“اليوم الخامس والستين من الإبادة. هذا كان فطوري اليوم [تشير إلى صورة برتقالة متعفنة الرأس]. أصبح العثور على الحمضيات شبه مستحيل تحت القصف، فحين أجد أي نوع من الطعام، حتى لو كان عليه عفن، أقطع الجزء المتعفن وآكله. أدرك أن هذا ليس جيدًا للصحة، لكن ما قيمة الصحة أمام كل شيء نواجهه؟” – بيسان عودة، حكواتيه أصبحت صحفية بسبب الحرب، غزة، 11 كانون أول 2023.
سارعت جهات مختلفة حول العالم لتعريف الحرب القائمة منذ 7 تشرين أول على غزة على أنها حرب إبادة جماعية. ونشب بذلك جدال عالميّ على مدى دقة هذا الاتهام، إلّا أن ممارسات جيش الكيان الصهيوني وتصريحات ممثليه لا تترك مجالًا للشك في إسقاط التهمة عليهم. تتكوّن “الإبادة الجماعية” في المخيّلة العامة من قصف الصواريخ وإطلاق القذائف والرصاص بنية قتل وإصابة أكبر عدد من أفراد مجموعة. فعندما نستحضر أمثلة عن الإبادة عبر التاريخ نجد تعرّض مئات الآلاف للقتل المباشر. لكن جريمة الإبادة لا تتطلب القتل المباشر. فبحسب تعريف جريمة الإبادة الجماعية، الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1948 بكل سخرية، هناك أربعة أشكال للإبادة الجماعية بالإضافة إلى القتل المباشر، وهي:
إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير، ومنع الجماعة من إنجاب الأطفال، ونقل أطفال من الجماعة إلى جماعة أخرى، وإخضاع الجماعة لظروف معيشية تؤدي لتدميرها المادي الكلي أو الجزئي.
إنّ القتل المباشر وإلحاق الأذى الجسدي والروحي هما بالطبع طريقتان مروّعتان ينفذ من خلالهما جيش الاحتلال جريمة الإبادة بحق شعبنا، يستعرض فيها قوته بأساليب وتقنيات فظيعة، ويكشف بها هشاشته. إلا أن الشكل الأخير للإبادة (إخضاع الجماعة لظروف معيشية تؤدي لتدميرها المادي الكلي أو الجزئي) لا يقل أهمية عن العنف المباشر. وذلك بسبب الضرر الذي يلحقه هذا العنف الممنهج بالجماعة حتى بعد إعلان “انتهاء الحرب”، أي وقف إطلاق النار والتوغل والقصف، حيث يستمر القتل بسبب الظروف المعيشية. في الوقت ذاته، يحوّل استهداف كافة نواحي الحياة أبسط الممارسات اليومية في قطاع غزة إلى أفعال مقاومة، تذكّرنا بأن مقاومة الإبادة الجماعية تشمل كل فرد من الجماعة فكريًا وعمليًا.
إنّ إخضاع الجماعة (الشعب الفلسطيني في هذه الحالة) لظروف معيشية تؤدي لتدميرها يقع دومًا في جوهر المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. عندما استقال كريغ مخيبر من موقعه كمدير مكتب نيويورك للمفوضية العامة لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ذكر أن ما يحدث في فلسطين هو “مثال نموذجي” (textbook case) للإبادة الجماعية. ولم تقتصر إفادته على الحرب القائمة منذ 7 تشرين الأول فحسب، بل فصّل مخيبر أنه يستند بتحليله، بالإضافة إلى النوايا المعلنة لممثلي حكومة وجيش الكيان وأفعاله في غزة، إلى الاستيطان بوسائله المختلفة في الضفة الغربية، واعتداءات المستوطنين المدعومة من قبل الجيش، ونظام الفصل العنصري القائم في كافة أنحاء فلسطين. فما يحصل في غزة الآن هو امتداد وتسارع لمشروع إبادة يعرضنا منذ 75 عامًا لكافة أشكال جريمة الإبادة، بوتيرة متفاوتة.
