كذبَ الإعلام الغربي فقال إن مقاومينا قد اغتصبوا البنات أول عملية “طوفان الأقصى” (كيف تشرح لمشاهد أجنبي، أو حتى لبعض المشاهدين العرب “العمي بعيون أمريكية” كما في الأغنية الشهيرة، أنه من العبث أن تتهم مجاهدين إسلاميين بالاغتصاب وفي قلب المعركة؟). وقالوا إنهم أمعنوا في تقتيل المحتفلين فلم ينج إلا من تظاهر بالموت (هل سألوا أنفسهم إن كان لدى المقاومين الوقت ليمارسوا هذه المقتلة بينما ثم مواقع أخرى لا بد من اقتحامها؟ ولماذا يمعنون في قتل المحتفلين ما دام أسرهم أحياء أنفع).
نقلت الصحف الأجنبية، حتى الـ”بي بي سي” التي طالما ادعت نوعًا من الحياد والمهنية والاحتياط بشكل مبالغ فيه في صياغة الأخبار، هذا الخبر الذي لا يستند سوى إلى شهادة من تدعي إنها كانت شاهدة عيان، وأصبح الخبر في خيال الغرب واقعًا.
قال جندي من جيش الاحتلال (معروف بتطرفه في عنصريته) إنّ المقاومين قطعوا رؤوس الأطفال، فنقل عنه الصحفيون الانتهازيون ذلك على صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ثم على الصحف التي يعملون بها، ثم عاد هؤلاء فقالوا إنهم لم يتثبتوا من هذا الخبر وتلاعبوا بالكلام فقالوا إنهم لم يقولوا إن الفلسطينيين يقطعون رؤوس الأطفال ولكنهم قالوا إن جنديًا إسرائيليًا قال إنهم يفعلون. ولكنهم لم يقدّموا هذا الاستدراك إلا بعد أن استشرى الخبر وتناقلته الصحف.
صاغ هؤلاء الصحفيون الخبر بصيغة خبيثة ليقولوا بعد انتشار الخبر “نحن لم ننقل خبرًا عن قطع حركة حماس لرؤوس الأطفال وإنما نقلنا خبرًا عن أن مصدرًا إسرائيليًا يقول إن حركة حماس قد قطعت رؤوس الأطفال” في تلاعب بالقواعد المهنية لمصلحة الدعاية الإمبريالية. ثم استشرى الخبر في وسائل الإعلام الغربية بما فيها وسائل إعلام كانت تدعي اليسار والحياد والمهنية (مثل “الإندبنت” البريطانية التي كانت من أوائل من نقلوا الخبر وعلى صفحتها الأولى).
التقط البيت الأبيض الخبر ونقله بايدن بنفس الطريقة الخبيثة. وأظن أن لعثمة بايدن كانت مقصودة حين يقول “لم أكن أتوقع قط أن أرى”، ثم يتلعثم، ثم يضيف: “وقد تأكدَتْ صورٌ عن إرهابيين يقطعون رؤوس الأطفال، لم أكن أتوقع قط”—فيعيد تأكيد الخبر من دون أن يؤكده، ويقول إن صورًا أُكدت من دون أن يقول من الذي أكدها، وإنه لم يتوقع أن يرى من دون أن يقول إنه رأى، ثم يستدرك البيت الأبيص بأن الرئيس لم ير بينما تكون الكذبة قد استشرت.
هؤلاء لم يخطئوا أو ينحرفوا عن المعايير المهنية؛ هؤلاء كانوا يؤدون دورهم ضمن عملية حرب نفسية واسعة.
ولهذا فلا معنى لأن نسأل لماذا كذبوا. السؤال هو ما الذي يجعل هذا الكلام الفارغ غير المسند إلى مصدر موثوق قابلًا، لدى جمهور واسع في الغرب، للتصديق.
