ليست المقولات الثنائية الحادّة عن الخير والشر، الأبيض والأسود، الأوروبي وغير الأوروبي، اليهودي وغير اليهودي، الأنا والآخر، درسًا جديدًا يشهده ويتابعه العالم. فالمقولات الحادة للتفريق بين النور والظلام متجذرة في التصورات اللاهوتية لتمييز النحن عن آخرياتها، ومعتقدات العصور الوسطى وبدايات الاستعمار الحديث وما بعدها حتى اليوم. ولكننا نحن الآن في عثرات عالم لا زال يوسع الشرخ الحادّ بين العالم الأبيض\الحضاري، والعوالم الأخرى\المتوحشة. لا تفتأ تتفتق ادعاءات عن الحضارة والمتحضرين (البيض)، بما فيها من مراكز بحث أوروبية ومراكز أخرى تابعة لها، وجامعات ومراكز تفكير وسلسلة طويلة من مؤسسات المجتمع المدني والحكومية المختصة بحقوق الانسان والأطفال والحيوان والنبات والأكل العضوي وثقوب الأوزون والغذاء العالمي…وسلاسل طويلة من مؤسسات لا تكف عن الكذب حين يتعلق الأمر بالآخرين خارج الجلدة البيضاء.
وحرب الرواية التي نخوضها منذ تكونت الحضارة الأوروبية، نكملها اليوم ودمنا على أكفنا وسلاحنا، ولكننا نروي ليس لليوم فحسب، وليس للغد فحسب، بل كما روت أسطورة جلجامش قبل 5 آلاف عام سيرة حربه وحبه لأنكيدو العدو. أمّا وعدونا ليس أنكيدو الطفل ليتعلم طقوس الحضارة التي لُقّنها في بلاد الرافدين، التي كانت قبل أن تكون أوروبا وحضارتها التي قامت على جماجم البشر ومحاكم التفتيش في إيطاليا وامتداداتها في العالم وتاريخ كولومبوس المروع، ومحرقة الساحرات في القرن السادس عشر… وصولًا لأطفال غزة في العام 2023، فإننا، وعدونا ليس أنكيدو، والفلسطيني ليس جلجامش، لن ننسى طوفان جلجامش التاريخي (اوتنابشتم)، والطوفان الفلسطيني قد بدأ.
فمنذ العبور الفلسطيني لما سمي “غلاف غزة” في السابع من أكتوبر، اختارت المقاومة الفلسطينية اسم “طوفان الأقصى” له، بما تحمله لفظة الطوفان من حمولات تاريخية ودينية حول محكّ تاريخي بلغت فيه البشرية أقصى مراحل فسادها فكان الطوفان المهول الذي أغرق الأرض بكل ما عليها ومن فيها، لكن يد الخير توسّلت النجاة فصنعت من حطام الأرض سفينة، وكانت النجاة التي كنست الشرّ وأنقذت البشرية. وبالتالي فليس من قبيل المصادفة أن تختار المقاومة هذا المسمّى لوصف عملية السابع من أكتوبر. لكنما والنجاة تحتم المرور بالخراب العميم أيضًا شرطًا لها، فإنّ آلة القتل الصهيونية الأطلسية تشنّ طاحنة على فلسطين بأسرها وإن كانت غزة هي الميدان الأساس اليوم، والتي هي حرب “الإبادة”. وهذا ليس وصفًا مجازيًا لما تقوم به آلة القتل بكل ترسانتها العسكرية والاستخباراتية والتكنولوجية والبشرية، بل هي واقع وهدف معلن للإبادة، ولمحو الفلسطيني فلا يعود موجودًا ليشهد النجاة بعد الطوفان.
