عاجلًا أم آجلًا، سينتهي العدوان على غزة، وسيتعيّن على الأطراف المسؤولة عنه الخروج بصيغة سياسيّة تقبل بها المقاومة الفلسطينية التي أثبتت صمودها وصمود المحور الداعم لها في وجه أمريكا ومخلبها الصهيوني. فالحرب بشكلها الحالي لا تناسب العدوّ الأمريكي بسبب التهديد الكبير الذي يواجهه على صعيد تأمين نفوذه في المنطقة وأمن الملاحة البحرية المرتبطة بهيكل النظام الاقتصادي العالمي الذي تديره أمريكا. وقد بدأت الطروحات السياسية المرافقة لوقف إطلاق النار تطفو على سطح التسريبات الإعلامية المترافقة مع حملة ضعوطات كثيفة تشنّها جبهة “الحلّ الأمريكي” بأطرافها الغربية والعربية، وحتى الفلسطينية، على المقاومة الفلسطينية صاحبة القرار في الميدان للقبول بمبدأ “الدولة الفلسطينية”. فكيف نفهم طرح الدولة الفلسطينية؟ وأيّ شكلٍ لهذا الطرح يعدّ نصرًا للشعب الفلسطيني ولكل شعوب المنطقة؟
طُعم الهزيمة
ليست فكرة “الدولة الفلسطينية” وليدة اللحظة، لكنّ فهمها كجوهر وشكل مرتبطٌ بشكل أساسي بطبيعة الحرب القائمة في بلادنا وموازين القوى في اللحظة الزمنية. ولعلّ الطرح الأول للدولة الفلسطينية جاء في قرار التقسيم رقم 181 الصادر عام 1947. وفي ذلك القرار، جاء تقسيم الخريطة ليؤمن حاجات الحركة الصهيونية في السيطرة على الموانئ والشريط الساحلي والنقب، فيما كانت “الدولة الفلسطينية” المقترحة عبارة عن نموذج أوّلي من خارطة “غزة-أريحا” التي أصبحت في ما بعد عمود الدولة المقترحة في مخططات الحل السياسي الأمريكية. ومن البديهي إدراك أنّ آباء المشروع الصهيوني لن يسمحوا بقيام دولة فلسطينية في أي بقعة في العالم إن لم تتوافق مع شروط أمن “إسرائيل” وتأمين كعبها العالي على كل شعوب المنطقة.
وبالنظر لموازين القوى، يبدو واضحًا أنّ طرح الدولة الفلسطينية في قرار التقسيم لم يكن سوى عملية خداع سياسي هدفها تشريع حلقة الإبادة التي نفّذت عام 1948. أمّا الطرح الثاني للدولة الفلسطينية، فهو طرح “الضفة-غزة” الذي وافقت عليه قيادة منظمة التحرير عام 1993 رغم تنافيه مع المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الثورة الفلسطينية المعاصرة. وبالرغم من كلّ التنازلات السياسية والأمنية وفروض الطاعة التي قدّمها قادة المنظمة من ياسرعرفات حتى محمود عباس ومن يتجهّز لخلافته، اتضح أنّ “أوسلو” لم تكن إلا متاهة سياسية هدفها الانقلاب على الانتفاضة الأولى وتحضير “طبخة” الاستيطان على نار هادئة وبحماية فلسطينية تخفف من تكاليف الاحتلال. وخلال العقد الأخير، استحالت فكرة “الدولة الفلسطينية” ضمن حلّ الدولتين نتيجة تغوّل الاستيطان في الضفة والقدس وحصار غزة حتى القضاء على مقاومتها ببطء أو بضربة قاضية.
الدولة الفلسطينية المُصاغة ضمن الحلّ الأمريكي شرطها الأول الهزيمة الفلسطينية، وخطورتها الأكبر تكمن في تقديم فكرة الدولة على مسار التحرر
ومن هنا، تتضح حقيقة التمسّك الأمريكي-الغربي بفكرة “الدولة الفلسطينية”، والذي تروّج له نخب أوسلو وإعلام القواعد العسكرية الأمريكية على أنه “اعتراف بالحق الفلسطيني”، لكنّ سياق هذه الدولة لا يمكن أن يأتي خارج سياق المشروع الاستعماري وشروطه، مما يعني عمليًّا قيام كيان “فلسطيني” الهيئة صهيونيّ الغاية. ولهذا السبب، فإنّ أقصى ما تم تقديمه لقيادة منظمة التحرير لقاء تخلّيها عن الثوابت الفلسطينية ومساعدتها في قمع التهديد المتمثّل في الانتفاضة الأولى، هو كيان “السلطة الفلسطينية”، التي جاءت بعد هزيمة منظمة التحرير عام 1982 ووضوح الخيار الساداتي الذي انتهجته قيادتها منذ عام 1974. بالتالي، يمكننا أن نجد علاقة مباشرة بين ظهور فكرة الدولة الفلسطينية وبين اختلال موازين القوى في الحرب على الشعب الفلسطيني. فالدولة الفلسطينية التي تروّج لها أمريكا ليست إلا “الطُعم” الذي يتم تقديمه لتثبيت كفة الهيمنة لصالح الصهاينة على أرض فلسطين مقابل “مكاسب” شكليّة لنواطير يراقبون استواء طبخة الإبادة على نار هادئة لفترة مؤقتة.