العنصرية والإسقاط النفسي سلاحًا
تستند هذه الحرب النفسية إلى ميراث عنصري ينسب الجرائم البشعة التي يرتكبها الاستعمار إلى ضحاياها. فبينما مارست الجيوش الأمريكية الاغتصاب الفردي والجماعي وأشكال التعذيب الجنسي المختلفلة – في كوريا وفيتنام ثم في العراق وأفغانستان—وبينما يمارس جيش الاحتلال الاغتصاب كأداة تعذيب وكذلك كأداة ترهيب وابتزاز، فإنهم يتهموننا نحن بذلك (وكذلك بينما كان الاغتصاب أداة من أدوات الاستعمار الأوروبي في أمريكا فإنهم صوروا السكان الأصليين خطرًا على النساء، وفعلوا نفس الشيء مع العبيد السود، فبينما اغتصب الرجل الأبيض النساء السود كانت إحدى مبرراته للعبودية أن الرجال السود خطر على النساء البيض). عقلية الرجل الأبيض التي ما زالت ترى المرأة شيئًا جنسيًا وتراها من ممتلكاته التي يجب أن يدافع عنها لم تستطع أن تتخيّل الهجوم على المستوطنين من دون اغتصاب.
نفس الشيء نراه عندما يتهمنا إعلام أمريكا، التي قتلت الأطفال عمدًا وبشكل منهجي عبر حروبها الاستعمارية، و”إسرائيل” التي تستهدف الأطفال والمدارس والمستشفيات، بأن مقاومتنا تقطع رؤوس الأطفال؛ بل وتتهمنا بذلك في لحظة إعداد لمجزرة جديدة وتبريرًا لهذه المجزرة.
تستعيد أكذوبة الأطفال الذبيحين إحدى أبشع الأكاذيب التي اختلقها العقل الأوروبي لتبرير جرائمه ضد اليهود، ألا وهي فرية الدم. ففي العصور الوسطى، ثم في العصر الحديث، وبالذات مع صعود النازية، اختلق العقل الأوروبي الكاره لليهود والذي يبحث عن ذريعة لما يلاقيه اليهود على يديه من ظلم، فريةَ تقول بأن اليهود يقتلون الأطفال المسيحيين ليضيفوا دمهم إلى العجين الذي يخبزونه في عيد الفصح اليهودي وأن ذلك من شعائر اليهود. نرى الإسقاط النفسي واضحًا حين نرى النازية، التي كانت في ذلك الوقت تنظم قتلًا جماعيًا “رحيمًا” لأطفال اليهود (في المرحلة الأولى من المحرقة النازية قبل أن ينتقل القتل بعد ذلك من الأطفال إلى الكبار) وهي تتهم ضحاياها بأنهم هم الذين يقتلون الأطفال.
ولأن العقل الأوروبي يريد أن يحافظ على لا ساميته وعنصريته، بينما يريد كذلك أن يتخلص من إحساسه بالذنب تجاه اليهود من دون أن يتوب عن جرائمه نحوهم، فقد أحل العربي (ومعه في بعض الأحيان اليهودي غير الصهيوني) محل اليهودي؛ وبينما جعلت دولة إسرائيل من اليهودي لا ساميًا جديدًا، أصبح الأوروبي، ومعه اليهودي الإسرائيلي، يمارس عنصريته وعداءه للسامية ضد العربي والمسلم بينما تكفّلت حيل الإسقاط النفسي بإقناع الأوروبي بأن العربي والمسلم اللذين يمارس ضدهما العداء للسامية هما المعاديان للسامية أصلًا.
شهوة الدم والذبح
ولكنهم لم يتهمونا بقتل الأطفال وحسب بل وبقطع رؤوسهم كذلك. قطع الرأس ضروري هنا لأنه يرسم صورة “همجية” و”دموية” – بينما قتلهم لنا يصور دائمًا على أنه عملية منظمة وممنهجة و”علمية” تستخدم أحدث التقنيات (ومرة أخرى لا ننسى أن قتل الأطفال في أول المحرقة النازية كان من ضمن مجهود “علمي” منظم يستخدم أحدث ما وصلت إليه العلوم من غازات القتل “الرحيم” ضمن مجهود علمي يهدف إلى تحسين التطور الجيني للبشرية؛ نفس الشيء يحدث الآن عندما تتخفى آلة القتل الإمبريالية وراء الأزرار والشاشات وخوارزميات الكمبيوتر وكل ما يسيل له لعاب إنسان الحداثة من تكنولوجيا متطورة تحجب ما تسقطه على الجانب الآخر من ضحايا).