عندما ننظر إلى العوامل التي يهدف من خلالها الاحتلال تدمير صحتنا، يمكننا فهم أن الاحتلال يهدف لتفكيك وتحطيم المجتمع بشكل كامل
من المهم التعمق بالظروف المعيشية التي يفرضها الاحتلال في الوقت الحالي والتي تهدف إلى جعل القطاع غير صالح للعيش. في سياق النظام الصحي تحديدًا، يؤكد الدكتور غسان أبو ستة، الذي عمل في مستشفيات مختلفة في غزة خلال هذه الحرب وحروب سابقة بالإضافة لحروب أخرى في المنطقة، أن “تدمير النظام الصحي شكّل الدافع الأساسي للاستراتيجية العسكرية” لجيش الاحتلال خلال الحرب الحالية. يشكّل القطاع الصحي إحدى القطاعات الرئيسية لضمان استمرار الحياة، وهذه المركزية في صلب أسباب استهدافه، تمامًا كما يستهدف الاحتلال البنية التحتية سواء في غزة أو الأغوار والنقب ومسافر يطا ومخيمات جنين وطولكرم. علاوة على ذلك، للقطاع الصحي أيضًا أهمية اجتماعية إذ أنه يلمس جميع أفراد المجتمع، حيث تحدث الكثير من أهم لحظات الحياة في المرافق الصحية، من ولادة وشفاء إلى مرض وموت.
تروي الطواقم الطبية ووزارة الصحة والمنصات الإعلامية استهداف القطاع الصحي من خلال قصف واقتحام المرافق الصحية والاعتداء على الطواقم الصحية واغتيال عدد كبير منهم. رصدت منظمة الصحة العالمية 213 اعتداءً على مرافق وطواقم الصحة منذ اندلاع الحرب حتى 7 كانون أول. وأدّت هذه الاعتداءات إلى إلحاق أضرار بـ 24 من أصل 36 مستشفى في قطاع غزة واستشهاد 565 شخصًا معظمهم ممن كانوا يستخدمون ساحات المستشفيات كمراكز إيواء كما حصل في مجزرة المعمداني. خلال الفترة ذاتها، استشهد 278 عامل صحة واختطف 41. العنف المباشر هذا كفيل لوحده بتعطيل جزء كبير من القطاع الصحي، إلا أنه يتراكم فوق عنف ممنهج لا يتطلب إطلاق رصاصة واحدة.
حين اندلعت الحرب، قطع الكيان الصهيوني الكهرباء والوقود والماء وأغلق معابر إيرز وكرم أبو سالم. وتواطأ النظام المصري بتشديد الحصار بإغلاقه معبر رفح بشكل كامل لعدة أسابيع قبل فتحه بشكل جزئي وتحت سيطرة تامة لسلطات الاحتلال. تحوّل بذلك النظام الصحي في إلى حالة طوارئ منذ الأيام الأولى للحرب. وذلك لإدراك الطواقم أن عليهم الاقتصاد بالمعدات والوقود والأدوية لعدم القدرة على الحصول عليها من الخارج حتى إشعار آخر. وكان على هذه المواد أن تخدم كافة الاحتياجات الروتينية للأمراض الحادة والمزمنة بالإضافة للإصابات المتوقع استقبالها بأعداد هائلة فور بدء القصف، بناءً على التجارب العديدة السابقة في الحروب.
وبالفعل، سرعان ما نفد الوقود الاحتياطي المخزّن وتوالت أخبار عن توقف مولدات المستشفيات الاحتياطية، المصممة للعمل لساعات محدودة والتي عملت لعدة أيام متواصلة، بعد نفاد مخزون المستشفيات ثم مخزون المؤسسات المختلفة وعلى رأسها وزارة الصحة ووكالة الغوث (الأونروا). نفدت سريعًا أيضًا العديد من المعدات الطبية والجراحية والأدوية إلى أن وصلت الحال إلى استخدام الخل وصابون الجلي لمعالجة التهابات الجروح والوقاية منها على سبيل المثال. وتوقفت عدة مستشفيات عن العمل أو اضطرت إلى إغلاق أقسام وإيقاف خدمات مثل خدمات السرطان في بداية شهر تشرين ثاني، أو تقديم خدمات تحت ظروف قاسية للغاية مثل القيام بالعمليات الجراحية دون تخدير. واليوم يعمل تقريبًا ثلث المستشفيات ومراكز الرعاية الأولية في قطاع غزة فقط. وهذا رغم أن النظام الصحي في قطاع غزة يملك قدرة استثنائية على التأقلم مع الظروف الشديدة وذلك بشهادة الطواقم الطبية ذوي الخبرات في مختلف أنحاء العالم.
