كانت “طوفان الأقصى” صدمة كبيرة للسلطة الفلسطينيّة وكيلة الاستعمار في الضفة الغربية، تمامًا كما هو الحال للأعداء سواء داخل الكيان الصهيوني أو في مراكز الامبريالية العالميّة. عمليّات على غرار “طوفان الأقصى”، كما أي فعل مقاوم يتحدّى الاستعمار ومشاريع التسوية، هي الكابوس الأكبر للسلطة الفلسطينيّة، تسعى لضربها بيدٍ من حديد لتهديدها مصالحها ومشروعها السياسي. إلّا أن يدها المهزومة هذه لا تصل إلى غزّة، وقدرتها على السيطرة محصورة في مناطق “حكمها” في الضفّة الغربيّة.
يتردد صدى بطولات المقاومة في الضفّة بطبيعة الحال، أولًا بتوسيع رقعة المواجهة على نقاط التماس بمواجهات شعبيّة على نقاط التماسّ أو اشتباكات مسلّحة تقودها كتائب مثل ما شهدناه هذا الأسبوع من كتائب “سرايا القدس” في جنين أو كتيبة مخيّم قلنديا جنوب رام الله، وثانيًا بالتأييد الشعبي الكبير من الشارع للمقاومة المسلّحة، والذي تكسبه في هذه الحالات حركة “حماس” القوّة الأكبر من قوى المقاومة المسلّحة.
تقف السلطة الفلسطينيّة مرتبكة، مصدومة، وعاجزة أمام صدى الطوفان هذا، وتحاول حساب تحرّكاتها وخياراتها بحذر خاصّة أن الوقت ما زال مبكّرًا للتصادم المباشر مع أفعال المقاومة وتأييدها في لحظات النشوة والانكسار هذه، كون ذلك سيقضي على أيّ شرعيّة وتأييد شعبيّين تبقّوا لها، فتحاول بالتالي احتواء الموقف ب”ذكاء” من خلال السيطرة قدر الإمكان على أطر جماهيريّة ومؤسسات مجتمعيّة مركزيّة في تفعيل المقاومة، نأخذ مثالين عليها اثنتين من أهمّ هذه الأنوية: الجامع والجامعة.
محاولة السلطة الفلسطينية السيطرة على الجوامع وأئمّتها في الضفّة الغربيّة ليس جديدًا ولا مفاجئًا، بأداتها الرئيسيّة الأكبر “وزارة الأوقاف والشؤون الدينيّة”. بدأت دعوات مبكّرة منذ الخميس 12 أكتوبر لجعل الجمعة يوم نفير عامّ في كل فلسطين والعالم، ويكون الجامع وانتهاء صلاة الجمعة نقطتيّ الانطلاق المكانيّة والزمانيّة للنفير في العادة، ما يستوجب تحشيدًا سياسيًا من الجوامع وأئمّتها. لم تنشر وزارة الأوقاف هذا الأسبوع برنامج الخطباء كما تجري العادة في كلّ أسبوع، كما سمعنا عن إعفاء الكثير من الخطباء من الخطابة لاعتبارات سياسيّة، في الوقت الذي يقول فيه أيّ منطق سليم أن خطبة الجمعة يجب أن تتوحّد تأييدًا للمقاومة ودعوةً للناس لنصرتها والاشتباك مع الاستعمار.
في خطبته من “مسجد البيرة الكبير”، أحد أكبر مساجد محافظة رام الله والبيرة وأهمّها والتي تنطلق منه معظم مسيرات حركة “حماس” في رام الله، اختار وزير أوقاف السلطة الفلسطينيّة التركيز في خطبته على “المجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزة”، بتجاهل تامّ للمقاومة ومباركة انتصاراتها. كما اختارت وزارته منذ بدء الطوفان والعدوان على غزّة ما يشبهها ويشبه سلطتها، وهو إطلاق حملة تبرّعات بعنوان “لأجلك غزّة”، وهو أمر هامّ دون شكّ إن كان انسجامًا مع روح المقاومة وأفعالها، وليس بالروح الإغاثيّة والإنسانويّة التي تتبنّاها وزارة الأوقاف.