المسألة ليست محض لعب بالكلام. هناك إرث عنصري طويل يجعل ترويض النار حقًا حصريًا للرجل الأبيض؛ ومن هنا يصبح السلاح الناري من امتيازات الرجل الأبيض بينما تصبح النار في يد غيره فوضى
رواية “الذبح” تحيل على نوع من القسوة الدموية التي يربطها الغرب بالشعوب “الهمجية”. هذه القسوة يراها الغرب إسلامية عن طريق الربط ما بين شعيرة النحر في الإسلام وبين هذا الشكل من القتل (تمامًا كما ربطت “فرية الدم” ما بين قتل الأطفال وبين الشعائر اليهودية)، وعن طريق نظرة غير موضوعية إلى تاريخ تطبيق القصاص في القتلى إسلاميًا؛ ومرة أخرى نرى آليات الإسقاط النفسي، ليس فقط لأن الذين يرمون الإسلام بالذبح هم أنفسهم الذين يقتلون الناس ويحرقونهم فرادى وجماعات في حروبهم الإمبريالية ولكن أيضًا لأن قطع الرؤوس كان في القرنين الماضيين عادة فرنسية.
لم تكن فرية الدم قاصرة على اليهود. كل الشعوب التي مارس ضدها الأوروبي إجرامه تخيلها شعوبًا دموية. ففي الوقت الذي مارس فيه الأوروبيون ألوان القتل الجماعي والمثلة والاغتصاب ضد أصحاب الأرض الأصليين في أمريكا، تخيلوا هذه الشعوب شعوبًا دموية تمارس بطبيعتها كل ما يمارسه الأوروبيون ضدها.
وكما أكد بايدن على صور لم يرها أحد، فقد أكد المرتزق الإنجليزي جون سميث مجزرة لم يرها في مستعمرة فيرجينيا في العام 1622 ادعى أن أصحاب الأرض فيها قد قتلوا كل من وجدوهم رجالًا ونساء وأطفالًا (وهي العادة التي كان يمارسها المستوطنون لا أصحاب الأرض). وعندما ثار شعب اللينابيه (أصحاب الأرض الأصليين في ما بات يعرف بنيويورك) في عام 1643 على المستوطنين الهولنديين الذين طالما قتّلوا شعب اللينابيه وحاولوا استعباده، ترسّخ الهجوم في الرواية الغربية استهدافًا للنساء والأطفال.
هذه السردية تتكرر بنفس التفاصيل والمفردات في تقارير البريطانيين الاستعمارية عن المقاومة الشعبية للاستعمار في مصر وفلسطين. وفي تقرير بيل- أي التقرير الذي كتبته بعثة وليام بيل البريطانية أثناء ثورة 1936-37 عن الأحداث في فلسطين والذي “نصح” بتقسيم فلسطين؛ فبينما كان المستوطنون على أرض الواقع يشكلون العصابات المسلحة لسرقة الأراضي وطرد السكان ولتنسيق التنكيل بالفلسطينيين مع سلطات الاحتلال البريطاني، تتكرر نفس الحكايات بالضبط عن المستوطنين- والمستوطنات بالذات- الأبرياء الذين كانوا يشفقون على أصحاب الأرض المساكين قبل أن يغدر بهم أصحاب الأرض ويقتلونهم قتلًا دمويًا ومريعًا.
هديرنا الذي يحاصرهم
هذه الأكاذيب هي بطبيعة الحال وليدة خيال عنصري وإسقاط نفسي مريض؛ ولكنها كذلك وليدة شعور بالحصار. يرون في وجودنا جمعًا هادرًا يهدد سلامتهم الشخصية والجسدية—بالذات في سياق استيطاني إذ جاءوا بأنفسهم إلى حالة حصار وسط المجتمع الذي جاءوا معتدين عليه (ومن هنا تتكاثر خيالات الاغتصاب وقطع الرؤوس وتقطيع الأجساد والمثلة). ويتكرر هذا الكره المشوب بالخوف في سياقات متعددة.