فحرب الإبادة الشاملة هذه تستهدف محْواً فلسطينيًا؛ بالقضاء على كافة أشكال الحياة في غزة، وليس من قبيل صدف الحرب أن يتم استهداف النساء والأطفال كهدف مقصود، فمنذ شنّ العدوان الأطلسي الحرب على غزة كان السعي نحو القضاء على البشر عامة بالمجازر الجماعية له، وتحديدًا القضاء على الأطفال. وإن كان جحيم الإبادة الجماعية المستمرة، والمرئية والمسموعة لا تحتاج الى إثباتات، إلا أن هذه بعض الوقائع:
تم منذ بدء الحرب قطع الماء عن مليوني ونصف المليون شخص في غزة، وتجويع شديد للسكان بقصف المخابز ومخازن المحلات التجارية وبمنع المساعدات الغذائية والدوائية من الدخول إلى غزة، وقطع الكهرباء والاتصالات وعزل غزة عن العام الخارجي، ومنع إدخال الوقود الذي يعد شريان الحياة الأول لعمل المستشفيات بما فيها ثلاجات الموتى، ولمزدوات الحياة عمومًا في ما تبقى من مخابز وصيدليات ومحال تجارية لم تقصف بعد.
ينضاف إلى وقائع الإبادة الشاملة هذه دفن الفلسطيني حيًا تحت الأنقاض بعمليات القصف العنيفة والمتكررة التي تستهدف أحياءً بأكملها، تحولت إلى أكوام هائلة للردم، مما يحول دون إمكان إخراج الأحياء من تحتها. وهناك الكثير من الشهادات عن أحياء نجوا من القصف وارتقوا اختناقًا تحت الردم والأنقاض. ولا يقتصر الأمر على السعي لإفناء الفلسطيني بكافة الوسائل، بل يمتد، نتاجًا لكل ما سبق، إلى تهيئة كل الظروف الممكنة لانتشار الأوبئة الجلدية والتنفسية ناهيك عن الصدمات النفسية العميقة والشروخات المجتمعية والعائلية الحادة، بالكم الكبير من الأطفال الذين تبقوا دون عائلات، أو العائلات التي أبيدت بشكل كامل، وبقي بعض أفرادها وحيدين.
ولا يمكن القول بتاتًا إنّ ذلك نتاج للآلة العسكرية الصهيونية فحسب، فالمجتمع الصهيوني كله معسكر، وكله يخدم آلة القتل ويبرر لها أفعالها، كما ويرفض التعامل معها على أنها حرب بين بشر، بل بين قوى الخير وقوى الظلام، بين شعب الله المختار، وشعب لم يوجد بعد.
في واقعة حصلت في الكنيست الصهيوني بتاريخ 16 أكتوبر ألقت النائبة العربية عايدة توما سليمان في كلمتها مقولات عن حقوق الأطفال في الحرب وأن “الطفل هو وطفل سواء كان في غلاف غزة أو من غزة نفسها”، بينما قاطعتها بشراسة نائبة صهيونية أخرى رافضة وبعنف المقاربة بين أطفال اليهود وأطفال العرب، قائلة بأنه لا مقارنة بينهما إذ لا مقارنة بين أطفال النور\أطفال اليهود، وأطفال الظلام\أطفال العرب، وأن الأطفال الفلسطينيين قد جنوا على أنفسهم. وكأن أطفال النور الإلهي، من اليهود، تليق بهم الحياة، وأطفال الظلام، من الآخرين، يجب أن يموتوا.
ينضاف إلى ذلك سلسلة الجرائم الصهيونية العنصرية مستمرة، وإن كان لفظ العنصرية يبدو رفاهية في هذه الحرب، فنذكر واقعة رمي قطعان من المستوطنين في الضفة الغربية لدمى أطفال ملطخة بالدماء أمام المدرسة الأساسية لعرب الكعابنة غرب مدينة أريحا.