ليست حملة وزارة الأوقاف وحدها تحمل هذه الروح، بل نراها جليّة أيضًا في قضيّة العمّال الغزيّين الذين علقوا داخل الكيان الصهيوني مع بدء الطوفان وإغلاق المعابر مع غزّة، فكانت إمكانيّتهم هي الانتقال إلى الضفّة الغربيّة وتحديدًا رام الله بطرق مختلفة. مع بدء وصول العمّال الغزّيين إلى رام الله، سارعت السلطة ومؤسساتها إلى الركوب على موجة الإغاثة، بقيادة محافَظة رام الله والبيرة على رأسها عطوفة المحافظة ليلى غنّام، أحد أبرز مهرّجي السلطة. لن أخوض في الفشل الذريع والكارثي الذي يتبيّن يومًا بعد آخر لتعامل السلطة مع قضيّة العمّال، فهذا حديث طويل آخر، إلا أن هذه القضيّة كانت فرصة للسلطة وبعض مؤسساتها وشخصيّاتها في الضفّة للانشغال والإشغال في “مساعدة عمال غزة” وكأنّها لم تكن شريكة لسنوات في فرض العقوبات وإحكام القطاع على الحصار، كما كانت فرصة لتهافت “النشطاء الشباب” في رام الله للعمل الإغاثي بشكل منزوع السياسة ودون وصل ما بين إسناد العمّال ودعمهم مع إسناد المقاومة في جبهات القتال المختلفة.
إضافة إلى الجامع، لطالما كانت الجامعات مراكز هامّة في تحريك الشارع وإشعال المواجهة مع الاستعمار، ومن البديهي أن تعطيلها هو إضعاف للشارع وقوّة الجماهير. أعلنت جميع جامعات الضفّة الغربيّة منذ بدء الطوفان تحويل الدوام إلى إلكتروني، حيث بات قرارًا سهلًا بعد تجربة طويلة في جائحة كورونا. تسرّبت أخبار لاحقًا خلال الأسبوع حول إعطاء ماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات العامّة الفلسطينيّة في الضفّة، أوامر مباشرة وواضحة إلى مجلس التعليم الأعلى بتحويل الدوام إلى إلكتروني وتفريغ الجامعات.
لا مصادر واضحة أو معروفة لهذه التسريبات، إلّا أنها غير مفاجئة أو مستَغرَبة أبدًا، بل حتّى متوقّعة. تعي الحركات الطلابيّة في الجامعات هذه التكتيكات، ولذلك أصدرت الحركة الطلابيّة في جامعة القدس، مثلًا، بيانًا منذ اليوم الثالث للعمليّة تعلن مقاطعتها للدوام الإلكتروني، وتذكر فيه بشكل واضح أنّ “الدوام الإلكتروني في هذا التوقيت بالذات في جامعات الضفّة هو قتل لدور الحركة الطلابيّة والطلبة وتحييد لهم عن ساحة المواجهة وإبعادهم عن الميدان الذي ينتظرهم”. كما دعت نقابة أساتذة وموظّفي جامعة بيرزيت إلى اجتماع السبت 14 أكتوبر داخل حرم الجامعة، حَضَرت فيه بوضوح الدعوة والتأكيد على أهميّة فتح الجامعة، ليس لانتظام الدوام الرسمي المعتاد، بل لتشكّل موقعًا للقاء، التفاكر، الدعم، والانطلاق للمواجهات، وهو ما ستلبّيه النقابة على الأغلب في الأيام القادمة.