يدعو خالد مشعل إلى يوم جهاد فيؤكد الغربيون الذين لا يعرفون العربية أنهم يعرفون يقينًا ما تعنيه كلمة جهاد وأنها تعني عنفًا جماعيًا ضد اليهود (وغيرهم). لا يهم أن تعرف العربية أو أن تلم بشيء من علوم الشريعة أو تاريخ الإسلام لتعرف ما هو الجهاد، فقد فرض الغربي الذي لا يعرف الكلمة معناها. ثم إن مجرد حديثنا بالعربية يصبح في نظرهم تهديدًا وقد رأينا منذ أيام حكاية المرأة الفرنسية التي ألقوا القبض عليها لأنها قالت لزملائها “السلام عليكم” بالعربية.
هذه هي الأخرى لها تاريخ ضارب في الأرشيف الاستعماري. وكانت تقارير الإنجليز أثناء حصار الإسكندرية تختلق عبارات بعضها تشبه العربية ولكنها لا تعني في الواقع شيئًا، وبعضها عربي ولكنه يعني شيئًا آخر، وتدعي أنها تعني “اقتلوا المسيحيين”: العربي في تخيلهم العنصري ليس له لغته الخاصة بل تعبيراته تنحصر في عبارات لا يفسرها إلا الغربي ويفسرها دائمًا على أنها تهديد له.
وبالعكس، عندما حدثت واقعة الاغتصاب الجماعي في مدينة كولونيا الألمانية في رأس سنة 2016، قال الشهود العيان (الذين لا يعرفون العربية) أنهم سمعوا هذا الجمع يهدر بالعربية. لا غرابة فلا بد للجمع المهدِد أن يهدر بالعربية ولا بد أن الهدير بالعربية هو تهديد للسلامة الجسدية (وقد ضمت هذه اللغة الهادرة التي يتخيلها الغربيون مفردة “اغتصبوا النساء” بعد أن كانت لا تضم سوى مفردة “اقتلوا المسيحيين”).
“عربدة لا يمكن وصفها”
بينما أظهرت مقاومتنا عمومًا، وحركة “حماس” خصوصًا، عبر تاريخها وبالذات في الفترة منذ الحسم العسكري في 2007 وحتى اليوم، وعيًا نادرًا بأن الجهاد في سبيل الله (أو العنف الثوري، هنا يلتقي المعنيان) عملية منظمة وواعية لا فورة دم، وهذا مما جعلها تحرز انتصاراتها المذهلة في “سيف القدس” ثم في “طوفان الأقصى”، يحاول إعلام العدو (الصهيوني والغربي الإمبريالي) أن يجعل من هذا الجهاد عربدة دموية يمارسها أناس منتشون بالعنف.
يريد إعلام العدو (الصهيوني والإمبريالي الغربي) أن يرسم لنا صورة صواريخ همجية وفاشلة ومتفجرة ذاتيًا (مثل أصحابها بحسب منظومة الإعلام الغربي العصرية والفاشية) في مقابل صواريخ “إسرائيل” المتحضرة
وهذه هي الأخرى استراتيجية استعمارية قديمة مورست أول ما مورست ضد سكان أمريكا الأصليين فأصبحت مقاومتهم تصور على أنها موجات من النشوة العنيفة: قد نعرف مشهد “الهندي الأحمر” وهو يصيح صيحة الحرب منتشيًا من أفلام هوليوود أو وهو يرقص رقصة الحرب استعدادًا لهجومه الدموي على المستوطنين. تقارير الغربيين الاستعمارية تتعامل في بعض الأحيان مع الزغاريد والتكبير عندنا كما تعاملت مع صيحات الحرب “الهندية”: صيحات انتشاء بلا معنى سوى تهديد الأوروبيين وامتداداتهم الاستيطانية. بينما “رقصة الحرب” كما نعرفها هي إنتاج هوليوودي يعتمد في ما يعتمد على خيالات الأنثروبولوجيين وتصوراتهم غير الدقيقة عن مجتمع قبائل “الهنود الحمر”. وفي الواقع، فإن رقصة “الوزازي” عند قبيلة الموهاك المحاربة يمارسها المقاتل قبل النزول إلى المعركة ليحافظ على توازنه وهدوئه ويتخذ القرارات بعقل حاضر وانضباط لا بفورة دم (وقد أعاد الموهاك إحياء هذا التراث في مواجهتهم مع جيش الاحتلال في كندا في العام 1990 والتي مارس المسلحون الموهاك فيها أقصى درجات الانضباط في وجه السلطات الكندية التي كانت تحاول سرقة أراضيهم).
