على بعد 302 كيلو متر من هنا (بيروت – غزة) جغرافيا حقيقية تقارع التاريخ الحقيقي. جغرافيا عابرة لحدود وهمية، أرض عربية تصدّت لأجلها همم الشعب العربي الذي طاف في الشوارع تأكيدًا وتأبيدًا لدور المقاومة في التحرير. ليس ذلك من باب التقديس، وإنما من باب الثقة ببسالة المقاومة الفلسطينية وذكائها في تعرية المستعمر وغبائه السياسي المستمد من تضخم دماغه العسكري.
وعلى بعد 223 كيلو متر من هنا (رام الله – المقاطعة) جغرافيا كاذبة وطارئة وهمية تحاول أن تدخل التاريخ من بوابته المواربة، وتحاول العبور والمزايدة على مواقف المجتمع الدولي بـ”الأنسنة”، فتارة تتحدّث في المحافل الدولية بخطاب “إحمونا” وتارة أخرى تفرض نفسها على “التنسيق الأمني” الذي هدد بلفظها مرات عدة.
على هذه الأرض الشريفة فلسطين لا إمكانية لجمع الجغرافيتين، ولا إمكانية لجمع ثنائية “المجد” و”العار”.
طالعنا محمود عباس، رئيس سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود (بحسب توصيف اتفاقية أوسلو وما تلاها من اتفاقيات)، بُعيد يوم “طوفان الأقصى” المجيد بتصريح يدين فيه “حماس”، قائلًا: “سياسات وأفعال حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني.. سياسات وبرامج وقرارات منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تمثل الشعب الفلسطيني بصفتها الممثل الشرعي والوحيد له”[1]. ورفض قتل المدنيين من الجانبين ودعا لإطلاق سراح المدنيين والأسرى والمعتقلين من الجانبين، وشدد على نبذ العنف والالتزام بالشرعية الدولية والاتفاقيات الموقعة والمقاومة الشعبية السلمية والعمل السياسي طريقًا للوصول للأهداف الوطنية، وضرورة الذهاب لحل سياسي ينهي الاحتلال.
أتى ذلك بعد تصريحه الإرتجالي شديد البلاغة في الإنحدار[2] الذي أحال فيه الشعب الفلسطيني الذي يدعي حصرية تمثيله إلى حيوانات برسم الحماية. ففتح المجال لوزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت بأن يستخدم التوصيف نفسه[3].
إنّ فلسطين اليوم في طريقها إلى التحرير بسرعة صاروخ أو بطلقة رصاصة برغم ما يقوم به العدو الصهيوني من جريمة إبادة جماعية لأهالي غزة. غير أن نكبتها ظاهرة للملأ بخطاب رسمي ما لاق يومًا بأرض الشهداء والأسرى والجهاد والفداء. خطاب تخلّف عن التاريخ، وزحف نحو التنسيق الأمني وأصبح شاهدًا على قتل شعبه وإبادته بدم بارد ودون أن يرتجف له جفن.
إن النظر في التصريح أعلاه يكفي أن يكشف انهزامية رئيس سلطة الحكم الذاتي التي تنسحب معه منذ السبعينيات من القرن الماضي. وذلك يضعنا أمام أهمية تفكيك هذا الخطاب.
لم تعد منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، منذ العام 1974 وتبنيها للنقاط العشر[4]، مرورًا بإعلان الدولة[5] (الجزائر 15-11-1988 ) والاعتراف بالكيان الصهيوني[6] بتاريخ 9-9-1993، وتوقيع اتفاق إعلان المبادئ في حديقة البيت الأبيض[7] في 13-9-1993 وانتهاءً بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني[8] الذي ألغى كل البنود التي تتعلق بالكفاح المسلح (غزة، (24-4-1996.
كيف يستطيع مواطن فلسطيني أن يساوي بين الجانبين: بين حق الشعب الأصلاني الفلسطيني في تحرير أرضه، وبين كيان استعماري إحلالي اقتلاعي؟
إنّ الشرعية الدولية لم تكن إلا سيفًا مسلطًا على رقاب الشعب الفلسطيني منذ صدور قرار 181 لسنة 1947[9] والذي نص على تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية بمخالفة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وبعد الكارثة التي أحدثها “طوفان الأقصى” في7 تشرين الأول في قلب الكيان الصهيوني، استشعر الغرب ومعه الشرعية الدولية قرب انهيار ظهيره الاستعماري في المنطقة العربية، فسارعت الشرعية المذكورة ودولها إلى استدعاء الأساطيل البحرية لدعم وليدهم.
