في العام 2006، كان العدو الأمريكي – الإسرائيلي يريد القضاء على اخوتنا في غزة، ثم الانتقال إلى الشمال. اندلعت حرب 2006 بعد عملية خطف الجنديين، يوم 12 تموز، التي جرت بهدف تحرير الأسرى اللبنانيين، كما بهدف التخفيف من حدة الحرب التي كانت تُشن على غزة في ذلك الوقت. العدو اتخذ العملية ذريعة لنقل كامل جهده الحربي إلى الشمال. لكن النتائج لم تأتِ وفقًا لما كان مخططًا له في تل أبيب وواشنطن.
السيناريو الحالي شبيه أيضًا بما جرى في السابق، مع اختلاف الذريعة وموازين القوى. المقاومة في غزة كانت تُدرك أن مسار التطبيع سيُتوَّج بعملية عسكرية تنهيها، فقررت الاستباق بـ”طوفان الأقصى”.
اخوتنا في غزة اليوم يخوضون معركة وجودية. الغرب كلّه تجنّد لدعم “إسرائيل”. حتى الدول الغربية التافهة في وزنها العسكري والسياسي، كفرنسا مثلًا، عبّرت عن التضامن (الطبيعي – الأبيض) مع المستعمِر الأبيض في فلسطين. الغرب يُدرك أن انهزام “إسرائيل” هو بحق الضربة الأقسى لهيمنته في بلادنا، فقرر حشد كل قواه لتأمين انتصارها. الولايات المتحدة الأمريكية أرسلت حاملة طائرات إلى بحرنا، وتفكّر في إرسال أخرى، لضمان أن تنتصر “إسرائيل” على أهل غزة. لضمان ألا يتدخّل أحد لمساعدة الغزيين. بعثت برسائل تحذير للحزب وإيران وحلفائهما. ولمّا لم يستجيبوا لها، قررت إرسال الحاملة الأولى. ولما سمعت عدم اكتراثهم، لوّحت بإرسال الثانية. هي تقول لهم: “إذا تدخّلتم، فسأواجهكم. وإذا ضربتم المطارات الإسرائيلية، فها قد أتيت مسبقًا بمطارات بديلة”.
“نهاية التاريخ”
انهزام المقاومة الفلسطينية هو بحق “نهاية التاريخ” لمصلحة الأعداء. فبعد غزة، ستعود فلسطين إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة الأولى. أو ربما إلى العام 2005، لكن بلا الانتفاضتين الأولى والثانية. صحيح أن الشعب الفلسطيني ولّاد، ولن يتخلى عن قضيته، لأنها هو، لكن موازين القوى ستختل إلى مستوى تصبح فيه قوة المقاومة في فلسطين “إبسلونية” الوزن، قابلة للتجاهل. الهزيمة التامة لغزة هي عودة في الزمن إلى الوراء، أكثر من ثلاثة عقود. ستجعل الهوة بيننا وبين أعدائنا أشبه بـ”ثقب دودي” يبتلع كل ما راكمناه. ستكون “نهاية التاريخ”. فبعد غزة سيحين دورنا، هنا في لبنان، ثم أدوار حلفائنا في الإقليم واحدًا تلو الآخر. سيكون الأمر أشبه باحتلال العراق بعد احتلال أفغانستان. لن يمانع الغرب دفع ثمن باهظ، لفترة قليلة من الزمن، من أجل تحقيق هذا الهدف. حينذاك، حتى الخيار الشمشوني لن يفيد مَن يبقى. فهذا الخيار سيُنتج نهايتنا و”إسرائيل” معًا، ليعود الغرب وأتباعه ليهيمنوا على بلادنا، بلا أي قوة تواجههم (رغم وجود المقاومة، فإن لبنان “شبه مستعمرة” أمريكية. لنا أن نتخيل كيف سيكون من دون المقاومة. الحال نفسه في العراق. في فلسطين، كيف يمكن أن يكون مستقبل القضية إذا انحصر الانقسام بفريق محمود عباس / حسين الشيخ / ماجد فرج وفريق محمد دحلان، والتنافس بينهما على بطولة الانحناء لأمريكا و”إسرائيل” وأنظمة التطبيع في الخليج؟).
بماذا تختلف هذه الحرب عن سابقاتها؟
الهدف المعلن إسرائيليًا وأمريكيًا هو القضاء على حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وحركة الجهاد الإسلامي، ومعهما سائر المقاومين في غزة. الأنظمة الحاكمة في الغرب، بسياسييها وإعلامييها وشركاتها، تستنسخ في تحشيدها ضد حركة المقاومة الفلسطينية الأدبيات الدعائية التي استخدمتها ضد القاعدة بعد 11 أيلول، وضد “داعش” بعد 2014. في الحروب السابقة على القطاع، كان العدو يقول إنّ هدفه هو “جز العشب”، أي القضاء على تنامي قدرات المقاومة. أما اليوم، فما يرمي إليه هو اجتثاث المقاومة من جذورها.
الولايات المتحدة تريد انتصار “إسرائيل” لسبب استراتيجي أيضًا، ألا وهو تصفية القضية الفلسطينية لفرض اتفاقات التطبيع بهدوء، ودمج “إسرائيل” في “محيطها”، في إطار ترتيب الإقليم ليلائم سياسات هيمنتها على العالم.