الشيء نفسه يفعله تقرير بيل البريطاني مع أحداث ثورة 1936. فنحن ندرك، بالرغم من أكاذيب وليام بيل، أن هذه الثورة كانت ملحمة شعبية من التنظيم والإعداد والنشاط الشعبي والحرب الشعبية. ونعلم كذلك أنه قد سبق هذه الثورة إعداد طويل من قبل أفراد ومجموعات أبرزها بالطبع مجموعة عز الدين القسام التي لم تكن تستعجل المواجهة، بل على العكس كانت تنصرف إلى التنظيم والإعداد – حتى إذا فرضت عليها المواجهة قال الشهيد عز الدين القسام كلمته الشهيرة “إنه لجهاد نصر أو استشهاد” وكانت المواجهة التي أشعلت الثورة.
تطمس التقارير الاستعمارية، سواء في ذلك التقارير الرسمية للاستعمار البريطاني والتقارير الصحفية المعاصرة التي تنطق باسم الاستعمار الأمريكي، حقيقة التنظيم الواعي للمقاومة، بروايات مبالغ فيها، تصل إلى حد العبثية والإضحاك، تدعي انغماس المجاهدين في العنف والدم والاغتصاب حتى تصبح المقاومة “عربدة لا يمكن وصفها، يكاد يكون من الخطأ الحديث عنها”.
وهذا التعبير يعود إلى تقرير بريطاني عن عملية للمقاومة ضمن ثورة 1919 تمكّن فيها الوطنيون من إعدام مفتش السجون في صعيد مصر. وبينما تشي عملية من هذا النوع بقدر عال من التنظيم، فإن التقرير البريطاني يخبرنا عن فوضى دموية اقتحمت فيها الجموع القطار الذي كان يقل مفتش السجون وكيف مزقوه إربًا بأيديهم العارية ثم شربوا الدم المتدفق من أطرافه التي قطعوها—وتعود فرية الدم مرة أخرى، وينسون أن شرب الدم، بشريًا كان أو حيوانيًا، محرم في الإسلام، بينما هم الذين يستخدمون الدم في مطبخهم.
صواريخنا التي لم تسلم من عنصريتهم
يريد إعلام العدو (الصهيوني والإمبريالي الغربي) أن يرسم لنا صورة صواريخ همجية وفاشلة ومتفجرة ذاتيًا (مثل أصحابها بحسب منظومة الإعلام الغربي العصرية والفاشية) في مقابل صواريخ “إسرائيل” المتحضرة والمنضبطة والذكية، التي تعرف طريقها وإن أسقطت ضحايا مدنيين فذلك وفق حسابات دقيقة وخطة استراتيجية عميقة تبرر هذا القتل “الجانبي”.
هذا ليس جديدًا؛ نعرف في حروب الولايات المتحدة الطويلة علينا، بالذات في حرب العراق، كيف تصبح نيران الدول العظمى “ذكية” و”تكتيكية” و”موجهة” وأحيانًا “صديقة” بينما تصبح نيراننا إرهابًا.
المسألة ليست محض لعب بالكلام. هناك إرث عنصري طويل يجعل ترويض النار حقًا حصريًا للرجل الأبيض؛ ومن هنا يصبح السلاح الناري من امتيازات الرجل الأبيض بينما تصبح النار في يد غيره فوضى.
