كنت أتجهّز لكتابة هذا المقال قبل التوغل البري الإسرائيلي في غزة وقبل أن تنتشر قصة استهداف سيارة فلسطينية مدنية من قبل إحدى مجنزرات الميركافا في شارع صلاح الدين، عندها صرخ المصور “عيلة كاملة راحت!” وذهب بسيارته في الاتجاه المعاكس وصرخ للسائقين القادمين: “ارجعوا!”. أن تستشهد عائلات بأكملها بطريق القصف الجوي، فهذا نعهده، أما أن ترجع المجنزرة كآلة للقتل، فهذا هو الجديد القديم.
يحب الغرب قصص الانسان في مواجهة المجنزرة إذا كانت مثل هذه القصة تعينه على بناء سرديته، قصة الرجل الذي واجه الدبابة في ساحة “تيان آن مان” في العاصمة الصينية بيكين في عام 1989، أصبحت من إحدى المقدسات في الثقافة السياسية الغربية، أما فيلم “إنقاذ العريف رايان” فهو يعرض مشاهد الجنود الامريكان “المساكين” وهم يواجهون رتلًا من المجنزرات الألمانية، باستخدام المتفجرات البسيطة والعبوات الناسفة المصنوعة من الديناميت المحشو في الجوارب. أما فيلم “الغول” الأمريكي من عام 1988، فهو يحكي قصة طاقم مجنزرة T-55 سوفيتية خلال غزو أفغانستان، ويعرض فيه مشهد قيادة المجنزرة فوق جسد مقاتل أفغاني، فقط من أجل تعذيبه بسادية.
بعيدًا عن الدعاية الصفيقة في الأفلام الأمريكية، لنعد إلى رجل الدبابة الصيني. يقول سلافوي جيجك أن الأحداث الحقيقية، وإن حدثت بالفعل، فإن من يملك القوة والسلطة سيراها بطريقة باثولوجية. هنا يصبح التاريخ والمستقبل الصينيان مخترلان في هذه الصورة. ماذا عن قرن العار والحرب الصينية الشعبية ضد الاستعمار؟ رجل الدبابة. ماذا عن تحول الصين إلى أهم اقتصاد في العالم في القرن المقبل؟ رجل الدبابة. من هذا المنطلق يمكن فهم أن العقل الغربي سيصاب بصنف من أصناف الانفصام عند رؤيته لصورة الطفل الفلسطيني الغزي الشهيد فارس عودة وهو يواجه دبابة الميركافا. إذا فتحنا أرشيف الفيديو “للاسوشيتد برس”، فسنجد مئات من صور الأطفال في الانتفاضة الثانية الذين يقفزون في وجه المجنزرات وفوقها ويغنمون جزءًا من معداتها، سنجد دبابة الميركافا تصوب مدفعها إلى مجموعة من الرهبان على باب كنيسة القيامة، هذا كله ليس مهمًا، الأهم هو رجل الدبابة الصيني.
ليس صدفة إذن أن ينتج الإسرائلييون والألمان والبريطانيون والفرنسيون فيلمًا عن غزو لبنان عام 1982، وعنوانه لبنان، ليتحدث ليس عن اللبنانيين في مواجهة المجنزرة، بل عن الإسرائليين الذين يقودونها. الفرضية الأساسية لهذا الفيلم تذكر أن هذه المجنزرة، هذا الوحش الحديدي المدجج بالسلاح، في باطنه قلب، بل عدة قلوب بشرية. هنا تصبح المجنزرة أكثر إنسانية من أولئك الذين تقصفهم وتدوسهم. هذا النوع من البلادة، يجعلك تريد أن تدق أبواب أهل قرى وبلدات الجنوب بابًا بابًا، تسألهم ماذا فعلت أمام المجنزرة في عام 1982 وعام 2006، ما هي قصتك أيها العزيز؟ كلي آذان صاغية.
في عام 2002، كانت الحافلات الفلسطينية الصفراء تنقل سكان ريف شمال رام الله إلى قلب المدينة عبر حي البالوع ومدينة البيرة بعدما دمر الإسرائليون الطريق الرئيسي المؤدي إلى المدينة وعسكروا عند منطقة برج الإذاعة المبني وقت الانتداب البريطاني بمحاذاة مقر المقاطعة المحاصر. من نافذة الحافلة كان بإمكانك أن ترى رتل مجنزرات الميركافا وناقلات الجنود عند منطقة البرج، قبل أن ترى أفراد المقاومة متحصنين من أعين العدو وراء الجدران الاستنادية، يحملون رشاشات بسيطة. هؤلاء أيضًا لا قصة توثقهم، لا نعرف مصيرهم بين الشهادة والأسر والنجاة، كان من المستحيل أن تصبح لهم قصص، لأنه كان من المستحيل وقتها أن ننتصر على المجنزرة. بعدها بأربع سنوات، في صيف 2006، حدث المستحيل، حينها سهرت فلسطين كلها حتى الثالثة صباحًا لمراقبة سير الحرب في لبنان، لمشاهدة دبابات الميركافا المقلوبة على ظهرها والمدمرة في قرى الجنوب. شعرنا وقتها بأن كل شيء ممكن، شعرنا بأن صاروخ الكورنيت هو القلم المثالي لرسم إمكانيات تاريخية جديدة.
هذا الشعور الذي عاد بتاريخ السابع من تشرين أول عام 2023، هو ما لا يستطيع الغربي أن يفهم. مرة أخرى لا يستطيع العقل الغربي أن يطيق فكرة أن نحتفل بهزيمة المجنزرة مرة أخرى، لهذا يرسمه احتفالًا بموت “الأبرياء”، لهذا يرسم طوفان الأقصى “كهجمة” متوحشة على “الحضارة” ليس كهجمة مقاومة على آلة الحرب. هذا لا يهم بالطبع، فصراعنا ضد المجنزرة الإسرائيلية على البر مرتبط بشكل عضوي بصراعنا ضد حاملة الطائرات الأمريكية في البحر، وفي الأيام القادمة، لن يستطيع الغربي بجبروته أن يكبت القصص الجديدة التي ستكتبها حرب الإنسان ضد المجنزرة.