وعليه، فإنّ الدولة الفلسطينية المُصاغة ضمن الحلّ الأمريكي شرطها الأول الهزيمة الفلسطينية، وخطورتها الأكبر تكمن في تقديم فكرة الدولة على مسار التحرر، فتصبح “السجادة الحمراء” و”النشيد” والعلم و”الاعتراف الدولي” غاياتٌ بذاتها، عوض أن تكون مكتسبات جانبيّة للغاية الأساسية، وهي تحرير الأرض والتحرر من الهيمنة الأمريكية.
سقف الثبات
على صعيد آخر، تتمسّك فصائل المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة بخطاب الدولة الفلسطينية الواحدة على كامل أرض فلسطين كطرح فلسطيني لـ”حلّ القضية الفلسطينية”. وعلى الرغم من الاتهامات التي يتلقّاها هذا الطرح لناحية عدم واقعيّته ضمن موازين القوى القائم اليوم، إلا أنّ ميزة هذا الطرح تكمن في التمسّك بأولوية التحرّر على “الدولة”. فالدولة الفلسطينية الواحدة شرطها انتصار الشعب الفلسطيني في فرض شروطه على الاستعمار، مما يشمل فرض عودة اللاجئين وطرد المستعمِرين وتحقيق سيادة فلسطينية كاملة على الأرض الفلسطينية الكاملة. وتحقيق هذه الشروط غير ممكن ضمن فلك الهيمنة الأمريكية، مما يعني تلقائيًا أنّ الدولة الفلسطينية المستقلة (فعلًا) ستكون نتيجة من نتائج هزيمة المشروع الأمريكي في المنطقة. وهذه الهزيمة لن ينحصر مسرحها على الـ 27027 كلم مربع، بل ستشمل كلّ أركان الهيمنة في المنطقة العربية من تقسيم وقواعد عسكرية تحرس نهب الموارد. بمعنى أبسط، فإنّ التحرّر الفلسطيني من الاستعمار الصهيوني هو وجهٌ من أوجه تحرير المنطقة من الهيمنة الأمريكية، وتلك هي الأولوية التي تسير عليها قوى المقاومة في المنطقة، وعلى رأسها المقاومة الفلسطينية التي أثبتت مصداقيّتها وثباتها على هذه الأولوية من خلال معركتي “سيف القدس” و”طوفان الأقصى”.
لكن، ماذا بعد؟ الكلّ يجمع أنّ نهاية العدوان على غزة سياسيًا ستكون ضمن إطار سياسيّ ستطرح فيه فكرة الدولة الفلسطينية حتمًا. من جهة الغرب الاستعماري، يُراد لهذه الدولة أن تكون طُعمًا جديدًا لاستكمال خطوات الإبادة بأدوات مختلفة، ومن جهة فصائل المقاومة، فإنّ تثبيت المكاسب الفلسطينية وردع العدو سيكون أدنى الشروط أمام حجم مكاسب وتضحيات “طوفان الأقصى”. وبالتالي نحن أمام مفاوضات لا تقبل الحلول الوسط، فالمكسب الفلسطيني هزيمة مدويّة للمشروع الأمريكي، والتنازل الفلسطيني ضربةٌ قاضية لشعوب المنطقة. ومن هذا المنطلق، ولأنّ الدولة الفلسطينية ستكون محور هذا التجاذب، لا بدّ أن نعيد طرح جوهر المُراد في قضية الدولة الفلسطينية كما جاء بقلم الشهيد غسان كنفاني في نص “المقاومة هي الأصل”:
“إنّ حركة إنشاء دولة فلسطين يجب أن تترافق حتمًا مع حركة إنشاء الإنسان الفلسطيني الجديد. […] وأنا أعتقد أنّ الدعوة إلى أرض ينبغي لها أن تترافق مع دعوة إلى خلق علاقة جديدة فيما بين الفلسطينيين، وبينهم وبين الدول العربية، وهذه مسألة موازية في الأهمية لمسألة إنشاء الدولة الفلسطينية، لأن الدولة هذه لن تنشأ لتكون دولة عادية، إنها دولة-مرحلة، دولة-مهمة، دولة-رسالة، وهو ما يعني فورًا أنّه من المطلوب -جنبًا إلى جنب مع خلق دولة فلسطين- خلق شعب قضية هذه الدولة”.
وبناءً على هذا، واستجابة لنداءات قادة المقاومة الفلسطينية، بات من الواجب علينا كفلسطينيين أن نحدّد “المهمة” التي يقتضيها وجودنا على هذه الأرض وعودتنا إليها، وهي مهمّة مبتدأة منذ ما قبل المشروع الصهيوني في بلادنا، ولا بدّ لها أن تستمرّ بعد زواله. فنحن الفلسطينيون، أبناء الأرض الممتدة من ساحل المتوسّط إلى نهر الأردن، ومن الجليل حتى النقب، أيّ دورٍ لنا في السياق السياسي والجغرافي والتاريخي؟ وللإجابة على هذا السؤال قد نستقي بعض جوانبها من مخططات أعدائنا:
فإذا كانت “إسرائيل” هي العائق الجغرافي بين مصر والشام، ففلسطين هي العقدة الجغرافية والسياسية والثقافية لجناحي الأمة.
وإذا كانت “إسرائيل” سكّينًا يفرّق محيط الأمة عن خليجها، ففلسطين هي الخيط الذي يضمّد الجرح.
وإذا كانت “إسرائيل” هي أداة الهيمنة الغربية على بلاد العرب، ففلسطين هي ساحة الاستقلال الحقيقي للأمة العربية وبوابة صعودها على سلّم القوة بين الأمم.
هذه هي فلسطين المستدامة، ولتحقيقها، علينا أن نرتقي بذواتنا إلى مستوى المهمّة لكي نستحقّ لقب “شعب فلسطين”.