ولهذا حين يرون انفجارًا مثل انفجار المستشفى الأهلي تذهب عقولهم إلى حلين لا ثالث لهما: إما أن “إسرائيل” قد فعلت ذلك نتيجة حسابات استراتيجية دقيقة—لوجود منصات صواريخ أو مخازن سلاح أو أنفاق للمقاومة في الموقع، أو أن تكون المقاومة هي من فجرت نفسها بنفسها (لخطأ ينبع من افتقارنا للتكنولوجيا والحضارة، أو لمحض شر يراه الغرب في نفوسنا إذ لم نستو بشرًا مثلما استووا).
لا يبني خيال العدو (الغربي الإمبريالي والصهيوني) أي تراتبية منطقية ما بين قصفه لمدننا وبين الحرائق التي تشتعل نتيجة هذا القصف. في 1882 قصف العدو البريطاني مدينة الإسكندرية ليومين متتاليين ثم عندما اشتعلت الحرائق قالت أبواقه (الإنجليزية والعربية) إن الوطنيين لا بد وأنهم قد أحرقوا مدينتهم غضبًا من الأجانب. وكما حدث مع أكذوبة صور الأطفال الذبيحين، انتقلت جريدة “الجوائب” لأحمد فارس الشدياق (“النهضوي” الذي كان عميلا للإنجليز) من تقديم رواية حرق المصريين لمدينتهم كفرضية ضمن فرضيات، إلى نقلها مؤكدة من دون أن نعرف من الذي أكدها أو كيف، ثم إلى تقديمها على أنها الرواية الوحيدة والسخرية من كل فرضية سواها (حتى إذ قال عرابي في دفاعه عن نفسه إن قذائف الإنجليز هي التي أحرقت المدينة اعتبرت “الجوائب” ذلك دليلًا على جنونه). وفي مقابل ذلك نرى روايات (في كتاب “مصر للمصريين” للعميل الإنجليزي سليم النقاش على سبيل المثال) تتحدث عن قذائف إنجليزية سقطت في أحياء مدنية ولكنها عرفت كيف تستقر في مكانها من دون أن تنفجر. أساليب الاستعمار وأبواقه ضدنا لم تتغير كثيرًا منذ ذلك الحين.
بل وفي ما بينهم: عقليتهم السلطوية ترى في الثورات الشعبية رِدةً عن ركب الحضارة والتطور (لا يتضامنون مع ثوراتهم هم إلا من مسافة آمنة، تمامًا مثل الغربيين الذين تبنوا تحرير فلسطين شعارًا ثم عندما بدأت عملية التحرير انقلبوا على أعقابهم صهاينةً منددين بالمقاومة ومبرئين العدو الصهيوني، وثلاثة أرباع الذين يفتخرون الآن بميراث الثورة الفرنسية أو كومونة باريس لو كانوا هناك وقتها لانتقدوا العنف واحتجاز الرهائن ولقالوا إن قوى الرجعية من حقها أن تدافع عن نفسها). ولذا، فعندما قصفت قوات النظام من فيرساي مدينة باريس لما يقارب أسبوعًا كاملًا أثناء اقتحامها “البري” للمدينة وتقتيلها للثوار في مايو-أيار 1871، فإن العقلية الغربية قد ذهبت إلى أن الحرائق التي اشتعلت في المدينة لا بد وأن الثوار قد تسببوا فيها، وأنه لا بد وأن الثوار، نساءَهم بالذات، قد أصيبوا بلوثة عقلية جعلتهم يشعلون الحرائق—ولم ينفصل ذلك عن خطاب عام يقارن بين همجية الثوار وبين همج أفريقيا والأمريكتين والترك والعرب.