ضاعف قطع الاتصال الأزمة حيث فقد سكان القطاع قدرتهم على التواصل مع بعضهم البعض ومع الخارج حتى للإبلاغ عن مواقع وتفاصيل القصف. حصل ذلك في ذروة العدوان على شمال قطاع غزة الذي ركّز على تركيع النظام الصحي بمحاصرة المستشفيات وقصفها واقتحامها. وتوقفت وزارة الصحة حتى عن تقديم بيانات عن أعداد الشهداء والجرحى لعدة أسابيع بسبب الانهيار المذكور وانقطاع الاتصال. وحال انقطاع الاتصال دون القدرة على تنسيق توزيع الموارد في المواقع بأمسّ الحاجة لها.
تذكرنا الممارسات الحالية والتاريخية التي يقاوم من خلالها شعبناعالم الموت أن لكافة أعضاء المجتمع دور في مقاومة الإبادة
لكل هذه العوامل أثر مباشر على النظام الصحي. وستمتد تداعيات انهيار القطاع الصحي إلى ما بعد الحرب بسبب المضاعفات التي ستطرأ على ذوي الأمراض المزمنة دون توفّر المراجعات والأدوية الروتينية، وحالات الأمراض الحادة والأمراض المزمنة الجديدة التي لن يتم تشخيصها ومعالجتها بالسرعة اللازمة، والاحتياجات الإضافية الهائلة بسبب الكم الكبير من إصابات الحرب.
للأسف، لا يتوقف العنف هنا بل يتجذّر، لأن الحرب تخلق حالة صحية متدنية بسبب استهداف الاحتلال البنية التحتية والمرافق الأساسية للحياة. فبالإضافة إلى قطع المياه، عطّل الكيان الصهيوني القدرة على الحصول على مياه نظيفة من خلال قطع الوقود وتلويث الآبار وتدمير محطات تحلية المياه. وتعطّل ضخ مياه المجاري والذي يؤدي أيضًا إلى تلوث مصادر مياه الشرب. ويصعب الحصول على الطعام والوقود بسبب إغلاق الاحتلال المعابر المؤدية إلى قطاع غزة ومن ثم فتحها بصورة جزئية وغير كافية، وقطع الطرق بين مناطق قطاع غزة، وقصف معظم المخابز. وقصف الاحتلال أيضًا شرائح الطاقة الشمسية على أسطحة البيوت وهدم أو ألحق الضرر في معظم البيوت في قطاع غزة بنسبة وصلت 61 % حسب آخر تقديرات الجهات الرسمية في غزة.
أدّت الحرب بأشكالها كافة إلى نزوح ما يقدّر بـ 1.9 مليون شخص (من أصل 2.3 مليون نسمة في قطاع غزة). توجه أغلبية النازحين (1.4 مليون) إلى مراكز الإيواء الرسمية المكتظة للغاية حيث يتشاركون في مرافق تتسع فقط لنسبة بسيطة من هذا الكم الهائل. رأينا الناس تستخدم الساحات الخارجية للمدارس للنوم، والكثير يستخدمون الخيم المعرّضة للبرد والرطوبة، ناهيك عن عدم توفيرها الراحة اليومية اللازمة. ويتشارك ما يعادل 700 شخص بكل حمام، أي بمعدّل دقيقتين لكل شخص في اليوم، و160 بكل مرحاض، أي بمعدّل 9 دقائق لكل شخص في اليوم.
تعرّض كل الظروف المعيشية هذه سكان غزة إلى انتشار الأمراض. وثّقت منظمة الصحة العالمية ارتفاعًا شديدًا بمؤشرات الأمراض المعدية تصل إلى عشرين ضعف المعدل في بعض أنواع الأمراض. وتورد تقارير شبه يومية عن موت البعض من الجوع. وتتسبب هذه الأوضاع غير الصحية بتطوّر الأمراض المزمنة ومضاعفاتها، والتي لا يستطيع القطاع الصحي تحمّل أعبائها حاليًا أو في المستقبل القريب.
تشكّل كل هذه العوامل ما سمّاه المفكّر الكاميروني أشيل مبيمبي “عالم الموت” حيث تُخضع السلطة المتحكمة السكان لظروف تصل بهم إلى حالة “الموتى الأحياء”، من خلال ممارسة ما يسميه مبيمبي “سياسة الموت” necropolitics. حيث يستخدم الاحتلال سلطته للسماح لمن يريد بالحياة وفرض الموت على من يريد دون إطلاقه النار. لذلك، عندما ننظر إلى العوامل التي يهدف من خلالها الاحتلال تدمير صحتنا، يمكننا فهم أن الاحتلال يهدف لتفكيك وتحطيم المجتمع بشكل كامل وبكافة مكوناته لمضاعفة أضرار القصف ولاستكمال الإبادة حتى بعد وقف إطلاق النار.