ثمّة ما هو أصعب للسيطرة عليه من المؤسسات التي بنتها وتديرها السلطة الفلسطينيّة؛ صوت الناس في الشارع ومعتقداتهم. قد تقمع السلطة صوت الناس، إلا أنها لا تستطيع التحكّم في الخيارات السياسيّة للجموع الشعبيّة. بدأت حركة “حماس” في رام الله، منذ اليوم الثاني للعمليّة البطوليّة، بالدعوة إلى مسيرات شعبيّة تأييدًا للمقاومة ونصرة لغزّة، وتنطلق منذ أسبوع مسيرات بأعداد كبيرة تحمل الرايات الخضراء وتهتف لحماس، وهو أمر غير عادي في عقر دار سلطة أوسلو، رام الله، ولم يكن ليحصل دون لحظة ذروة ثوريّة تجد خلفها الملايين من المناصرين.
من المثير للتوقّف ملاحظة أدقّ تفاصيل ديناميكيّات مسيرات “حماس” يوميًا بعد صلاة العشاء في رام الله، فعلى الرغم من القوّة التي تصدّرها المسيرات عن حضور الحركة في رام الله، والتي تهتف بوضوح ضدّ التنسيق الأمني وتدعو قوّات الأمن الوطني الفلسطيني التابعة للسلطة أن تستخدم سلاحها ضدّ الاستعمار مثل “عالمكشوف وعالمكشوف، منسّق ما بدنا نشوف”، و”ياللي لابس عسكري، اعمل مثل السكّري”، إلّا أن التوتّر من قوّات السلطة الفلسطينيّة حاضر دومًا بكثافة مع كلّ وقفة ومسيرة سواء بدعوة من “حماس” أو غيرها. ففي كلّ مسيرة هناك من يحاول إسكات الهتافات المناوئة للسلطة بشكل واضح، أو في أحسن الأحوال تغييرها سريعًا، أو إقحام نوع مختلف من الهتافات تركّز على “الوحدة الوطنيّة” وليس على إنجازات “كتائب القسّام” الذراع العسكري لحماس.
كانت ذروة التوتّر حول أي اصطدام مع السلطة وقوّاتها في مسيرة النفير يوم الجمعة 13 أكتوبر، والتي كانت الأكبر منذ انطلاق الطوفان، ودعت لها جهات عدّة منها حركة “حماس”، لتنطلق بعد صلاة الجمعة من ميدان المنارة في وسط رام الله إلى معسكر “بيت إيل” الواقع شمال شرق البيرة للمواجهة مع قوّات الاستعمار. توجد طريقان للوصول إلى “بيت إيل” من دوار المنارة، أحدهما يمرّ من مكاتب قيادة السلطة ومركز عمل الرئيس الفلسطيني، والمعروفة ب”المقاطعة”. تسمّى المنطقة المحيطة بالمقاطعة ب”المربّع الأمني”، وهو الذي لا تتهاون قوات الأمن الوطني مع أي وصول إليه أو مرور منه لمسيرات أو وقفات، أو بلغتها “أعمال شغب”، وهذا الطريق المؤدّي إلى المقاطعة من شارع “الإرسال” لديه تاريخ حافل من اصطدامات وقمع ما بين متظاهرين مع قوّات السلطة، أشهرها أحداث زيارة شاؤول موفاز للمقاطعة في 2012 والأحداث التي تلت اغتيال المعارض نزار بنات عام 2021. بعد لحظة من الارتباك والخربشة في سير الجموع يوم الجمعة، أخذت المسيرة الطريق الذي لا يمرّ من المقاطعة والمربّع الأمني، مدفوعة بتجنّب أي اصطدامات مع السلطة.
كتب عبد الجواد عمر، ضمن حديث عن “طوفان الأقصى”، بأنّ الحرب “لحظة معلّقة في الهواء”، هي “إمكانية تحوّلٍ جذريٍ شاملٍ لكل ما هو معروف ومعلوم سابقًا”. تتركنا الحرب مصدومين متأهّبين غير متيقّنين من شيء، وكما هي لحظة معلّقة مع الاستعمار فهي كذلك مع وكلائه أيضًا. نعي تكتيكات السلطة الفلسطينية في احتواء مدّ الطوفان والسيطرة عليه، وما زال أمامنا الكثير القادم في المواجهة معها.