى الحرب بحسب القانون الدولي الإنساني لنفعل المثل (مرة أخرى، مرجعية “حماس” هنا هي ما جاء في القرآن والسنة والتفسير في معاملة الأسرى ولكن القانون الدولي الإنساني يمكن أن يصبح كلمة سواء بيننا وبين عدونا).
التحرر خارج إطار القانون
لكن “إسرائيل”، لأنها دولة معترف بها ضمن المنظومة الدولية، ولأن لديها أجهزة سلطة وإعلام وتجهيل، فإنها تستطيع طبخ التهم، فيصبح الأسرى عندها متهمين بجرائم لأنهم ألقوا حجرًا أو اجتمعوا سرًّا أو تفاعلوا مع منشور في الشارع أو على وسائل التواصل الاجتماعي، ويصبح الأسرى عندنا رهائن مخطوفين. القانون الدولي، والمؤسسات الدولية، والساحة الرسمية والدبلوماسية، ليست أرضًا مستوية، ولكنها ساحة أسست وعُبِّدت لمصلحة أطراف بعينها. ولأن هذه المنظومة الدولية تقوم على مصالح الدول في مقابل حركات التحرير، وعلى مصالح الدول الكبرى في مقابل الدول الصغرى، لا بد للمقاومة في بعض الأحيان من كسر أسوار هذه الساحة وتجاوزها، ولا بد أن تفهم “إسرائيل” إنها إن لم ترض بأن تتصارع مع مقاومتنا في إطار القانون الدولي فسيأتيها من يقاتلها خارج إطار هذا القانون.
فعندما هدّد أبو عبيدة بقتل الرهائن (قالها هكذا بالحرف)، كانت هذه لحظة من لحظات التمرد على المنظومة القانونية؛ الملثم أيها العالم يشير لمن في يديه من الأسرى مسميًا إياهم بالرهائن ويهددكم بقتلهم، وإن اقتضت هذه اللحظة استخدام خطاب يربطه العالم بالمجرمين و”الإرهابيين” ويتضاد مع سائر الخطاب الدبلوماسي وشبه القانوني لحركة “حماس”. هذا التهديد هو الوجه الآخر لفيديوهات الأسرى وهم يلقون السلام على المقاومة أثناء مغادرتهم (أعرف جيدًا أن المسألة ليست دعائية بحتة؛ المقاومة تدرك جيدًا الآية الكريمة “ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا”ولكن هذا النصر الدعائي مهم): إن المقاومة تقول لنا وللعالم إنها تدير معركة تحرير لا معركة قتل من أجل القتل، ولكنها لا تتوانى عن القتل إن كان ضروريًا من أجل التحرير.
لكن هذه الصياغة التي تلتزم مفردات القانون الدولي والمؤسسات الدولية الرسمية لهي مصدر قوة وضعف في آن. فإذا كانت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ترى نفسها لاعبًا في إطار القانون الدولي فهل هذا معناه أنها لا تخرج عن هذا الإطار؟ أي آليات لدينا لكسر السقف الذي يفرضه القانون والمجتمع الدولي؟
من ناحية، برهنت “حماس” على مدى 37 عامًا من المقاومة (في 31 منها كانت “حماس” رأس حربتها، وفي وقت تسلحت فيه سلطة أوسلو بمفردات السلام والشرعية والقانون وطردت “حماس” من هذا الإطار فأصبحت تعد، في خطاب السلطة وفي الخطاب الرسمي العربي والعالمي وفي الإعلام، إرهابية) أن هذه الأطر لا تردعها عن استمرار العمل المقاوم؛ وجرؤت على أن تصدع بذلك عندما وجدت في ذلك مصلحتها (كما في تصريح أبي عبيدة عن “قتل الرهائن”). ولكنها برهنت في نفس الوقت (وهذا كما قلت مصدر قوة ومصدر ضعف) على أن معركتها لا تخرج عن ساحة فلسطين وعن هذا الإطار الذي يصيغ النضال ووجهته ضمن مفردات المنظومة الدولية. وقد قيل ذات يوم إن صفقة سرية تمت بين الحركة وبين الولايات المتحدة أطلقت الأخيرة بموجبها سراح موسى أبو مرزوق في مقابل تعهد الحركة بعدم استهداف المصالح الأمريكية؛ لم أجد دليلًا دامغًا، ولكن يبقى في كل الحالات أن المصالح الأمريكية لا تقع ضمن ساحة الصراع التي ترتأيها “حماس” لنفسها. المشكلة هنا أن “حماس”، وفلسطين، وأي حركة تحرر، هي ضمن ساحة الصراع التي ترتأيها المصالح الأمريكية لنفسها.