يمكننا هنا أيضًا فهم أهمية المقاومة الشاملة لعالم الموت في غزة. تبهرنا في كل يوم مشاهد تظهر إصرار شعبنا على الحياة بمشاهد وصول الجرحى عبر شوارع محطمة إلى المستشفيات التي لا زالت تعمل رغم كل محاولات الاحتلال على إخضاعها. قد نتفاجأ بعودة الطواقم التي لم تستشهد أو تعتقل أو تنزح إلى مستشفيات “الشفاء” و”العودة” و”كمال عدوان” لاستصلاح ما يمكن استصلاحه وعودتهم لاستقبال بعض المرضى. ونرى عوائل الجرحى وهي تحمل الدواء الموصول بأوردتهم وهم مستلقون على أرض المستشفيات. ويشهد العاملون في قطاع الصحة أن جميع الكادر يعمل حتى الرمق الأخير ويتوجه إلى العمل في مركز صحي مجاور فور انتهاء دوامهم في مركزهم الأصلي. ورأينا عند قطع الاتصال اعتماد السكان على الصراخ من شرفات المنازل لتوجيه طواقم الدفاع المدني نحو مواقع القصف والإصابات، وتشكّلت لجان لمحاولة رصد أعداد ضحايا الحرب عندما توقفت تقارير وزارة الصحة. وغيرها الكثير من الابتكارات التقنية والاجتماعية لاسترجاع أكبر قدر ممكن من أساسيات الحياة. ونرى تعاضدًا أسطوري بين أهالي غزة في استضافة من لا زال بيتهم قائمًا لأقرباء وغرباء ويحتضن الناس الأطفال الناجين الوحيدين من عائلاتهم، وتنقل مواقع التواصل الاجتماعي تبادل الطعام المطهي على الحطب في المخيمات، وفي هذه المشاهد إصرار ليس فقط على الحياة بل حتى على الحفاظ على النسيج الاجتماعي.
على صعيد القطاع الصحي بشكل خاص، هذه المقاومة هي امتداد لإرث طويل وتاريخ غني لمقاومة شعبنا منذ النكبة. ففي عام 1952 أسّس جورج حبش ووديع حداد عيادة الشعب المجانية في مخيم الوحدات ونبع ذلك من فهم “حركة القوميين العرب” أهمية صحة المجتمع الفلسطيني في دعم صمود ومقاومة الشعب. وتأسّست “جمعية المقاصد الخيرية” في القدس عام 1956 لتوفير خدمات صحية واجتماعية ملتصقة بحال المجتمع وكان تأسيس مستشفى “المقاصد” عام 1967 غير منفصل عن المقاومة لبسط السيطرة الفلسطينية على المساحات والمرافق الفلسطينية في القدس. ورافق “الهلال الأحمر” الثورة الفلسطينية منذ 1972 في المخيمات خاصة في لبنان وتبنى خطابًا ثوريًا توجه فيه لكل العالم. وتأسست لجان العمل الصحي ولجان الإغاثة الطبية في منتصف الثمانينيات للتأكيد على أهمية حصول كافة شرائح المجتمع على الخدمات الصحية بغض النظر عن إرادة الاحتلال تهميش أغلبية المجتمع الفلسطيني من خلال عدم توفير الخدمات وتواطؤ طبقة النخبة الطبية في ذلك للحفاظ على مكانتهم المجتمعية. ولا يمكن فصل هذه التجارب عن الحركات الثورية العالمية ومنها الثورة الكوبية منذ 1953 التي اعتبرت توفير الخدمات الصحية لكافة الشعب جزءًا أساسيًا من الثورة، وحزب “الفهود السود” في الولايات المتحدة الذي ألزم جميع أفرعه تأسيس عيادات مجانية في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، وثورة توماس سنكارا في بوركينا فاسو عند توليه الرئاسة في منتصف الثمانينات.
تذكرنا الممارسات الحالية والتاريخية التي يقاوم من خلالها شعبناعالم الموت أن لكافة أعضاء المجتمع دور في مقاومة الإبادة. ففي مقابل الظروف المعيشية التي يفرضها الاحتلال لتمدير مجتمعنا، علينا الرد ببناء مجتمع يخلق ظروف معيشية تمكّننا من نيل الصحة والعافية واحتضان المقاومة.