لأجل ذلك كله – عدا عن أصل الواجب الأخلاقي والإنساني والديني والقومي – قتالنا إلى جانب اخوتنا في غزة هو فرض عين. مهما كان شكل هذا القتال وتوقيته. نحن أمام خيارين إنقاذيين:
1- التهديد بالحرب، مع إظهار إرادة تفعيلها، لدفع العدو الأمريكي إلى إجبار “إسرائيل” على خفض سقف أهداف الهجوم على غزة (من “تغيير الشرق الأوسط” إلى معركة إجرامية ترويعية)، خشية هزيمة تاريخية تلحق بها.
2- دخول الحرب إلى جانب الاخوة في غزة، بالطريقة والتوقيت اللذين تختارهما قيادة المقاومة، في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران (الدول التي سمّاها قائدنا في هذه المعركة، محمد الضيف)، لضمان عدم إلحاق العدو هزيمة “حاسمة” بالمقاومة في فلسطين.
يبقى الخيار الثالث، أن يدخل جيش الاحتلال إلى غزة برًّا، وأن يلقى قتالًا ضاريًا – هو ما سيجري بطبيعة الحال – بما يؤدي إلى سقوط جنوده وضباطه بالآلاف. لكن هذا الخيار يُعد بذاته مخاطرة كبرى، بعد استدعاء 300 ألف جندي من الاحتياط، وإبداء العدو استعدادًا، ولو لفظيًا، لدفع ثمن كبير لقاء التخلص، نهائيًا، من المقاومة الفلسطينية بشكلها الحالي. فبعد سقوط أكثر من ألف قتيل إسرائيلي في معركة “طوفان الأقصى”، ربما يكون المجتمع الصهيوني مستعدًا لتحمّل أضعاف ما كان يتحمّله من خسائر بشرية في الحروب السابقة، إذا كان المقابل هو الهدوء لعقود مستقبلًا. قادة الكيان، من سياسيين وعسكريين، هم في اليوم التالي للحرب تحت مقصلة لجنة التحقيق التي ستبحث في أسباب نجاح “طوفان الأقصى”. وهذه المقصلة لن تشجّعهم على التراجع، بل ربما تجعلهم أكثر تصميمًا على تسجيل انتصار يمحو عنهم عار “الطوفان”.
غزة ليست وحيدة
في ما أقوله هنا، أجدني أبسّط الأمور إلى حد كبير. فالقرار، مهما كان، أشد تعقيدًا من انفعالاتنا. تدخل في الحسبان أوضاع كل فريق وبلد، المخاطر والتهديدات، المكاسب والفرص، موازين القوى، حدود القوة، تقديرات الكلفة والأرباح… في مواجهة دول نووية تملك جيشًا (الأمريكي) يحتل الكوكب برمّته. واقعيًا، يحتلّ الكوكب، لا مجازيًا.
لكن، رغم ذلك، لا يمكن أن تُترك غزة وحيدة.
الجبهة اللبنانية مع فلسطين فقدت هدوءها. وهي تُشغِل نسبة كبيرة من عديد قوات جيش الاحتلال. 4 عمليات لحزب الله، عملية للجهاد الإسلامي، وعملية إطلاق صواريخ لحركة “حماس”. وربما وصلت إحداها إلى ديمونا! هذه العمليات العسكرية التي نفذتها المقاومة اللبنانية والفلسطينية انطلاقًا من لبنان تنبئ بإمكان الارتقاء إلى مستوى أعلى من التصعيد.
الجبهة السورية تحركت. قبل يومين، أطلِق صاروخ من لبنان وآخر من سوريا، باتجاه هدف منعت الرقابة العسكرية في جيش الاحتلال نشر أي معلومات عنه.
المواقف الصادرة من اليمن والعراق وإيران تمنح المقاومة عناصر قوة تحتاجها في المواجهة.
وتيرة التصعيد من خارج فلسطين تتحكّم بها قيادة المقاومة في لبنان، بالتنسيق الكامل مع قيادة غزة، ومع حلفائهما في الإقليم. وتلك الوتيرة مرتبطة بمسار الحرب على غزة بالدرجة الأولى. بكلام أوضح: الإشغال على الحدود اللبنانية – الفلسطينية مستمر، لمنع العدو من حشد كل قواته القتالية النخبوية في جنوب فلسطين. مستوى الإشغال سيرتقي. لكن فتح الجبهة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، يتمّ بناءً على طلب قيادة المقاومة في غزة، متى رأت أن قدراتها الرئيسية باتت في خطر فعليّ.
في العام 2006، تحدّثت الولايات المتحدة الأمريكية عن ولادة شرق أوسط جديد، إلا أن المقاومة منعتها من استيلاده. بعد “طوفان الأقصى”، قال بنيامين نتنياهو إنه يريد من الحرب على غزة “تغيير الشرق الأوسط”. رئيس وزراء العدو محقّ في هذه. شكل بلادنا ومستقبلها تحدّده نتائج الحرب على غزة. لكن تلك المقدّمات التي سؤدي إلى تلك النتائج ليست من صنع الأعداء وحدهم.
إنّ دعم اخوتنا في غزة، مهما كان شكله، وصولًا إلى القتال إلى جانبهم، هو واجب (فرض عين)، مهما كانت أوضاعنا سيئة. لا فضل لنا في ذلك، فهذه معركتنا أيضاً. هذا دفاع عن أنفسنا.