ولأنّ الطفل الفلسطيني، كما الكائنات، لا يأتي وحده إلى الحياة، بل تلده أم، فإنّ رحم المرأة الفلسطينية بعين الشر، شرير أيضًا لأنه بوابة الحياة وبدايتها، وبذا فإنّ إبادة المرأة الفلسطينية أيضًا ممنهجة في هذه الحرب ومستهدفة عينًا وقصدًا. والحرب على الرحم الفلسطيني ليست بجديدة على منطق العدو الصهيوني وأدواته[1] لكن ما يستدعي أن نطرحه اليوم للتوثيق والمعرفة التأمل بشرّ الاستعمار الذي لا ينتهي، هو اضطرار النساء الغزيات ومنذ بدء الحرب إلى خذ دواء لإيقاف الدورة البيولوجية في ظل انقطاع السبل للحياة، من ماء وغذاء وأدوات صحية لازمة. وما يجرّه ذلك من مخاطرة على صحة النساء والتسبب بعقم لاحق لهنّ. ناهيك عن حالة الذعر والرعب التي يعشيها الغزيون بين غارة وغارة، وما يمكن أن يسببه ذلك من عقم مستدام. وهذا ديدن للاستعمار، أكان صهيونيًا أم أوروبيًا، حين استعمار أمريكا اللاتينية ساد على لسان المستعمرين إنّه من الأفضل للإمبراطورية أن تقضي على مقاتلي العصابات في أرحام أمهاتهم من أن تقتلهم في الشوارع.
وفي واقعة أخرى على لسان أحد جنرالات العدو المتقاعدين، قال: “امسحوا عائلاتهم وأمهاتهم وأطفالهم”، وهذا الخطاب لا يأتي مرة واحدة ولا لسان فرد، بل هو خطاب جماعي ترعاه كل مؤسسات العدو بكافة أشكالاها من جامعات ومراكز بحثية وسياسية ومجتمعية. وكلها صدى مكرور للأزمة المشروخة لعقيدة “شعب إسرائيل حيّ” الأسطورية القديمة والمحمولة بكثافة على مقولات مرتبط بقَدَرية الاختيار الإلهي لشعب اليهود وحتمية النجاة المستمرة “بالروح اليهودية التي لا تقهر” ولا يفتأ العدو يكررها في كل مكان بالحرب وخارجها.
وبهذا المنطق الاستعماري الدموي، إذا كان شعب إسرائيل حيّ، فإنّ أي “شعب” آخر، ينافسه، يعارضه، يقف بوجه، يجب أن يموت. وبحرب الإبادة المسعورة هذه لم يعد قتل الفلسطيني هدفًا فحسب، لأن الموت دليل للحياة، وإنما الهدف هو المحو والإزالة، وعدم ترك أثر، ولا حتى متبقين ليبكوا ولا ليعلنوا العزاء ولا ليدفنوا. فاليوم لا وقت في غزة للعزاء ولا للحزن.
هذه إذن الإبادة التي تصارع الطوفان، فعلان نقيضان؛ خير الطوفان الفلسطيني وشرّ الإبادة الاستعمارية. فالطوفان الفلسطيني قدّم مزيدًا من النماذج والأمثلة على سقوط الحضارة الأوروبية ومنطقها العنصري المتمركز حول ذاتها فقط، التي تسقط بالمناسبة في كل حروب تواجه الإمبراطورية.
إنّ طوفان جلجامش قد كنس الحضارة السومرية الأضخم، والطوفان الفلسطيني، رغم سعار المقتلة الجماعية، سيكنس ما كان يسمى “حضارة” أوروبية. وكما قال ناجٍ غزيّ خرج حيًا بعد قصف منزله: “هنيئًا لهذا العالم الحرّ، هنيئًا لأوروبا وأنا خرجتُ من تحت الركام”، وغزة ستخرج من تحت الركام.
[1]للمزيد حول الموضوع:
ناصر، خلود. “سؤل الديموغرفيا: بين التوجهات الفلسطينية والإسرائيلية الراهنة“، في مفهمة فلسطين الحديثة: نماذج من المعرفة التحررية. عبدالرحيم الشيخ (اشراف وتحرير). بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2021؛
Shalhoub-Kevorkian, Nadera.The Politics of Birth and the Intimacies of Violence Against Palestinian Women in Occupied East Jerusalem, British Journal of Criminology, Vol 5(66), 2015.