ليس المهم في هذا التاريخ دحض الأكاذيب الصهيونية والاستعمارية: القارئ يعرف سلًفا أنها كذب. المهم هو ملامح الحرب النفسية الاستعمارية، والتي تستند إلى تاريخ طويل من العنصرية والاستعمار
واستمر ذلك بطبيعة الحال في تصوراتهم عن الثورة الفلسطينية والحرب على الإرهاب: في أفلام تدعي الحياد مثل “كارلوس” لأوليفيية السياس و”عقدة بادر ماينهوف” ليولي إيديل، نرى الثورة الفلسطينية والأممية حالة هستيرية تمتلئ بالصراخ والانفجار المعنوي والنيران العشوائية (بما في ذلك المشاهد التي تصور الجيش الأحمر الياباني الذي عُرف بشدة انضباطه والتزامه). ثم بطبيعة الحال في “الحرب على الإرهاب” سادت صورة نيران القوى العظمى الذكية في مقابل الإرهابي الذي يتفجر ذاتيًا—من دون أي محاولة للتأمل حتى في ما إذا كانت الأحزمة الناسفة قد استخدمت بالفعل في أغلب عمليات هذه التنظيمات. تصورهم عن الصاروخ الانتحاري الذي يسقط على من أطلقوه هو سليل تصورهم عن “الإرهابي” الذي يفجر نفسه قبل أن ينال من أعدائه.
وعلى العكس من هذه التصورات، فإن المقاومة الفلسطينية، و”كتائب القسام” بالذات، نجحت في استخدام السلاح الاستشهادي بشكل استراتيجي وتكتيكي فريد أملته ظروف ما بعد أوسلو؛ ثم بعد ذلك طورت أساليبها من الأحزمة الناسفة إلى العبوات المتفجرة عن بعد، إلى عمليات الانغماسيين ثم الصواريخ، وصولًا لمشهد “طوفان الأقصى” البديع الذي تضافرت فيه أسلحة وأساليب لم تكن تخطر على بال العدو.
قد تجد تخيلات العدو عن صواريخنا الانتحارية صدى في المراحل الأولى التي اعتمدت فيها “كتائب القسام” بشكل أساسي على السلاح الاستشهادي (وإن كانت هذه التصورات بدون شك تسيء فهم هذا السلاح وتشوهه)، أو في المراحل التي كانت “حماس” و”الجهاد” ما زالتا تطوران الصواريخ البدائية (بالرغم من أن هذه الصواريخ البدائية لعبت دورها في تحرير قطاع غزة بالكامل في أعقاب الانتفاضة الثانية). أما الآن، فنحن في العصر الذي تطورت فيه صواريخ المقاومة حتى وصلت تل أبيب، وتطورت فيه مسيرات “الزواري” التي لعبت دورها في تدمير تحصينات العدو، وتطورت أساليب المقاومة حتى قامت بالهجوم الذي شهدناه في السابع من هذا الشهر في مطلع “طوفان الأقصى” والذي شهد له العدو بأنه كان هجومًا شديد التطور والتعقيد. نحن في العصر الذي تمزج فيه المقاومة ما بين الوسائل الحديثة – التي تطورت محليًا، وبين الأساليب البدائية التي وظفتها المقاومة توظيفًا إبداعيًا، لتجعل ملحمة مثل ملحمة السابع من أكتوبر- تشرين الأول ممكنة.
حربنا المعنوية الطويلة ضد الاستعمار
ليس المهم في هذا التاريخ دحض الأكاذيب الصهيونية والاستعمارية: القارئ يعرف سلًفا أنها كذب. المهم هو ملامح الحرب النفسية الاستعمارية، والتي تستند إلى تاريخ طويل من العنصرية والاستعمار. المهم أن الإعلام الاستعماري يشن حربًا شاملة ضدنا، وأنه في هذه الحرب يجند ميراثه الاستعماري، وأن الرأي العام السائد في الغرب (إذا استثنينا منه هؤلاء الذين عرفوا في أدبيات الثورة الفلسطينية، ثم في خطابات القائد محمد الضيف وأبي عبيدة، بأحرار العالم) يتقبل هذه الأكاذيب لأن هذه البُنى العنصرية ضاربة في نفسيته حتى العمق. والأهم هو أن مقاومتنا في غزة، حين تجند ضدها كل هذه الأكاذيب، فهي تواجه لا الصهيونية وحدها بل الاستعمار الغربي برمته؛ وواجبنا أن نخوض معها معركة الوعي ضد هذا الاستعمار.