الشِرعة الدولية أم الإمبريالية؟
ما يتبقى هو التعامل مع هذه المنظومة الدولية كمنظومة إمبريالية؛ فهل الذي نطمح إليه هو استقلال داخل هذه المنظومة الدولية وبما تسمح به مؤسساتها، وسقفه ما انتزع في ساحة المؤسسات الدولية أيام الحرب الباردة وصعود حركات التحرر الوطني والعالم الثالث ثم لم يعد له نفس التأثير على الأرض في عصر الهيمنة الأمريكية، أم أن الهدف هو الخروج تمامًا من هذه المنظومة إلى عالم جديد؟
إن الأحداث الأخيرة قد كشفت مدى الارتباط العضوي ما بين كيان العدو وبين كيان الإمبريالية الأمريكية؛ فالجنون الذي أصاب الغرب ووسائل إعلامه، وتجييش الجيوش لتأتي إلى المنطقة (لتردع حلفاء المقاومة لتقدم مساعدات لوجستية للعدو إن لم يكن للمشاركة مباشرة في القتال)، وزيادة سعاره أمام ما يقوم به اليمن، كلها دلائل على أن الإمبريالية ترى أمن “إسرائيل” من أمنها، وتشعر أنها قد استُهدفت مباشرةً في 7 أكتوبر.
من هنا تأتي أهمية ما تقوم به “أنصار الله” في اليمن من تعطيل شبكة الإمداد الإمبريالي (وهذه دونها الحرب كما هو واضح من التصعيد الأمريكي البريطاني الأخير) وأهمية دور هذا الحليف الذي يرى بوضوح شديد أن المعركة هي مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويفهم دور شبكة الدعم الإمبريالي المالية واللوجستية لكيان العدو، ويتبع هذا الفهم بالفعل فيشل هذه الشبكة وإن استدعى ذلك مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة وأذنابها، ولا يهمه إن كان ما يقوم به “قرصنةً” تخالف القانون الدولي، وهنا، وبغض النظر عن أي ذرائع قانونية لإغلاق ممرات الملاحة الدولية من أجل وقف العدوان الإسرائيلي، نرى أن قوة حركة “أنصار الله” وضعفها، على النقيض من الوضع مع “حماس”، هي أنها تقع خارج هذه المنظومة الرسمية والقانونية إذ ليست هي الحكومة المعترف بها دوليًا.
بكل الوسائل الممكنة
أخيرًا، بدلًا من التفكير في المقاومة في إطار القانون الدولي، لنفكر في القانون الدولي في إطار المقاومة. على علات هذا القانون الدولي ونواقصه، فإن وثيقة “حماس” تعطي هذا القانون روحًا. وإذ صدرت قبيل صدور القرار الأولي للمحكمة الدولية، فإن الوثيقة تضع لنا الإطار الصحيح لقراءة الحكم واستنباط آثاره. لا معنى لأن ننتظر من حكم المحكمة أن ينزع من ممارسات الاحتلال شرعيتها، فلا الكيان يحارب من أجل أن تكون أفعاله شرعية ولا نحن نحارب من أجل رفع الشرعية عنها، وإن أدين فلن يكف (ولا آلية تنفيذ لقرارات “الشرعية الدولية” إلا مجلس الأمن حيث لأمريكا حق الفيتو). ولكن حكم المحكمة لا يظل “حبرًا على ورق” إن تحولت المرافعة والقرار إلى فرصة لحشد الرأي العام ضد الكيان من أجل مقاطعته ومحاصرته ومقاومته في كل مكان.
إنّ حربنا – وهذه تدركها المقاومة أكثر مما ندركها نحن – ليست من أجل استعادة روح القانون الدولي ولكن من أجل التحرر من الإمبريالية وكل أدواتها.