كيف يستطيع مواطن فلسطيني أن يساوي بين الجانبين: بين حق الشعب الأصلاني الفلسطيني في تحرير أرضه، وبين كيان استعماري إحلالي اقتلاعي؟
أي اتفاقيات يدعو عباس إلى الإلتزام بها؟ فمنذ توقيع اتفاقية إعلان المبادئ وما تلاها من اتفاقيات لم يلتزم العدو الصهيوني بأي منها. هل نسي عباس أم تناسى أن اتفاق إعلان المبادئ هو اتفاق انتقالي مدته خمس سنوات ؟! فقد جاء في بند “الفترة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم” أنه جرى الاتفاق على أن الفترة الانتقالية للفلسطينيين تبدأ في حال الانسحاب الإسرائيلي من أراضي قطاع غزة ومنطقة أريحا، وانطلاق مفاوضات “الوضع النهائي في أقرب وقت ممكن”، على ألا يتعدى ذلك بداية السنة الثالثة للفترة الانتقالية بين حكومة الاحتلال وممثلي الشعب الفلسطيني، ويتضمن ذلك قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والترتيبات الأمنية وقضايا أخرى.
ما الذي يقصده عباس بالمقاومة الشعبية السلمية؟ بكل تأكيد لم يقصد نموذج الإنتفاضة الأولى 1987انتفاضة الحجارة. ربما يظن أن تحرير فلسطين يمكن أن يحصل بخروج الجماهير إلى الساحات وهي ترفع شعارات منددة بالاحتلال وإضاءة الشموع وإطلاق البالونات والحمام الأبيض رمزًا للسلمية والسلام! ومن المثير للاستهجان أن من يتحدّث يحمل شهادة دكتوراه ولديه كتب عدة حول المشروع الصهيوني لم يجد فيها آليات مواجهة ومقاومة إلا بخطاب الاستجداء بالغرب. وبعد عقود من الزمن لم تسعفه معرفته ولا تجربته السياسية في اكتشاف طرق يمكن أن تطبقها سلطته لإنهاء الاحتلال.
بعد مرور سبع ساعات على “طوفان الأقصى” بتاريخ 7 تشرين الأول 2023 استطاعت المقاومة الفلسطينية أن ترسم الجغرافيا الحقيقية للمنطقة العربية، وأن تنحت في غزة مفاهيم جديدة للصمود والتحرير. وبعد مرور أيام على “الطوفان” لا زالت المقاومة تفاجئنا ببسالتها. وإن الكون الجديد ليتشكّل بقوانين الطبيعة الحقيقية: البقاء للأقوى. إن المقاومة هي الأقوى بقوة الحق. والشعب الفلسطيني هو الأقوى بقوة الحق. فمن تخلّف عن الحق أصبح خارج التاريخ والطبيعة.
[1]https://arabic.rt.com/world/1504046-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A3%D9%81%D8%B9%D8%A7%D9%84-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9%85%D8%AB%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A/
[2]https://www.youtube.com/watch?v=i7Sw-m5REgQ
[3]https://www.raialyoum.com/%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D9%8A%D8%B5%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%8A/
[4]file:///Users/macbookpro/Downloads/Interim_political_program.pdf
[5]https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2016/11/15/%d9%86%d8%b5-%d8%a5%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%86-%d8%b9%d8%b1%d9%81%d8%a7%d8%aa-%d9%82%d9%8a%d8%a7%d9%85-%d8%af%d9%88%d9%84%d8%a9-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86?fbclid=IwAR36fsqkY08zsFhNPuTGhsg-H3-nHCS90wXlt137VkduyMEs2YhD0i28bU0
[6]file:///Users/macbookpro/Downloads/Recognition_Letters_between_PLO__Israel_A.pdf
[7]https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=4888&fbclid=IwAR0RaNckghjBKyVtvlkC0K6ph_GvYZls_zxvWnySLYIF8hCy0Cj2SqtKjVc
[8]file:///Users/macbookpro/Downloads/5752_0.pdf
[9]file:///Users/macbookpro/Downloads/Partition_resolution_181_AR.pdf